بقلم / إيناس الشواربي

إن لم تفعل مع أبنائك سوى أن تزرع خشية الله في قلوبهم، وتربط لهم مواقفهم في الدنيا بموقفهم بين يدي الله يوم الحساب، وإن لم تعلمهم من السنة سوى قول الله عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي، إنَّما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثمَّ أوفِّيكم إيَّاها، فمَن وجد خيرًا فلْيَحْمِد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفْسَه» [أخرجه مسلم]؛فنم قرير العين مطمئنًّا، إذ بذلك تكون قد اجتزتَ بهم المهالك، فلولا الخشية ما ثبت إيمانٌ، ولا استقامت جوارح.

كلُّ ما تقوله لهم من توجيهات ومبادئ وأنت بينهم، سيذكرونه لك حين المغيب. ودائمًا – شئنا أم أبينا- يظلُّ الولد ابن أبيه، وإن كان الأمر لا يسلم من بعض الشَّطَطِ والميل في سنِّ مراهقتهم ووقت عنفوانهم، وتظلُّ البنت شبيهة أمِّها، وإن لم يبدُ لنا ذلك في صغرها. سيأتي على أبنائك ذلك الزمان الذي فيه يتذكَّرون كلَّ خطبك ومواعظك التي كنت تعظهم بها، وسيعودون حتمًا إلى أصولهم وقِيَمهم، سيكونون مِثلك في أخلاقك ومبادئك، بل يحدث كثيرًا أن يتفوَّق الأبناء على الآباء، فيكونون أفضل وأكثر طهرًا ونقاءً، وتكون لهم مواقفُ تشرِّف آباءهم وتُبهرهم في أوقاتٍ عصيبة ولحظاتٍ فارقة، يكون فيها الإنسان إنسانًا ذا قيمة وهيبة في عين نفسه، وفي عيون الناس جميعًا.

أنا إن نسيت في حياتي ما نسيت، فلست أنسى أبدًا أمي أكرمها الله، وهي تضرب أختي وتنهرها بقسوة؛ لأنها نقلت إلى جدَّتي كلامًا سيِّئًا قالته إحدى القريبات عنها، ورغم صغر سنِّ أختي وقتها إذ لم تكن تتعدَّى الخامسة من عمرها، ولا تدرك خطورة ما فعلت، فإنَّ أمي كانت تقول لها تلك الجملة التي أضاءت لنا طريق تربيتنا لأنفسنا ولأبنائنا فيما بعد، وهي: «مهما سمعتِ ومهما رأيتِ، لا تَنقُلي ما يفسد بين الناس أبدًا».

ولن أنسى أبي – رحمه الله- الذي كان يأتيه مَن استدان منه بعض المال ولم يردَّه، فيعطيه أبي مرةً أخرى، ويقول لأمي: «هذا مسكين صاحب عيال، لن أطالبه ولن آخذ منه ما أعطيته».

مثل هذه المواقف هي التي تبقى في نفوس أبنائك، وتظلُّ ترافقهم طَوال حياتهم، يفتخرون بها، ويحكونها لأبنائهم، ويزرعونها داخلهم لتؤتي ثمارها معهم، كما آتت ثمارها معك.

قال لنا رسول الله : «العِرْق دَسَّاس»(رواه الديلمي في مسند الفردوس، وضعفه العلماء)،ولذلك ستظلُّ تربِّي أبناءك في كلِّ مراحل حياتهم، حتى تفارقهم، ستظلُّ تصرخ بقيمك ومبادئك في وجوههم، ليعضُّوا عليها ولا يغيِّرها داخلهم خُذلان ولا طبائع سوء يصطدمون بها. هم ينجذبون إلى الانتقام لأنفسهم والتغيير إلى الأسوأ، وأنت تجذبهم جذبًا عنيفًا إلى أصولهم وأخلاقهم التي ربَّيتهم عليها، ويظلُّ هذا الصراع باقيًا حتى نهايتك، وفي جميع الأحوال أنت المنتصر، فسيلينون لك، ويطيعونك ويتشبَّثون بما ربَّيتهم عليه من كريم الأخلاق وحسن العبادات وطيِّب الأثر. حتى إذا مِتَّ تذكَّروا وتذكَّروا وحُقَّ لهم أن يتذكَّروا. ستكون شاخصًا أمام أعينهم في جميع أحوالهم، سيذكرونك في ظروفهم الصعبة، ومواقفهم الفاصلة، سيتشبَّثون أكثر ممَّا كنت تتمنَّى بقِيَم دينهم وتعاليم رسولهم الكريم ، ويتشبَّثون بأخلاقك النابعة من خشيتك لربِّك وخوفك يوم الحساب. ستكون قرير العين في الآخرة؛ لأنهم عملٌ صالح لا ينقطع، فها هم الآن يربُّون أبناءهم على ما ربَّيتهم عليه، ها هم يشبهونك كثيرًا إن لم يكونوا نسخة منك، ها هم يناضلون من أجل الحفاظ على مبادئهم، ها هم يجذبون أبناءهم ويمنعونهم من الانحراف والتأثُّر بمجتمع سيِّئ وأخلاق تدهورت وطبائعَ قد ازدادت فسادًا.

رَبِّ أبناءك على أن يَزِنوا أعمالهم قبل أن توزن عليهم، واربطهم دائمًا بالله، وعلِّق قلوبهم برحمته سبحانه، وخوِّفهم ظلمَ الناس ولو بالكلمة، دون أن تُثقِل عليهم بخطبٍ طويلة وتوجيهات ثقيلة وحكايات لا تنتهي، فقط تنبيهات يسيرة في كلِّ موقف يتطلَّب منك تنبيهًا، في كلِّ وقت يحتاجون فيه إلى توجيه منك. لا تَزِدْ على أن تقول لابنك: زِنْ موقفك هذا في الدنيا بموقفك بين يدَي الله في الآخرة. هل يسرُّك ما تفعل أم يسوؤك ويَشِينك؟

ربِّهم على خشية الله، وانظر كيف يكونون، وافرح بنتيجة زرعك، واقطف ثمرتك على مَهَل، ونَمْ قرير العينِ مطمئنًّا.