المقاومة بالحفاظ علي الهوية
بقلم/ سكينة إبراهيم
تتعانق مآذن المسجد مع منارات الكاتدرائية، ويجري الاحتفال بهما في اليوم واللحظة نفسها، ثم تنطلق الترانيم في أنشودة متقاطعة مع الإبتهالات يصحبهما صور متتابعة لتلاحم بين الصلبان من جهة والأهلة من جهة أخري. يخطب الشيخ في الكنيسة ويلقي البطريرك موعظة في الجامع الكبير..!
وما سبق لا يجب قراءته منفردا؛ وإنما يسعنا أن نضعه جنبا إلي جنب مع العديد من الأحداث والظواهر الأخري التي سبقته علي مدي سنوات الانقلاب؛ ومن ذلك الإعلان عن قرب إلغاء مادة التربية الدينية والاستعاضة عنها بمادة عن “الأخلاق”، وإلغاء صوت دعاء الركوب من الرحلات الجوية في مصر للطيران، ومحاربة المساجد سواء بضمها للأوقاف أو بالإصرار علي غلقها عقب تأدية الفريضة مباشرة، ووضع شروط مكثفة ومتابعة أمنية لمن أراد الإعتكاف في رمضان، ومحاربة وتشويه مكبرات الصوت التي كانت تصدح بالقراءة في صلاة التروايح، وتأميم خطبة الجمعة وجعلها حدثا مركزيا تنظمه خطة وزارية لا مناص من الإلتزام بها، بل وتحديدها بميقات قصير لا يتم تجاوزه…، سبق ذلك بالطبع بالطبع حرق المساجد، وإغلاقها، والتعدي علي أئمة وعلماء دين وقتلهم أو اعتقالهم وتعذيبهم وإحفائهم القسري، فضلا عن تشويه الدراما والفن والرواية لصورة رجل الدين المسلم والحرص علي عرضه في شكل إما يبعث علي التندر والضحك و يجعله مادة للسخرية والتهكم، أو تجسيده في نمط المدعي الأفاك الذي يتكسب من وراء دين لا يعتقده بصدق وإيمان..
إننا أمام ظاهرة واضحة كمشرق الشمس إذن، فتفريغ الإنتماء الإسلامي للدولة والمجتمع المصري يتم عبر خطوط متوازية ومتلاحقة؛ بحيث لا يعتمد علي لون واحد من مخططات الهدم والإقصاء المباشر، فربما كانت تلك المباشرة رغم علاتها الكثيرة التي تُحاك؛ إلا أنها لا تكفي لإقتلاع ذلك الجذر الثابت المتين للإسلام من قلوب المصريين وعقولهم؛ ومن ثم فقد كانت الخطة الموازية هي تلك المحاربة التحتية الغير منظورة والتي تتم عبر الكلمات المعسولة وتتخفي خلف قيم وسلوكيات هي من صلب ذلك الدين ولا يمكن فصمها عنه، فالأمر بعيد كل البعد عن معني الوحدة الوطنية والإلتحام والتآلف الشعبي، خاصة أن أولي خطوات الانقلاب كانت بث الفرقة والفتنة بين المصريين جميعا.
إن الخطة البديلة الآن تتم عبر تحويل الإسلام إلي مجموعة من المظاهر الخلابة موقعها في الأساس عالم الأشياء-بحسب توصيف مالك ابن نبي لدوائر الإنتماء- وليس القلب أو العقيدة؛ حيث نتحول عن كنه مناسك العبادة ومقاصدها الرامية إلي وصل العبد بربه، وإبعاده عن الفحشاء والمنكر، ونلقي بالنا وتركيزنا إلي تلك الأبنية المتسعة الشاهقة المزينة. وبدلا من إنزال القرآن الكريم منزلته الواجبة بتلاوته وتدبره وتفعيله كمنهج وقواعد كلية حاكمة؛ ننظر إليه في بوتقة متماثلة مع الابتهالات والمنتجات البشرية بحيث لا يعدو الأمر عن مجرد الصدح الطيب بأصوات عذبة، يتجه معها الفرد إلي مواطن الطرب وجماليات الآداء، لا إلي حقيقة المعني وسلوكياته المفترضة، وهذا الأمر يصيد لهم عصفورين في آن واحد؛ فهو من ناحية يعمل بالتدرج علي إزاحة حقيقة الإسلام من داخل القلوب، بحيث لا يبقي من ذكره سوي إصدار التنهديات وإبراز الشجن، والنظر إلي فخامة البناء وإمتدادات الأعمدة وأطوال القباب والمآذن. ومن ناحية أخري فإن تحول الدين إلي مجموعة من المظاهر يسهل بعدها إدماجه في معتقد الآخرين، وتماهيه مختفيا خلف شعائرهم الأمر الذي يمهد لإذابته واحتوائه بالكلية ليعلو علي مكانته وموقعه في قلوب المصريين من يريد..!
والأمر بهذا التوصيف ليس بعيدا عن ما يمسي بالنظام العالمي الجديد الذي يسعي لاهثا خلف الإسلام ولا يري له عدوا أشد منه، ومن ثم يعمل جاهدا علي محاربته. وبعد أن عجز عن حرب المواجهة المباشرة والفروسية النبيلة، راح يتخفي خلف مصطلحات ماكرة، مثل تجديد الخطاب الديني، ومحاربة الإرهاب، حتي يسهل عليه أن يجد من بين المسلمين أنفسهم من تخيل عليه تلك الخدع، فيسل سيفه ويقف إلي جوار عدوه مغرَرَا به، أو ربما يسّرت تلك الأساليب للخونة طريق المضي قدما وهم يتشدقون بتلك المصطلحات والمعاني حمّالة الأوجه، كما كانت فضيلة “السلام” ستارا لإفساح الطريق أمام العدو الصهيوني نحو مزيد من التمكن والسيطرة؛ فنال بها ما عجز عنه بالبنادق والقنابل..!


قد يري المتابعون لتلك الأحداث أنها أحد أشكال الإنتهاكات التي يتعرض لها المصريون علي أيدي الانقلاب، ولكني في الحقيقة أراها أخطرها وأشدها علي الإطلاق؛ حيث من المفترض أن يتقدم مقصد حفظ الدين علي غيره من مقاصد الشريعة الأخري، والأهم من ذلك أن كافة ما يمر به مؤيدو الشرعية من انتهاكات لا معني لها إذا أبعدنا عنها حقيقة هذا الدين، وما يقدمه لنا من تفسيرات لوجودنا وحياتنا وارتباطها بفكرة حمل الأمانة وتحقيق الإستخلاف وبناء الأمة الوسط، وكل ما يتعلق بذلك من قيم أخري؛ حتي أن حب الوطن والتفاني في الدفاع عنه إنما هو كذلك من بين قيم وأخلاق هذا الدين. وأهمية ذلك بعد ضبطه لسلوكنا وأفكارنا، هو أن يكون لكد وبذل حياتنا تلك معني في المآل الخاتم، فيكون لمعاناتنا أجر، ولشهدائنا الجنة-بإذن الله-، وللعدالة التي نفتقدها قصاص حق. وعلي ذلك يكون التمسك بالإسلام كدين ومعتقد وفكر وحركة ومنهج إنما هو في الأساس من صلب مقاومة هذا الانقلاب الذي يريد أن يقدم مصر بمن فيها هدية سائغة للأعداء المتربصين، فيجد حينها بشرا بأفئدة باردة لا إيمان يشعل جذوتها، ولا كراهية لفساد أو احتلال يلهب مقاومتها..
حدثنا التاريخ عن أن 74 عاما من الاحتلال البريطاني لمصر لم يتسطعيوا أن يغيروا لغتها الأم إلي الإنجليزية، وكذا حكم الشيعة الفاطميين مصر نحو 200 عاما، ومع ذلك لم يتشيع المصريون، وظلوا علي مذهبهم السني. وفي المقابل احتضن المصريون الفتح الإسلامي، وناصروه، ودخولوا في هذا الدين الخاتم أفواجا، وبمرور الوقت أصبحت العربية لغتهم الأساسية، وهو الأمر المستمر منذ 1377 سنة إلي وقتنا هذا بفضل من الله تعالي.. وهذا الإيمان لا يصح أن يتضعضع أو يختل الآن علي يد تلك العصبة الفاسدة، وإنما علي المصريين أن يقاوموا للحفاظ علي عقيدتهم؛ بل هم جديرون أن يكونوا سفراء لها في كل مكان..والحفاظ علي هويتنا الإسلامية إنما يكون بداية بفهم حقيقتها من جهة، وإحياء شعائرها ونسكها من جهة أخري، وبدون ذلك فلن يكون ثمة أي معني لكل تلك المآسي التي تحيط بنا، ونكون بذلك قد دفعنا للانقلاب ثمن سيطرته علينا في الدنيا بما نعانيه من انتهاكات وضيق الحال، وفي الآخرة إذا بددنا ديننا وفرطنا في حقيقة الإيمان به..