ها هو العام يلملم أوراقه ويذهب سريعا مثلما جاء؛ وهذا العام الذي نقصده هو توقيت ميدان الثورة، فقد مرت علينا حتي الآن ثمان سنوات ثورية، مشحونة بالأحداث والأعمال والخطط والفعاليات، ويمكن القول أن سؤالا من أهم الأسئلة يطرح نفسه مع كل ميلاد لعام ثوري جديد، وهو:”ما هي الرهانات التي يمكننا أن نعتمد عليها كبداية جديدة لمحطة ثورية أكثر فعالية وأوفر إصابة لأهدافها..؟”..والحقيقة أني بحكم عملي الصحفي ألقيت هذا السؤال علي العديد من المحللين وخبراء السياسة والتخطيط، ولكن قناعة ما لم تكتمل بالكثير مما أدلو به من آراء رغم أهيمتها؛ فدائما هناك شيئا مازال مفقودا أو غائبا يمكنه أن يكون هو المثقال المضاف في كفة الرجحان..ولكن يا تري ما هو..؟
فلتكن ثمة رحلة خاطفة عابرة لضفاف الكتب والأفكار نبحث فيها عن هذا الذي هو أكبر ما نعول عليه ونراهن، وذلك بالطبع بعد مشيئة الله تعالي وإرادته..
*
لن نذهب بعيدا في أعماق التاريخ القديم، بل سنقف هنا وفي القاهرة نفسها، حيث فتح “جمال الدين الأفغاني” بيته أمام كل الراغبين في الأفضل لبلادهم وأوطانهم؛ فأخذ يقرأ عليهم الكتب، ويحثهم علي الفهم والتعلم، يحفز في داخلهم المواهب الكامنة، ويشجعهم علي قرض الشعر والزجل وكتابة المقالات والأدب والفكر؛ حتي أنه كان يترك لهم الحرية في كتابة ما يقوله هو من أفكار وآراء بألسنتهم وأقلامهم هم وبتوقيعهم أيضا حتي يمتلكوا ناصية من المبادرة علي مواجهة الجماهير والتعبير عن الآراء البنّاءة الجديدة..
تُري، علي ماذا راهن “الأفغاني” إذن هذا القادم من بلاد بعيدة؛ إن تلك الجلسة ومن بين أعضاء هذا الفريق الذي شجعه “الأفغاني” واستحثه علي الكتابة والتفكير خرج القادة وأهم الشخصيات المؤثرة في ثورتين من تاريخ مصر الحديث، هما الثورة العرابية وثورة 19، فهل يمكننا إلتقاط طرف من خيط عن حقيقة هذا الرِهان؟


نستمر في رحلتنا شيئا ما، وهنا نجد لدينا “سن تزو” أحد أهم واضعي علم الإستراتيجيات الحربية والتي أخذها عنه الكثير من الأكاديميات الحديثة في الدراسات العسكرية وفي التخطيط والإدارة بشكل عام، يقول في كتابه “فن الحرب”:”القتال والانتصار في جميع المعارك ليس هو قمة المهارة، التفوق الأعظم هو كسر مقاومة العدو دون أي قتال”..
لتضع نفسك الآن في مكان العدو أو الصديق داخل إطار تلك المعادلة، ففي الحالين ستفهم أن الانتصار لا يتعلق بلحظة تثبيت الأكتاف للطرف الآخر، وإنما الأهم هو السيطرة علي الإرادة بما تعنيه من احتلال وجدان الخصم، بحيث ينظر إلي نفسه نظرة المنهزم ويراك جيشا كثيفا كثيرا تتجدد قوته ولا يفني..وبناء علي ذلك يكمل “تزو” في تعاليمه فيقول:”الحرب المثالية هي الحرب السريعة، فالحرب الطويلة استنزاف للمنتصر كما هي للخاسر”..وبالعودة إلي لغة احتلال الوجدان السابقة، يكون الاستنزاف الوجداني هو أهم المعادلات في المعارك التي يطول زمانها، وهو أمر يحدث للأطراف جميعها، وعليه يكون الثبات أو الإتزان الانفعالي العاطفي والفكري هما أدوات الفعالية الأهم..وإلي هنا هل نستطيع لملمة بقية الخيط؟


يقول “مالك ابن نبي”: تحت عنوان أنشود رمزية في مطلع كتابه “شروط النهضة”: “ستحمل اشعاعات الصباح الجديد، ظل جهدك المبارك، في السهل الذي تبذر فيه، بعيدا عن خطواتك، وسيحمل النسيم الذي يمر الآن البذور التي تنثرها يداك … بعيدأ عن ظلك، ابذر يا أخي الزارع من أجل أن تذهب بذورك بعيدا عن حقلك، في الخطوط التي تتناءى عنك في عمق المستقبل، ها هي بعض الأصوات تهتف..الأصوات التي أيقظتها خطواتك في المدينة، وأنت منقلب إلى كفاحك الصباحي، وهؤلاء الذين استيقظوا بدورهم، سيلتئم شملهم معك بعد حين..”..
إن “ابن نبي” هنا يغني لهذا الذي يتغير قبل أن يغّير، لمن يتحرر من داخله حتي يكون جديرا بحرية يستحقها لا عابثا يلهو بها فتحرقه أولا، ثم يبشرنا ختاما أن خطوات السير في الطريق كفيلة بأن توقظ الجميع تباعا حتي وإن بدا غطيطهم العميق، فأغلب هؤلاء النيام لن توقظهم الخطوات المنفصلة المتقطعة، وإنما سيحفزهم للوثوب خطوات دائمة متتابعة موقنة بالوصول وبالطريق..، وهكذا فمن الواضح أن خيط الرهان قد بات أكثر جلاء..
إن “الإنسان” صاحب هذا الفكر، وذاك الوجدان، وتلك الإرادة إنما هو الرهان الأكبر، وعليه بشكل مباشر يضع الخصم مخططاته ويحيك مؤامراته؛ فهو يوقعه في شباك اليأس من جهة، ويشغله بتفاصيل الحياة اليومية اللاهية من جهة أخري، فإذا هزم “الإنسان” هذا وذاك، وألقي بعباءة القعود والقنوط جانبا يكون بذالك قد أفشل مكائد خصمه، وبدأ في إضافة المثاقيل للميزان..
يقول “روجيه جارودي” في كتابه “حفارة القبور”:”يكفي أن نعتقد أنه ليس هناك ما نستطيع أن نفعله والتصرف علي هذا الأساس- أو بالأحري عدم التصرف-حتي نكون قد تخاذلنا واستسلمنا..”..


إن هذا الذي يراهن عليه الجميع؛ الخصم والصديق في وقت واحد، إنما هو “أنت” والطريق أمام ركضك طويل وليس ممهدا، ولكنه في الوقت نفسه ممتعا ومليئا بأريج السكينة وشذا الإطمئنان..
ومن المهم القول هنا أن خبرة ما من أفواه الراكضين من قبلنا، قد علمتنا أن هذا “الإنسان” المُرَاهن عليه ليس كتلة أو لونا واحدا من حيث شدة أو ضعف فعالية علاقته بالميدان، بل هو درب متصل ممتد بين خبرات إنسانية ثلاثية الأبعاد..أولها: إنسان “الأمة”..وهو هذا النمط الفريد الذي لا تراه يحيا سوي من أجل تلك الأمة وإعادة بنائها، يتمثل مشكلاتها ويدرك أبعادها عن علم ودراسة ووعي، وهو بعد هذا إنسان فاعل مغوار لا يكتفي بأن يحيط بثغر أو بضعة ثغور وإنما هو منشيء الإلتفات بالأساس إلي تلك الثغور، يزيد علي ذلك بأن يكون ملهما لغيره، يشحذ الههم، ويوقظ العزم، ويكشف الطريق أمام السائرين من حوله، فهو يعيش دائما بمشاعر “المسئول”، تتحدد خططه وطموحه وأحلامه مع تلك الأمة ومستقبلها بل وكذلك أدوارها وواجباتها تجاه باقي الأمم..
أما الخبرة الثانية فهي إنسان “الرشد”؛ وهو هذا الذي بلغ غاية الأمر في المهمة و الثُّلمة التي هو عليها، يتقنها ويبدع فيها، ولا يهدأ باله حتي يكون هو العلامة والقبلة لهذا التخصص الملقي علي عاتقه، يسد علي الخصم كل باب للوثوب من تلك الفجوة، يعرف فقه الأمانة ويؤديها بنشاط، لا يكل ولا يمل في تأدية واجبه ودوره..
وأخيرا نجد إنسان “الصبر” وهو هنا إما شخص مرابط يحسن آداء مطلوب تفصيلي ذي أبعاد محددة الملامح؛ فهو يتقبل العمل في همة، ويسلمه علي الوجه الائق، وإما شخص تبقي علاقته مع ميدان الحركة علاقة المطمئن غير الجزع، الواثق في الطريق، والمستشبر بما هو أفضل دوما وأبدا..
والحقيقة أن هذه المعاني الثلاث للإنسان المراهن عليه هي جميعها طرق ومداخل لتربية الإنسان الحركي المجاهد، وليست نقاطا يمكننا أن نجزم بها لأحد؛ خاصة أنها صفات قرآنية جاءت كنعت إلهي لأنبياء كرام، ولذا فهي دروب لسير التابعين لهم والمؤمنين بهم، وعلي التخوم بين تلك المحطات الكثير والكثير من الصفات الأخري التي تكون كالزاد علي الطريق والمؤهلة للإقتراب من محطة أعلي ثم الذي يليها وهكذا..ويمكن النظر كذلك لتلك الخبرات الإنسانية علي أنها دوائر متقاطعة لما بينها من تداخل كثيف، ولما تتسع له المساحات البينية بينهم لجمع أكثر من خبرة إنسانية أخري..والمهم في الأمر أن عين هذا الإنسان المراهن عليه تكون يقظة مترقبة واعية بأية نقطة يقف، وما هي الخطوة التالية التي يريد أن يخطوها، لأن القعود عن الإرتقاء نكوص وليس ثباتا، كذلك الوعي بأنه لا محطة معتبرة تنحدر بعد عدم الجزع، بل هو الخطر بعينه ومنه يبدأ الخذلان ويبدأ الخصم في عد نجاحاته..