الأسرة ومكانتها:

منهج التغيير عندنا يبدأ بالنفس وبالقلب إخباتًا ووجلًا وبالجوارح خشوعًا وعملًا. وهذا المنهج من الثوابت التي لا نحيد عنها، ليس تكتيكًا – كما يزعم المرجفون – بل هو مبدأ أخلاقي ديني ثابت دائم لا يتغير إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مبدأ ينبذ العنف بل ويعمل على استئصاله، ويعتمد على سبيل التربية سبيلًا لا خيرة لنا فيه كمنهاج حاكم ضابط ثابت يبدأ:

أولًا: دعوة تضبطها الحكمة والموعظة الحسنة، لا إكراه فيها ولا عنف ولا تعسف، تقوم على قوة الحجة لا حجة القوة شعارها قول ربنا (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: من الآية 83] ورائدها مقالة على بن أبي طالب رضي الله عنه «من لانت كلمته وجبت محبته».

ثانيًا: تربية إسلامية أساسها القرآن والسنة وإن تعددت وسائلها حتى ننتقل من رجل القول إلى رجل العمل، شعار هذه التربية: «اعرف ربك، وأصلح نفسك، وادع غيرك، وأقم دولة الإسلام في قلبك تقم على أرضك». ولذلك فإن لهذه التربية خصائصها التي من أهمها:

– أنها ربانية.

– ثابتة الأسس.

– موافقة للفطرة.

– شاملة لكل جوانب الحياة باعتدال.

– موحدة للطاقات البشرية.

– متفائلة إيجابية فعالة تقوم على الأساس العقائدي والتعبدي والتشريعي.

كل ذلك لتحقق ثمرتها وهي: تحقيق الكرامة الإنسانية لتقيم الحضارة الإسلامية.

ثالثًا: من هذه اللبنات التي تربى تكون الأسرة الصالحة فالجماعة فالحكومة، لذلك كان من الثوابت عند الإخوان التربية المتأنية – كما بينا – لنحصل على الفرد المسلم الذي يبدأ التغيير بإصلاح نفسه ليكون منهج التغيير على منهاج النبوة.

ووسيلة تحقيق ذلك عند الإمام البنا نظام الأسرة، فهي من الثوابت عنده، فيها يتم التعارف والتفاهم والتكافل، وفيها يصحح الفهم ويعمق، ويصوب الخطأ ويتلافى، وتحقق الأخوة، وتظهر القدرات والقيادات، ويربى فيها على الثوابت والمتغيرات، وتحقيق الانتماء، ولقد سميت أسرة لما فيها من السكن والمودة والرحمة، وسمى رئيسها نقيبًا تيمنًا بما فعله الرسول ﷺ في بيعة العقبة الثانية بعد عودة مصعب بن عمير من المدينة ومعه ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان، فلما تمت البيعة طلب منهم الرسول ﷺ أن يختاروا من بينهم اثني عشر نقيبًا ليوليهم عليهم، وما أحسن وأعظم توجيهات الرسول ﷺ، ولقد ثبت في العلم التربوي الحديث أنه كلما قل عدد الأفراد زاد أثر المربى وتحققت التربية بالقدوة والمعايشة.

فإذا كانت اللبنة الأولى في الجماعة هي الأسرة، فإن أفرادها وهم في جماعة، يعلمون أن من يقود له التوجيه والتربية والطاعة، لأن هذه القيادة هي التي تحدد الأهداف، وتعتمد الوسائل لتحقيقها، وتحدد مراحلها، وهي التي تقدم أو تؤخر في أولوياتها، وعلى الأسرة أن تضع ذلك موضع التنفيذ.

إن العمل التربوي المثمر هو منهج ثابت، فإن كان للأفراد سمات وصفات ومقومات، وللعائلة ترابط ومودة وأخلاق، فمن يتعهد هؤلاء وهؤلاء؟ ومن يقوم على رعايتهم ومتابعتهم؟ ومن يتعرف على تقدمهم أو تأخرهم ومدى تحقيق أهدافهم؟ إنها التربية عن طريق الأسرة، ولما كانت التربية تحتاج إلى علم وفقه وفهم، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق مربٍّ في محضن، والمحضن هو الأسرة، والمربى هو النقيب ليقوم بدوره خير قيام لتحقيق المهام الجسام والأهداف المرجوة، ولذلك كان المربى وهو النقيب داخل الأسرة كإمام الصلاة له السمع والطاعة والتوجه والتعليم والتربية.

لقد تأكد للإمام البنا أن المشكلة ليست سهلة كما يظن البعض، فإن ما أصاب العقل المسلم من صدوع ورضوخ، بل كسور وتقطيع وتشويه وغزو فكري صده عن المضي إلى غايته، وحال بينه وبين رسالته، لا يمكن أن يعالج في يوم وليلة بمحاضرة عابرة من فرد أو درس هنا ودروس هناك من مفكر إسلامي، أو موعظة وفتيا من عالم من العلماء الأجلاء ثم يمضي لحال سبيله يبحث عن أخرى، أو مقال منشور سرعان ما ينتهي أثره بانتهاء قراءته، أو مؤلف مكتوب يحفظ متنه، إنما هي معاناة وتربية إسلامية طويلة تحتاج إلى محضن تربوي،

فكانت هي الأسرة، والمربي الكريم الذي له صفات تربوية هو النقيب، لأن التربية هي من ثوابت الدعوة تحتاج إلى جهد مضن كي نترك رجالًا لا نترك كتابًا وكفى، وذلك بالمنهج السديد، والعمل الدؤوب، والخلق القويم، والنفس الطويل، والصبر الجميل والموعظة الحسنة، والمجادلة الحكيمة والوعي المستنير، والمتابعة المتأنية، ولا بدّ لقائم يقوم على هذا الأمر وهو المربي داخل المحتوى وهي الأسرة وأي منهج إسلامي للحياة متكامل، وأي دعوة صادقة ليتأصل الفهم عن طريقها لا بدَّ لها من التربية الممنهجة المستمدة من الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح والمستمدة من الأصول الفقهية والقواعد الشرعية.

ولا يتحقق ذلك كله إلا براعٍ مسئول عن رعيته يوضح الطريق بمعالمه ويبينه تبيانًا لا غموض فيه ولا اضطراب من حيث:

وضوح الفكرة، ووحدة التصور والسلوك، ووحدة الهدف والمصير، ووحدة الغاية وسائل تحقيق ذلك كله حتى لا يترك سببًا لتساؤلات أو لتشكيكات أو لشبهات، ليكون أفراد الجماعة نسيجًا واحدًا، ووضع لذلك نظم وإداريات ووسائل وغايات، لذلك كان الالتزام بهذه النظم من الثوابت.

يقوم الإمام البنا مبينًا أهمية هذا المحضن التربوي: «يحرص الإسلام على تكوين أسر من أهله يوجههم إلى المثل العليا، ويقوي رابطتهم، ويرفع أخوتهم من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الأفعال والعمليات، وأركان هذا الرباط ثلاثة فاحفظها واهتم بتحقيقها حتى لا يكون هذا تكليفًا لا روح فيه :-

التعارف:

هو أول هذه الأركان فتعارفوا وتحابوا بروح الله، واستشعروا معنى الأخوة الصحيحة الكاملة فيما بينكم، واجتهدوا الا يعكر صفو علاقتكم شيء (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: من الآية 10].

ولقد ظلت هذه الأوامر الربانية والتوجيهات المحمدية بعد الصدر الأول كلامًا على السنة المسلمين لا في نفوسهم، حتى جئتم معشر الإخوان المتعارفين تحاولون تطبيقها في مجتمعكم، وتريدون تاليف الأمة المتآخية بروح الله.

التفاهم:

هو الركن الثاني من أركان هذا النظام التربوي وفيه تتم محاسبة النفس، ثم ينصح الأخ أخاه متى رأى فيه عيبًا، وليقبل الأخ نصح أخيه بسرور وفرح، ولا يخبر أحدًا بالعيب إلا أخاه مسئول الأسرة، إذا عجز عن الإصلاح، ثم لا يزال بعد ذلك على حبه لأخيه، وتقديره له ومودته له، وليحذر المنصوح من العناد والتصلب، وتغيير القلب على أخيه الناصح.

التكافل:

هو الركن الثالث، فتكافلوا وليحمل بعضكم بعضًا، وذلك صريح الإيمان، ولب الأخوة، وليتعهد بعضكم بعضًا بالسؤال والبر، وليبادر إلى مساعدته ما وجد إلى ذلك سبيلًا، وتصوروا قول رسول الله ﷺ: «لئن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرًا»، والله يؤلف بين قلوبكم بروحه، إنه نعم المولى ونعم النصير.

الا ترى أن هذا النظام التربوي يحقق الواجبات الفردية والاجتماعية والمالية؟ ويحقق المعايشة والمؤانسة والأخوة، إن مثالًا واحدًا مما تشغل به الأسرة اجتماعها ليوضح الآثار التربوية العظيمة في حياة أفرادها، فهي تشتمل على:

– عرض كل أخ لمشاكله ويشاركه إخوانه في دراسة حلولها في جو من صدق الأخوة، وإخلاص التوجه إلى الله، وفي ذلك توطيد للثقة، وتوثيق الرباطة «المؤمن مرآة أخيه” حتى يتحقق فينا شيء من مأثور قوله ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

– مدارسة ومذاكرة حول شؤون المسلمين والتوجهات الواردة من القيادة، ولا محل للأسرة للجدل أو الحدة ورفع الصوت فذلك حرام في فقه الأسرة، ولكنه بيان واستيضاح في حدود الأدب الكامل والتقدير المتبادل بين الجميع.

– مدارسة نافعة من كتاب من الكتب القيمة وغير ذلك مما يعود بالنفع على أفراد الأسرة ليتحقق بها الشخصية الإسلامية الأخلاقية بعقد إيمانها وعقد أخوتها لتصبح أداة للتغيير.

————

(*) المصدر: كتاب (منهج الإمام حسن البنا بين الثوابت والمتغيرات). للأستاذ جمعه أمين – رحمه الله