الاستغراق في الدعوة

م علاء فهمي

ومن الدروس الجلية في سورة يوسف عليه السلام أنك ترى الداعية حين تستغرقه الدعوة ، فترتب الأولويات بالنسبة له ، وتؤخر دائمًا حظ نفسه ومطالبها ؛ فعندما توجه زميلاه في السجن له بطلب تأويل الرؤى ، بادرهما أولا بالتذكير بنعمة الله عليه ، ثم بحقيقة التوحيد ، ثم بتأويل الرؤيا ، ثم تذكر طلبًا شخصيًّا لنفسه أخّره في نهاية الجولة الدعوية ..

وتميّز يوسف عليه السلام في هذا البيان للدعوة ، وحيث أنه أولا وأخيرًا داعية في سبيل الله ، يعمل الخير ويبذله ويبذره في كل مكان وفي كل وقت وحين ، ولأن هذا العمل لله فلابد دائمًا أن يكون مصحوبًا بالشرح والتوضيح للعبودية لله وحقيقتها ، ولا يُتصور في حقه كداعية أن يكون مجرد بنك مساعدات أبكم وأصم ،

ومن ثم تعلمنا من أساتذتنا أن يكون سعينا في العمل الخيري مصحوبًا دائمًا بالدعوة إلى الله ، وتذكير الناس به ، حتى لا يتحول إلى مؤسسة مساعدات إنسانية وكفالات مجانية مفصولة عن الهدف الأساس الذي يتجشمه الداعية من عمله وبذله في هذه الميادين ، وإلا تحول لموظف حكومي في مؤسسة حكومية بيروقراطية ..

ورأينا استغراق الدعوة له عليه السلام مرة أخرى في مقابلته لساقي الملك ، والذي أنساه الشيطان توصيل طلب يوسف عليه السلام بتذكير الملك أن هناك إنسانًا محبوسًا ظلمًا ، ومفترًى عليه بأكاذيب ،

والغريب أنه نسي الطلب بضع سنين لا شهرًا ولا شهرين ، ومن ثم استبق سؤاله ليوسف عليه السلام بمدح يحمل في طياته طلب المسامحة : “يوسف أيها الصديق” ، فحيث أنه من يصدق فعله قوله ، ومن تسمو عقيدته على حظ نفسه ، فمن ثم فهو أهلٌ لأن يسامح ويتغاضى ويصفح ، طالما كان التقصير في حق نفسه لا في حق ربه ،

ولم يشك الساقي لحظة في ذلك ، ومن ثم سأله وطلب منه الرأي بمنتهى الثقة أنه لن يخذله ، وأن تقصيره ونسيانه لطلبه القديم لن يكون سببًا في حجب علمه ومساعدته لاستنقاذ البلاد والعباد ..

وكان يوسف عليه السلام عند حسن الظن فقدم المشورة واضحةً ومباشرة ، غير مصحوبة بطلب شخصيّ ، أو استفسار واستفهام عن موقعه المنتظر ..

وبعد انتهائه من تقديم المشورة والبيان وخريطة الطريق ، وجدنا استغراقه في الدعوة يسبق إجابته لطلب الاستدعاء من الحاكم ، فكان الرد الغير منتظر من سجين قبع في السجن بضع سنين ، “ارجع إلى ربك فاسأله …” ، فقبل أي مكافأة أو تكريم أو منصب لابد من بيان حقيقة الداعية والدعاة ، وبيان طهارتهم وبراءتهم من الأراجيف والاتهامات ، وإلا صاروا عنوانًا للانتهازية والباحثين عن السطوة والمال

دروس موجهة للجميع ليستفيد ويكمل سيره على نفس الدرب من تجرد وإخلاص

التلقي للتنفيذ

فليس هذا الكلام لمصمصة الشفاه ، أو للعلم والإحاطة ؛ بل لاتخاذ اللازم ، وجعله منهجك في الحركة وفي الحياة …

“قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ، أنا ومن اتبعني ” ..

“لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به” ..

“لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب ، ما كان حديثًا يُفترى ، ولكن تصديقَ الذي بين يديه ، وتفصيلَ كلِّ شيء ، وهدًى ورحمةً لقوم يؤمنون” ..

إذا كانت الدعوة استغرقت يوسف عليه السلام فقدّم شرح عقيدة التوحيد وإجابة سؤال صاحبيه على طلبه الشخصي الذي أخره للنهاية ، فأنا وأنت مطالبان بأن نحذو حذوه ونرتب أولوياتنا واهتماماتنا ..

وإذا كانت الدعوة استغرقته حين لجأ إليه الناس أملا في أن يعلموا ، فقدم إجابة سؤال الساقي لتأويل رؤيا الملك عن إثارة حالته الشخصية ، فكذلك الداعي يجب أن يكون مع مشاكل الناس قبل مشاكل نفسه ، لأن ما ذكر في القصة عبرة لأولي الألباب وليس تسلية وقتل فراغ ..

وكما استغرقته الدعوة عندما استدعي إلى الملك ، فطلب من الرسول أن يعود إليه ليحقق واقعة تقطيع الأيدي وما لاكته الألسنة بشأن كيد النسوة ، ولم يسارع بالخروج من السجن إلى الحرية إلا بعد أن يبرئ نفسه ، وهكذا الداعي يجب أن يكون أبيض الصفحات بعيدًا عن الشبهات ..

وكما حسمت السورة طريقة التعامل مع الآيات والقصص القرآني في آخر آية ، فقد سبق وحسمتها ووضحتها في أولها : “الم . تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآنًا عربيًّا لعلكم تعقلون. نحن نقص عليك أحسن القصص ، بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وإن كنت من قبله لمن الغافلين” ..

ورحم الله الأستاذ سيد قطب عندما كتب فصل “جيل قرآني فريد” في رائعته : “معالم على الطريق” ، شارحًا ما خرج به من أسباب تفرد ذلك الجيل الفريد ، جيل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف تعاملوا مع القرآن ، وكيف كان تلقيهم له تلقيا للتنفيذ ، وكيف ترجموه عملا وانضباطًا في حياتهم ، وكيف كان الواحد منهم لا ينتقل لحفظ آية جديدة إلا بعد استيعابه الآية السابقة فهمًا وعملا ، رضي الله عنهم أجمعين ..

لابد أن نبني نظرتنا للمجتمع وللناس على ميزان القرآن الكريم ، لا على تصوراتنا ومشاعرنا الشخصية ، أو على نقمتنا وغضبنا منهم إزاء تصرفاتهم ، أو حتى توددهم لنا والتفافهم حولنا ، فقد طالبنا ربنا سبحانه وتعالى أن تكون قصص القرآن الكريم عبرة لأولي الألباب منا ، فنأخذ منها الهداية ، ونتشرب منها الرحمة ..

ندعو إلى الله على بصيرة ولا ننسحب من الميدان مهما رأينا من وضع الناس :

“وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ” ، أو : “وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون” .