آل فرعون.. الأمس واليوم (1)

الفرعنة ليست حدثاً عابراً ارتبط بتلك المواجهة الشهيرة بين نبى الله موسى، عليه السلام، وفرعون مصر، بل هى حالة يمكن أن تظهر فى أى زمان أو مكان بمجرد توافر شروط معينة.

فالمجتمع المتفرعن– كما يمكن أن نستخلص من القرآن الكريم– هو ذلك المجتمع الذى يتشكل من شعب خفيف العقل، فاسد التوجه، سيئ الطباع، ويقوده حاكم قادر على خداع نفسه، مغرور بقوته، مفتون بهواه.

ويعمل مع هذا الحاكم وزراء دينهم فى الحياة الانتهازية والانتفاع وعشق دور «الأداة»، وينقسم المثقفون فى المجتمع المتفرعن إلى صنفين : أغلبية ساحقة تهوى أن توظف علمها وفكرها فى مساعدة الفرعون على خداع الشعب، وشديدة الشغف بدور «الميكروفون»، وأقلية محدودة تحاول أن تواجه فى الخفاء أو من «تحت لتحت» حتى لا تتعرض لغضب الفرعون .

ذلك هو المربع الحديدى لحالة الفرعنة الذى تتكون أضلاعه مــن حاكم «مخادع» وشعب «يهوى الخداع» ووزير «انتهازى» ومثقف «ميكروفون». وتعالوا نحاول أن نفهم كيف وصف القرآن الكريم معالم وسمات كل ضلع من هذه الأضلاع .. ولنبدأ بالحالكم.

من السمات الأساسية التى تميز الحاكم الفرعون وعيه الكامل بشعبه، وحرصه على إعداد أفراده بالصورة التى تهيئهم للقيام بالمهمة «المقدسة» المتمثلة فى عبادته، وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا نشر الجهل فى أوساطهم وحارب المعرفة واحتفى بكل ما هو تافه حتى يسهل عليه أن يستخف أفراد شعبه ذوى العقول الفارغة.

ويقول الله تعالى فى وصف هذه السمة: «فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين». والحاكم الفرعون لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا كان قادراً على خداع نفسه من خلال الاستسلام لفكرة أن عقله هو الأحكم، وأن رأيه هو الأقوم، وأن قراره هو الأسلم . فالتكوينة النفسية التى تجيد خداع نفسها تستطيع أن تحترف بسهولة خداع الآخرين، وتجعل البشر مجرد أتباع يمسكون فى ذيلها ولا يتصورون الحياة بدونها، وعندما تصل هذه التكوينة إلى مقعد القيادة يكون منهجها فى الحياة «نشر الضلال» وتزييف الواقع، وهى تكون سعيدة أشد السعادة بذلك «أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسنا»، والعــقل الضال يكون على تضليل سواه أقدر. والله تعالى يقول: «وأضل فرعون قومه وما هدى».

ويحنق الحاكم الفرعون كل الحنق على من يحاول أن يحيد عن ضلاله ويسير فى طريق العقل والمنطق . وعندما قام موسى، عليه السلام، يدعو فرعون مصر إلى الهدى لم يحتمل أن يستمع إلى ما يقول، وما كان منه إلا أن صرخ فى قومه كما يحكى القرآن الكريم: «وقال فرعون ذرونى أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهر فى الأرض الفساد».

وتلك هى نظرة الحكام «المتفرعنين» فى كل زمان ومكان إلى من يحاولون انتشال الشعوب من وهدة الجهل التى يقبعون فيها. فالفرعون ينظر إليهم على أنهم أدوات إفساد يريدون أن يطفئوا مصابيح الهدى التى يشعلها بـ«رشده المزعوم» فى حياة شعبه!. فمن يدع إلى التغيير يرد أن يعكر ماء شعبه وينشر الفساد بين أفراده، فى الوقت الذى يرى فيه الفرعون نفسه كقاطرة تجر المجتمع إلى طريق الرشاد « قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد».

ويتوازى مع اتجاه «الفرعون» إلى استخفاف شعبه وثقته المفرطة فى حكمته ورشده أن يتحول إلى طاغية يذيق من يخالف دينه، كمالك للبلاد والعباد، أشد صنوف العذاب والامتهان، ومن هنا كان توجيه المولى عز وجل لموسى وهارون: «اذهبا إلى فرعون إنه طغى». ومع سيطرة الطغيان على المجتمع يبدأ الفساد فى التفشى والانتشار فى كل الاتجاهات. فالطغيان والفساد قرينان لا يفترقان أبداً «وفرعون ذى الأوتاد. الذين طغوا فى البلاد. فأكثروا فيها الفساد».

فالفساد يؤدى إلى الثراء والاستغناء وتدفق المال والثروات فى أيدى المفسدين مما يغريهم بالطغيان لأنهم يشعرون أنهم امتلكوا الدنيا ومن عليها. وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الطغيان نتيجة طبيعية للاستغناء: «كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى». لذلك فالعلاقة بين رجال المال والفرعون والوزراء المفسدين هى علاقة أساسية مثلثة الأضلاع كما يصف القرآن الكريم: «وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا فى الأرض وما كانوا سابقين». فقارون هو رجل الأعمال، وفرعون هو الحاكم، وهامان هو الوزير المفسد، والقاسم المشترك الأعظم بين الثلاثة هو «الاستكبار فى الأرض»!

وقد أكد القرآن الكريم على سمة أخرى عند وصفه للحاكم الفرعون تتمثل فى دأبه على البناء والتشييد، فهو حريص على إقامة المبانى العالية والطرق الممتدة «كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد»، ويرى بعض المفسرين أن معنى الأوتاد هنا يتمثل فى: المظلات والملاعب والبنايات التى كان يشيدها الفرعون . ويشهد التاريخ على أن فراعنة مصر نحتوا الجبال بيوتا فارهة وبنوا الأهرامات.

وغرام الحاكم الفرعون بالبناء والتشييد لا ينبئ بحال عن توجه إيجابى، بل على العكس تماماً فهو يشى عن وجه شديد السلبية فى حكمه، فهو يبنى «البنايات» ويمد «الطرق» لا لشىء إلا من أجل تخليد اسمه ومغالبة فكرة الموت وإشباع غروره كإنسان يرى أنه فوق البشر وفوق الزمن .

ويتوازى مع الاهتمام ببناء المكان فى الفكر «الفرعونى» سحق الإنسان وتدمير عقله ووجدانه، فالمكان أهم من الإنسان، بل ودور أبناء الشعب «الفرعونى» هو بناء الجنة التى يحيا فيها «كبيرهم». والقرآن الكريم يحكى لنا ذلك النداء الذى أطلقه فرعون فى شعب مصر «ونادى فرعون فى قومه قال يـا قوم أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون». ومهما تحسن المكان وامتدت فوق طرقه الكبارى والجسور فإن ذلك لن يطمس جريمة قتل الإنسان.

والسلاح الذى يستخدمه الفرعون فى القتل هو التخويف والإرعاب، فكل من يحاول أن يفلت من سطوته ينخرط فى دوائر الخوف من بطشه «فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون»، وذلك هو مفهوم «الاستقرار» فى «العرف الفرعونى». فثبات الأوضاع مصدره الخوف وليس الرضا من جانب المحكومين. ولكن يبقى أن لكل فرعون نهاية، إن لم تكن بالأيدى المرتعشة لأبناء شعبه فبيد الله الذى لا يرضى مطلقاً أن ينازعه بشر فى ملكه وألوهيته . وصدق الله العظيم إذ يقول: «ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون».