الشعوب وسياسة تخديرها فكرياً

بقلم : يسرى المصرى

لا شك في أن بناء العقول بوعي حقيقي يبني ويجمع البشرية؛ ليثمر طريقاً كلها ثمار واقعية- أمر ليس بالهين! فالوعي جهاد لا شوكة فيه، ويكفي هذا الوصف؛ لنعلم أهميته القصوى، وفي الوقت نفسه ندرك حجم التآمر الدولي، والمكر المركب للكثير من أجهزة الإعلام الناطقة باسم السلطة، والحكام الذين يسعون بلا كلل أو تعب لتخدير شعوبهم بالخطاب العاطفي المفلس. فقط، بلا عمل أو تقدم أو نهضة حقيقية، لكن سجون وقيود وتنكيل وتحويل الأوطان لركام ومظالم.

 

ولما كان “التخدير الطبي” يمهد للتدخل وعلاج المناطق المصابة بحرية ويسر، ويضمن الصمت والسكوت، أو حتى عدم الاعتراض أو الحركة، فإن التخدير الفكري للشعوب يؤدي المهمة نفسها.

 

إن “التخدير” بشكل عام هو: “تعطيل الإحساس بدواء مخدّر”، وفي حالتنا الفكرية فإنه “استعمال الخديعة والمكر، ولكن بخطاب خيري عاطفي يدغدغ المشاعر، ويوحي لمن يسمعه بالصدق والتجرد التام؛ من أجل مصالح الشعب مصحوباً بكثير من القَسم والوعود الكاذبة!”.

 

وهذا التعريف -واقعاً- نراه في مجتمعاتنا العربية، وبعض الحكام الذين لا يملكون رصيداً حقيقياً إلا خطاب المكر والابتسامات الصفراء، والأيمان المغلظة الكاذبة، وهو -في نظري- قمة التخدير، إضافة لبراعتهم في الأداء والظهور باحترافية كبيرة، تجعل المُشاهد يتمنى لو يخلع ثوبه الوحيد؛ ليعطيه لذلك الحاكم بدعوى “حب الوطن”، وعلامة عشقٍ مصحوبة بالدعاء له بالتوفيق وطول العمر، وطبعاً لا ينسى المتابع والقارئ والمُشاهد أن يبرر لهذا الحاكم فشله وضعف سياسته؛ بدعوى أنه ليس في الإمكان أكثر مما كان.

 

إن وسائل الإعلام في منطقتنا العربية كانت -وما زالت- رأس حربة في تدمير العقول، وتزييف الوعي، وتجريف الأفهام، وتخدير الشعوب على مدار الساعة، وبكل همة ونشاط يُحسدون عليه، وكأنهم أصحاب حق في الوقت الذي كسل فيه كثير من دعاة الحق والوعي عن القيام بدورهم الفكري والريادي في تصحيح مسار هذه الأمة الثكلى، والتي تتعرض للضياع والهوان منذ قرون.

 

إن رسالة الإعلام تحولت من أدوات لبناء الشعوب وتثقيفها إلى رسالة خراب وتدمير، ولذلك فعلى كل صاحب قلم، وعقل، ووعي أن يستنفر قدراته وملكاته، ويوظف طاقاته حتى ننقذ ما تبقى من مفاهيم وقيم غُيّبت بفعل سحرة فرعون الذين زينوا الباطل، وجعلوه هو الحل والنجاة.

 

لقد بذل دعاة “التخدير الفكري”، وتغييب الوعي من الغرب، وأجهزته البحثية، وبعض الحكام وأجهزتهم الإعلامية في بلادنا جهوداً جبارة؛ لجعل هذه الأمة خاوية لا حراك فيها، جساد ضخم لكنه مشلول الحركة والإرادة! وذلك عبر غرس عملاء يزينون للناس الخوف والجهل على أنه تقدم وحياة آمنة، وأن مجرد التفكير داء عاقبته الهلاك، وصاحَب هذه ماكينة إعلامية جرفت العقل العربي، وبدعم لا محدود من كل أولئك الذين لا يرون الشعوب العربية إلا رعاة للشاة، ولا معرفة لهم بما يدور في هذا العالم.

 

ورغم هذا انتفضت الشعوب في لحظة وعي حقيقة، وأزالت طغاة، وأحدثت واقعاً جديداً سمّوه “الربيع العربي”، وإن كان قد تعثر هذا الربيع في بعض البلدان بفعل “مكر الليل والنهار”، لكن تبقى جذوة التغيير والوعي، وإبطال مفعول التخدير، لا تزال قائمة في صمود الأحرار، وإصرارهم على استكمال ثوراتهم كما في مصر واليمن وليبيا وسوريا.

 

 

إن التخدير الفكري هو عبث، وفساد، وإفساد تدفع فاتورته الأمة بأسرها، والعلاج منه قد يطول، خصوصاً أن من يخدروننا من أصحاب النفَس الطويل، ولديهم الملكات والطاقات كافة، وبارعون في التوظيف. ويا للعار، حين يكون أعداؤنا متخصصين، ويقدرون المواهب والإمكانات؛ بل يوظفونها بحرفية شديدة، وغالبيتنا لا يقدّرون أو حتى يهتمون بالبحث عن مواهب أبنائنا!