أكتوبر بين النصر والهزيمة

منذ سقوط الخلافة الإسلامية عام 1928م علي يد مصطفي كمال أتاتورك، والعالم الإسلامي أشبه باليتيم التائه تلقفته أيدي اللئام الطامعين، وقد سهل هذا الوضع قيام دولة إسرائيل في قلب العالم الإسلامي عام 1948م، لتكون رأس الحربة للمشروع الغربي أو الصهيوأمريكي في هذه المنطقة المركزية من العالم، وقد حظي هذا الكيان العنصري الغريب الذي غرس قسراً في خاصرة العالم الإسلامي بكل الدعم والتأييد الغربي، وخاض ثلاثة حروب كبيرة مع العالم العربي والإسلامي بدات بحرب 1948م مع جيوش ست دول عربية هي: مصر والعراق وسوريا والأردن والسعودية ولبنان، وانتهت بهزيمة هذه الجيوش الستة أمام العصابات اليهودية.

وقد سجلت كتائب الإخوان في هذه الحرب بطولات نادرة، وكادت تنهي الوجود اليهودي لولا خيانات الأنظمة العربية، التي حجمت دور الإخوان بإدخال الجيوش النظامية، وإعطاء قيادة هذه الجيوش لجلوب باشا قائد جيش الأردن وهو بريطاني موالي لليهود، ثم التآمر علي هذه الجيوش بتزويدها بالأسلحة الفاسدة، واغتيال قادتها المخلصين مثل البطل أحمد عبد العزيز، وفي نفس الوقت توجيه ضربة قوية للإخوان في مصر لشل قدرتهم علي الاستمرار في الميدان، فتم اغتيال الإمام البنا رحمه الله، وحل جماعة الإخوان، ومصادرة ممتلكاتها، وزج الألاف من أبنائها في السجون، تمهيداً لعقد معاهدة التمكين لليهود بوقف إطلاق النار، واعتقال الإخوان المجاهدين وإيداعهم في معتقلات رفح والطور.

وفي عام 1967م خاض النظام الناصري في مصر حرباً مع الكيان الصهيوني تم استدراجه إليها بعد التأكد من تجريف كل عناصر القوة في هذا البلد، فقد قام النظام الناصري بتوجيه ضربات عنيفة للإخوان في عام 1954م وعام 1965م، وتم إعدام العلماء أمثال المستشار عبد القادر عودة، الأستاذ سيد قطب، والشيخ محمد فرغلي، وغيرهم من قادة الإخوان، فضلاً عن اعتقال الآلاف منهم وإحكام السيطرة على المجال العام، ومصادرة الحريات، وعسكرة الدولة بشكل كامل، ومحاربة التدين بشكل عام، وتشجيع التحلل والسفور. وفي نفس الوقت تفريغ الجيش من أي قيادة لها سمت ديني أو التزام ظاهر، وإهمال تربية الجنود تربية إيمانية ووطنية ترفع من روحهم المعنوية، وتبعثهم علي التضحية، وتغرس حب الشهادة في شغاف قلوبهم، فلما وقع الصدام والحالة هكذا كانت النتيجة معروفة، وانكشفت سوأة النظام الناصري، وهزم الجيش المصري هزيمة نكراء، وأخذ قياداته يتبادلون الاتهامات، وتمددت إسرائيل في أكبر مساحة من أراضي العرب والمسلمين فاحتلت معظم فلسطين بالإضافة إلي سيناء المصرية والجولان السورية.

وفي عام 1973م خاضت مصر وسوريا الحرب الثالثة من الكيان الصهيوني الغاصب، فحققت نصراً خاطفاً، كادت ثغرة الدفرسوار أن تحوله إلي هزيمة واضحة، ثم أضاعت القيادة السياسية ثمار هذا النصر بالمفاوضات ثم بتوقيع معاهدة كامب ديفيد التي جعلت مصر موثوقة اليدين والقدمين، وجعلت سيناء منزوعة السلاح، محرومة من التنمية، لتبقي غريبة عن الوطن كأنها ليست منه، وفي نفس الوقت مزقت هذه المعاهدة الصف العربي، الذي مثلت الحرب بداية لالتحامه والتئام شمله، ثم جاءت المعاهدة فأنهت هذه الحلم، وبدأ النظام المصري رحلة التطبيع مع اليهود لتلحقه بعد ذلك أنظمة أخري انتهت اليوم بتطبيع النظام السعودي علاقته مع الكيان الغاصب، وتنكره للمقاومة الفلسطينية. وانتهت بقادة الانقلاب في مصر إلي التصريح بحماية أمن إسرائيل، واتخاذ خطوات عملية واسعة في ذلك مثل تهجير أهال رفح المصرية وتجريف أراضيهم ومزروعاتهم وإقامة منطقة عازلة علي الحدود مع إسرائيل، والتفريط في ثروة مصر من الغاز الطبيعي في البحر المتوسط لصالح إسرائيل واليونان، والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين للسعودية ليصبحا بذلك ممراً دولياً تستفيد منه إسرائيل.

وأول دروس حرب أكتوبر 1973م أن الإيمان يصنع المعجزات، وأنه الوقود الحقيقي لأي معركة، والعدة الحقيقية للنصر، وصدق الإمام البنا إذ يقول: “أول القوة قوة الإيمان والعقيدة”. ومما يحسب للنظام المصري في هذه المرحلة اهتمامه بالجانب المعنوي وخاصة التربية الإيمانية للجنود، وقد اشترك الكثير من العلماء العاملين في هذه المهمة منهم الشيخ محمد الغزالي، والشيخ حافظ سلامة وغيرهم، وعاشوا فترات طويلة مع الجنود في معسكرات الجيشين الثاني والثالث الميداني، وقد ركب الشيخ حافظ سلامة مع الجنود في أول زورق يعبر القناة يوم 6 أكتوبر 1973م. وكانت صيحة الله أكبر التي دوت في أرجاء المعركة ورفعت الروح المعنوية للجنود عاملاً حاسماً في تحقيق النصر، وعندما حاول العلمانيون عبر آلتهم الإعلامية طمس أي أثر للروح الدينية في تحقيق النصر، وأخذ أحمد سعيد يردد أننا حققنا نصراً حضارياً بعقولنا وسواعدنا وتخطيطنا حدثت ثغرة الدفرسوار، لتوقف موجة الخيلاء والزهو، وتعيد تعلق العقول والألباب برب الأرباب.

والدرس الثاني أن الوحدة أساس القوة؛ وصدق ربنا سبحانه إذ يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران:103-105)، ويقول: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الآنفال: من الآية 46) وصدق رسوله الكريم إذ يقول: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»(رواه البخاري ومسلم). ورحم الله الإمام البنا الذي جعل العنصر الثاني من عناصر القوة هو قوة الوحدة والارتباط، وقد تجلت الوحدة العربية في حرب أكتوبر في اشتراك الجانب السوري في القتال واستخدام الملك فيصل رحمه الله سلاح البترول للضغط علي أوروبا وأمريكا للتخلي عن دعم إسرائيل، ولكن معاهدة كامب ديفيد أضاعت ثمار هذه المواقف، كما أضاعت ثمار النصر الذي تحقق بدماء المصريين.

والدرس الثالث أن الحفاظ علي النصر أصعب من تحقيقه، فمن الممكن أن يحقق الإنسان نصراً أو نجاحاً أو تفوقاً ثم يضيع ثماره ويعود أدراجه إذا ضعف وتراخي ولم يكمل المسيرة، أو إذا تصرف بزهو وخيلاء ورعونة، وهذا ما حدث في حرب أكتوبر، حارب الجنود ببسالة، وحققوا انتصارات باهرة، وكان بمقدورهم دخول تل أبيب، لكن القيادة السياسية أوقفتهم عند حد معين، لعله الخط الأحمر الذي رسم لها من قبل أمريكا وأو روبا، ثم صنعت الثغرة، وبعدها مفاوضات وقف إطلاق النار لتقيد المنتصر لصالح المهزوم علي عكس حركة التاريخ، وليس أدل علي ذلك من إعراب المشير الجمسي في مذكراته عن صدمته من تصرف السادات خلال مفاوضات وقف إطلاق النار وقبوله بتخفيض القوات والتسليح بصورة فاقت تخيل اليهود والأمريكان. ثم جاءت معاهدة كامب ديفيد لتمحو كل آثار النصر، وتبقي سيناء خارج التاريخ والجغرافيا.

والدرس الرابع أن السياسة يمكن أن تصنع ما لا تصنعه الآلة العسكرية، بل إن حركة الآلة العسكرية ما لم تكن وفق رؤية سياسية واضحة، وتعمل تحت قيادة سياسية وطنية تراعي مصالح الشعب والوطن فإنها تضر أكثر مما تنفع، بل إن الآلة العسكرية يمكن أن تستخدم ضد الشعب نفسه، لا لحماية أرضه ومائه وسمائه، كما فعل العسكر مع المعتصمين السلميين في رابعة العدوة والنهضة وكل ميادين مصر؛ فتحولوا من جيش يدافع عن تراب الوطن ويحمي حدوده إلي قوة باطشة وآلة قتل انتقامية في يد متوحشة تنفذ أجندة أجنبية، وتخضع لإملاءات الممولين والداعمين، وتجعل من أولوياتها حماية أمن إسرائيل. لقد قدمت مصر آلاف الشهداء من أبناء الفلاحين والطبقة الوسطي في حروبها الثلاث مع الكيان الصهيوني، وانتهي المطاف بعسكر مصر في حضن إسرائيل الدافئ، ولتذهب تضحيات الشعب ودماء أبنائه إلي حيث تذهب، وإصلاح هذا العوج لا يكون إلا ببعد الجيش تماماً عن السياسية، وإصلاح عقيدته العسكرية لتعرف عدوها الحقيقي، وتتطهر من توجيه البندقية إلي صدور المواطنين، وتخضع تماماً لسلطة الشعب وقيادته المنتخبة المعبرة عن ضميره الوطني، وإرادته الحرة.