“عرفة” ..فقه “الأمة” لمواجهة التحديات

بقلم/ سكينة إبراهيم

يوم عظيم هو ذاك الذي يجتمع فيه الآلاف من بقاع شتي في مكان وزمان موحدين. إنه لإعجاز جليل أن يكون ثمة تعبئة شاملة لهذا الخضم المترامي الأطراف نحو هدف بعينه، ورغم أن هناك الكثير مما يمكننا أن نكتبه عن معاني وإسقاطات الحج علي حياتنا بشكل عام، إلا أن تحديات الأمة وآلامها الدامية هي التي تجعلنا نحاول عرض يوم الحج الأكبر هذا علي تلك التحديات في محاولة لإستخلاص أطر ومعان حركية وإتخاذها كفلسفة مرجعية أو كآلية مساعدة في مجابهة التحديات والمظالم..

*****

يحمل يوم “عرفة” رسائل متعددة لتلك الذات الفردية والجماعية العاملة في الطريق؛ أولها هو معني “الرباط” الواضح المعالم هناك؛ حيث يظل الحجيج قياما عند جبل عرفات حتي مغيب هذا اليوم العظيم، فهو وقوف علي المهمة حتي إتمامها، وقوف لا ينفع معه الإنزواء أو العزوف أو التراجع أو حتي التحجج بأية مهمات أخري للحياة، كما لا يَجُبَه أو يحل محله أي فعل آخر مهما كان.

ونحن في طريق بناء مجتمعاتنا نحتاج إلي تلك الفكرة وهذا الإلتزام الجاد والثبات عليه؛ فواجبنا هو الوقوف الدائم علي باب الأمل في التغيير والنهضة، وعلينا ألا نفر من فوقه وألا نمل من دفعه ومعالجته حتي إتمام الأمر، وهذا يضعنا أمام المعني الثاني ليوم “عرفة؛ فـ”الرباط” ليس نزهة أو رحلة ماتعة خالية من المشاق والمتاعب والآلام؛ بل تظل “المشقة” في ذاتها عنوان كبير ليوم “عرفة” ، فمهما تطورت وتحسنت الإمكانيات المادية، ومعها تيسرت سبل ضيافة الحجيج؛ إلا أن هذا اليوم يبقي حاضنا للمشقة الأكبر مشيرا بها إلينا أن هذا الرباط لتحقيق الأهداف واهم من يظنه بلا تضحية وصبر ومعاناة.

أما المعني الثالث في هذا المشهد العظيم، فهو ما نراه من “تجرد” من كل ما سوي الإيمان ومقتضيات العبادة والعقيدة، أما الشخص، الوظيفية، القبيلة، الدولة، والحزب؛ كل تلك الكيانات قد جاءت متحررة نافضة عنها إنتماءاتها الخاصة، ومتخففة من كل ما عدا ذاتها الإيمانية.

ويبدو أن تحقيق هذا المعني من أصعب ما يكون خاصة في هذا العصر الذي تنبري فيه وسائل الإعلام والدعاية للحديث عن الأفراد وإبرازهم، وصناعة رموزا منهم تتيه بها اللألباب، ومن ثم يتخذ الجماهير “الشهرة” قيمة يترجح عندها وبها المفاهيم وليس العكس، و مثل تلك الصناعة الآن من أيسر وأسهل ما يكون، حيث يجد أحدهم في وسائل التواصل الإجتماعي متسعا كبيرا ليكون له جمهورا ومتابعين فيتضخم من إثر ذلك بعض مرضي “الذات”، بل وتنتشر العدوي وتنتقل لمن لم يكن لهم مثل تلك القابلية للتضخم من قبل، وهنا يأتي درس “عرفة” ليعيد الذات إلي الحجم الذي يجب أن تقف عنده، ويبعدها عن مساحة “السراب” الذي يتكون حولها في خضم الحياة وتبعاته اللاهية..

ولأن كل من “الرباط”، وما به من “مشقة” ملازمة ومعهما “التجرد” ليسوا بالأمر اليسير، فقد كان الدرس الإشاري الثالث هو “اللجوء إلي الله تعالي” والتضرع إليه وحده، فـ”عرفة” يوم الدعاء والتذلل والتسليم له عزوجل، يوم لتأكيد التحلل من الحول والقوة وإثباتهما للرحمن وحده، وهو ما تقر عنده القلوب وتهدأ لأن هناك قادر تفوق قدرته كل من ظن في نفسه القوة والبطش، وأنه سبحانه الذي لا تغيب عنه تلك المظالم ووعد بالعدل والقصاص لها في مشهد خاتم جامع.. إنه يوم تجديد اليقين بالحقائق التي لا ينفع معها أو منها مفر..

*****
وبعد..فإننا في طريق الحركة لا نبحث فقط عما يُنهض الذات، بل كذلك عما نخاطب به العدو، ونعمل من خلاله علي دفع مناط الظلم القائم الجاثم علي الصدور..
وإذا عرضنا “عرفة” علي تلك المساحات لنسألها عن المعني المتضمن فيها والذي يمكننا اتخاذه كآلية مرجعية للعمل، سنجد أن مفهوم “الأمة” هو هذا المعني الماورائي؛ فـ”عرفة” رمزية صناعة الأمة كمدخل للنهضة ولدفع الظلم ولمجابهة التحديات، ففي يوم واحد يجتمع المسلمون من كل الأنحاء، يؤازرهم ويعاضدهم بالصيام والتلبية من لم يستطع إلي الحج سبيلا، وغني عن البيان كيف أن فريضة الحج بشكل عام وعرفة علي وجه خاص إنما هما تأكيد علي أن هناك إنتماء تذوب عنده أية إنتماءات أخري وتتلاشي.

فالدين الجامع، إنما نجم عنه “أمة” حاضنة لهذا الدين، وهذه “الأمة” بهذا الإجتماع السنوي ليست تعبر هناك عن كيان أو تيار سايسي، وليست تتحدث باسم دولة بعينها وتترك أخري، كما أنها ليست أفرادا تائهين ضالين، إنما المشترك بين هؤلاء جميعا هو هذا التكوين الذي يفصح عن نفسه بما هو أعلي كل من كل الكيانات والدول والأشخاص والتيارات، إنما هو “الأمة” والتي هي أكبر من مجموع أجزائها مهما كثرت وتعددت تلك الأجزاء..

وقد تحدث الكثير من مفكري المدرسة الحضارية وعلمائها عن معني تلك “الأمة” وأدوارها ووظيفتها، وكيف أنها كانت عبر التاريخ تعي دورها فساهمت –بحسب الدكتور محمد عمارة في جل محاضراته- في بناء كل المؤسسات الهامة وفي تعليم وتربية النشأ، كما أنها كانت تنفق علي هذا من مال أوقافها الخاصة، وكل ذلك بإدارات مستقلة عن كنه الدولة بمعناه التنفيذي السياسي..

إن درس “عرفة” إذن هو في إعادة التأسيس والتأكيد علي معني “الأمة” التي لا تترك قبلتها وإنتمائها الديني، بل تجاهر به وتعلنه كضوء النهار للناس كافة، ثم تتجه بعد ذلك لتحمل كافة تبعات هذا الجهر من حيث هي مهمات بناء، أو تحديات من المتربصين والرافضين والأعداء..

فأما مهمات البناء، فما أيسر الحديث عنها أو الإسهاب في شرح مناهجها ومقاصدها، لكن الإشكاليات الحقيقية سوف تكمن في تلك التحديات علي اختلافها وتنوعها، فهل سنجد مازال في درس “عرفة” المزيد لنتعمله في هذا الإطار..؟!

إن التحاضن والتآزر والإتحاد في هذا اليوم هو أول الآليات في سلم المواجهة؛ فمن الناحية النفسية فإن الألم يذوب وسط المجموع، حين يجد الفرد من يواسيه أو يشد من أزره أو يكفله في مصابه ومحنته، وفي مساحة مخاطبة “العدو” فلنتخيل تلك “الصورة الذهنية” التي تنطبع في نفوس الآخرين عندما يرون مثل تجمع “عرفة” وما يؤكده من معانٍ أقلها أنهم ورغم تربصهم وكيدهم، مايزالون عاجزين عن القضاء علي هذا الدين أو إطفاء نور الله تعالي في أرضه، ومدخل التحكم فيما يدركه الآخرين عنا من أهم الآليات في دفع المظالم ودحرها لأنه يساعد في انحسار الكيد بالقدر الذي يتوقعه المتربصين من قوتنا واتحادنا، وهو ما يحدو بأهل “عرفة” السعي فيه؛ ليتم تصدير صورة إيجابية عن كل منجز قيمي أخلاقي، أو عملي تطبيقي..

إن يوم “عرفة” هو توجيه لأصحابه إذن بتأسيس إئتلاف جامع لهم يفقه معني كونهم “أمة” وفي رقبتهم وظائف وأدوار، تتوزع تلك الأدوار علي مساحات البني التي يتشكل منها هذا الجسد الواحد، بعيدا عن الدول والكيانات السياسية التنفيذية؛ فهناك -بحسب الدكتور “السيد عمر” أستاذ النظرية السياسية- “صفوة” عاملة أو بمصطلح عصرنا الحديث هم “النخب” الذين باستطاعتهم الحركة بخطوات أكثر اتساعا للتأثير في مساحات أكبر من محيطاتهم الفردية، ثم هناك “القواعد” وهم الجماهير متنوعي الطاقات والقدرات و المؤثرين بوعيهم وإرادتهم في مجريات الأحداث.

إن التاريخ المعاصر ليؤكد أن هناك العديد من المؤسسات والكيانات التي فقهت هذا المعني وتأسست بناء عليه، وفي طليعتها جماعة الإخوان المسلمين، وتحديات اليوم إنما تُلح علينا أن ندعم ونؤازر كافة تلك المؤسسات التي تعمل من خلال فقه معني “الأمة”، ثم التنقيب عن كافة الوظائف والأدوار التي يمكن إضافتها لتلك المؤسسات، أو نقاط الفراغ التي مازالت شاغرة في ثغور المواجهة والمقاومة..

ومن الجدير الإشارة أن آداء مثل تلك الأدوار بات الآن من اليسير والمتاح جدا بعد التطور الهائل في وسائل التواصل الإجتماعي، فإذا أراد فرد أو مجموعة أفراد أن يعملوا هم أو يؤدوا مهمة من خلال مدخل فقه “الأمة” سواء كان ذلك من خلال الإنتماء لإحدي المؤسسات القائمة أو بشكل مستقل، فهناك العديد من الآليات التي ستساعدهم في هذا الإطار، ليكونوا فرق عمل ويديروها بشكل منظم، وهنا ثمة إشارة لابد من التأكيد عليها، وهي أن هذا المدخل في الإنتماء والعمل، يسعه أن يدافع ويضم إليه أية قضية إنسانية عادلة، لأن قيمه ثابتة راسخة لا تعرف الكيل بمكيالين التي يتعامل بها معه الآخرون..

..وعلي ذلك تبدو الآن خارطة العمل واضحة ومتسعة، وعلي كل منا أن يبحث لنفسه عن مكان عليها، لأنه لا معني لمن يقف بعيدا عن “عرفة” ومداخلها القيمية والوظيفية..