الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه

هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث ، وهو ذو أصبح بن عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة ، وهو حمير الأصغر الحميري ثم الأصبحي المدني ، حليف بني تيم من قريش ، فهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة .
وأمه هي العالية بنت شريك بن عبد الرحمن بن شريك الأزدية، وأزد من أشهر قبائل العرب القحطانية، تُنسب إلى الأزد بن الغوث
بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

اختلف العلماءُ في السنة التي وُلد فيها الإمام مالك، فقيل إنه وُلد سنة 90هـ، وقيل 93هـ، وقيل 94هـ، وقيل 95هـ، وقيل 96هـ، وقيل 98هـ، ولكن الأكثرين على أنه وُلد سنة 93هـ في خلافة سليمان بن عبد الملك، ولقد رُوي أن مالكاً قال: « وُلدت سنة ثلاث وتسعين ».
وقد وُلد مالك بالمدينة المنورة، وقيل إنه وُلد بذي المروة، وهي قرية تقع بوادي القرى بين تيماء وخيبر.

بشارة النبي صلى الله عليه وسلم به

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ” يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة “، رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
قال العلماء: وعالم المدينة هو مالك بن أنس وهو الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: “ليضربن الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة”.
وفي لفظ: “يأتي علي الناس زمان يضربون أكباد الإبل”، وفي لفظ :”يوشك أن يضرب الناس آباط الإبل يلتمسون العلم”، وفي لفظ “من عالم بالمدينة”، وفي لفظ “أفقه من عالم المدينة”. وقد رواه النسائي، عن أبي هريرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يضربون أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة”، وفي رواية: “يخرج ناس من المشرق والمغرب في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة”، ويروى عن ابن عيينة قال: كنت أقول: هو سعيد بن المسيب حتى قلت كان في زمانه سليمان بن يسار وسالم بن عبد الله وغيرهما، ثم أصبحت اليوم أقول: إنه مالك لم يبق له نظير بالمدينة.

نشأة الإمام مالك

نشأ الإمام مالك في بيت اشتغل بعلم الأثر، وفي بيئةٍ كلُّها للأثر والحديث، أما بيته فقد كان مشتغلاً بعلم الحديث واستطلاع الآثار وأخبار الصحابة وفتاويهم، حفظ الإمام مالك القرآن الكريم في صدر حياته، كما هو الشأن في أكثر الأسر الإسلامية التي يتربى أبناؤها تربية دينية، واتجه بعد حفظ القرآن الكريم إلى حفظ الحديث، فوجد من بيئته محرضاً، ومن المدينة موعزاً ومشجعاً، ولذلك اقترح على أهله أن يذهب إلى مجالس العلماء ليكتب العلم ويدرسه، فذكر لأمه أنه يريد أن يذهب فيكتب العلم، فألبسته أحسن الثياب وعممته، ثم قالت: «اذهب فاكتب الآن»، وكانت تقول: «اذهب إلى ربيعة فتعلم علمه قبل أدبه»
ويظهر أنه لهذا التحريض من أمه جلس إلى ربيعة الرأي أول مرة، فأخذ عنه فقه الرأي وهو حدث صغير على قدر طاقته، وكان حريصاً منذ صباه على استحفاظ ما يكتب، حتى أنه بعد سماع الدرس وكتابته يتبع ظلال الأشجار يستعيد ما تلقى،
ولقد كانت المدينة المنورة في عصر مالك مهداً للعلم، إذ كان بها عدد من التابعين، وقد لازم مالك ابن هرمز ملازمة لم يخلطه فيها بغيره، ثم اتجه إلى الأخذ من غيره من العلماء مع مجالسة شيخه الأول، فوجد في نافع مولى ابن عمر بغيته، فجالسه مع مجالسة ابن هرمز وأخذ عنه علماً كثيراً، كما أخذ الإمام مالك عن ابن شهاب الزهري، ولقد لازم مالكاً منذ صباه الاحترامُ التامُّ للأحاديث النبوية، فكان لا يتلقاها إلا وهو في حال من الاستقرار والهدوء توقيراً لها وحرصاً على ضبطها، ولذلك ما كان يتلقاها واقفاً، ولا يتلقاها في حال ضيق أو اضطراب، حتى لا يفوته شيء منها.

جلوسه للدرس والإفتاء

بعد أن اكتملت دراسة مالك للآثار والفُتيا، اتخذ له مجلساً في المسجد النبوي للدرس والإفتاء، ولقد قال في هذا المقام وفي بيان حاله عندما نزعت نفسه إلى الدرس والإفتاء: «ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يشاوِر فيه أهلَ الصلاح والفضل والجهة من المسجد، فإن رأوه لذلك أهلاً جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضع لذلك».وقد كان جلوس مالك للإفتاء في المسجد النبوي بعد أن اكتمل عقله ونضج فكره، وفي حياة بعض شيوخه الذين عاشوا بعد أن نضج واكتمل، ولم تُبين المصادر السنَّ التي جلس فيها مالك للإفتاء بالتعيين الذي لا شك فيه.

أهم ملامح شخصية الإمام مالك وأخلاقه

صفة الإمام مالك الخَلقية :

قال مصعب الزبيري: “كان مالك من أحسن الناس وجهًا، وأحلاهم عينًا، وأنقاهم بياضًا، وأتمهم طولاً في جودة بدن”. وقال أبو عاصم: “ما رأيت محدثًا أحسن وجهًا من مالك”.

قوة حفظ الإمام مالك :

كان الإمام مالك إذا استمع إلى شيء استمع إليه بحرص ووعاه وعياً تاماً، حتى إنه ليسمع نيفاً وأربعين حديثاً مرة واحدة، فيجيء في اليوم التالي ويُلقي على من استمعها منه، وهو ابن شهاب الزهري، أربعين حديثاً، مما يدل على قوة حفظه ووعيه، حتى قال له الزهري: «أنت من أوعية العلم، وإنك لنعم المستودَع للعلم». وقال الإمام مالك: « ساء حفظ الناس، لقد كنت آتي سعيد بن المسيب وعروة والقاسم وأبا سلمة وحميداً وسالماً وعدَّد جماعة فأدور عليهم، أسمع من كل واحد من الخمسين حديثاً إلى المئة، ثم أنصرف وقد حفظته كله من غير أن أخلط حديث هذا في حديث هذا ».

صبر الإمام مالك :

كان الإمام مالك صبوراً مثابراً، مغالباً لكل الصعاب، غالَبَ الفقر حتى باع أخشاب سقف بيته في سبيل العلم، وكان يذهب في الهجير إلى بيوت العلماء، ينتظر خروجهم، ويتبعهم حتى المسجد، وكان يجلس على باب دار شيخه في شدة البرد، ويتقي برد المجلس بوسادة يجلس عليها، وكان يقول: «لا يبلغ أحد ما يريد من هذا العلم حتى يضر به الفقر، ويؤثره على كل حال». وكان الإمام مالك يأخذ تلاميذه بذلك، فيحثهم على احتمال المشاق في طلب العلم بالقول والعمل. وكان الإمام مالك يعمل في نفسه ما لا يُلزمه الناس، وكان يقول: «لا يكون العالم عالماً حتى يعمل في نفسه بما لا يفتي به الناس، يحتاط لنفسه ما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم».

ذكاء وفراسة الإمام مالك :

اتصف الإمام مالك بقوة الفراسة، ولقد قال الإمام الشافعي في فراسته: لما سِرتُ إلى المدينة ولقيت مالكاً وسمع كلامي، نظر إلي ساعةً، وكانت له فراسة، ثم قال لي: «ما اسمك؟»، قلت: «محمد»، قال: «يا محمد، اتق الله، واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك الشأن من الشأن». ولقد قال أحد تلاميذه: «كان في مالك فراسةٌ لا تخطئ».

سعة علم الإمام مالك :

روى الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة”. ثم قال: هذا حديث حسن. (ضعفه الألباني) وقد روي عن ابن عيينة أنه قال: هو مالك بن أنس. وكذا قال عبد الرزاق.

كثرة عبادة الإمام مالك:

قال أبو مصعب: “كان مالك يطيل الركوع والسجود في ورده، وإذا وقف في الصلاة كأنه خشبة يابسة لا يتحرك منه شيء”. وقالت فاطمة بنت مالك: “كان مالك يصلي كل ليلة حزبه، فإذا كانت ليلة الجمعة أحياها كلها”.
قال ابن المبارك: “رأيت مالكًا فرأيته من الخاشعين، وإنما رفعه الله بسريرة كانت بينه وبين الله، وذلك أني كثيرًا ما كنت أسمعه يقول: من أحبَّ أن يفتح له فرجة في قلبه، وينجو من غمرات الموت، وأهوال يوم القيامة، فليكن في عمله في السر أكثر منه في العلانية”.

هيبة الإمام مالك وقدره :

كان الإمام مالك ذا هيبة ووقار، يهابه تلاميذه، حتى أن الرجلَ ليدخل إلى مجلسه فيُلقي السلام عليهم فلا يرُدُّ عليه أحد إلا همهمة وإشارة، ويشيرون إليه ألا يتكلم مهابةً وإجلالاً، كما كان يهابه الحكام، حتى إنهم ليحسُّون بالصغر في حضرته، ويهابه أولاد الخلفاء، رُوي أنه كان في مجلسه مع أبي جعفر المنصور، وإذا صبي يخرج ثم يرجع، فقال أبو جعفر: «أتدري من هذا؟»، قال: «لا»، قال: «هذا ابني، وإنما يفزع من شيبتك».

بل كان يهابه الخلفاء أنفسهم، فقد رُوي أن الخليفة المهدي دعاه، وقد ازدحم الناس بمجلسه، ولم يبق موضع لجالس، حتى إذا حضر مالك تنحى الناس له حتى وصل إلى الخليفة، فتنحى له عن بعض مجلسه، فرفع إحدى رِجليه ليفسح لمالك المجلس.

وهكذا كان شيخُ المدينة مهيباً، حتى صار له نفوذٌ أكبر من نفوذ واليها، ومجلسٌ أقوى تأثيراً من مجلس السلطان من غير أن يكون صاحب سلطان، قال ابن الماجشون: «دخلت على أمير المؤمنين المهدي، فما كان بيني وبينه إلا خادمه، فما هبته هيبتي مالكاً»،

وقال سعيد بن أبي مريم: «لقد كانت هيبته أشد من هيبة السلطان».. وقال الشافعي: “ما هبت أحدًا قَطُّ هيبتي مالك بن أنس حين نظرت إليه”.

ذكر الشافعي أنه حمل كتابا من والي مكة إلى والي المدينة يطلب منه إيصال الشافعي إلى مالك، قال الشافعي فأبلغت الكتاب إلى الوالي، فلما قرأه قال : يا فتى، إن المشي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافيا راجلا أهون علي من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذلة حتى أقف على بابه

و سأل القاضي جرير بن عبد الحميد مالكا عن حديث وهو قائم فأمر بحبسه، فقيل: إنه قاض. فقال: أحق أن يؤدب، احبسوه فحبس إلى الغد

شيوخ الإمام مالك

أدرك الإمام مالك من الشيوخ ما لم يدركه أحد بعده، فقد أدرك من التابعين نفراً كثيراً، وأدرك من تابعيهم نفراً أكثر، واختار منهم من ارتضاه لدينه وفهمه وقيامه بحق الرواية وشروطها، وسكنت نفسه إليه، وترك الرواية عن أهل دِين وصلاح لا يعرفون الرواية، فكان من أخذ عنهم تسعمئة شيخ منهم ثلاثمئة من التابعين،

ومن شيوخه:

ابن هرمز، وهو أول شيخ له
ونافع مولى ابن عمر
وزيد بن أسلم
وابن شهاب الزهري
وأبو الزناد
وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق
وأيوب السختياني
وثور بن زيد الديلي
وإبراهيم ابن أبي عبلة المقدسي
وحميد الطويل
وربيعة بن أبي عبد الرحمن
وهشام بن عروة
ويحيى بن سعد الأنصاري
وعائشة بنت سعد ابن أبي وقاص
وعامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام
وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي القرشي
وخلق كثير سواهم.

تلامذة الإمام مالك

حدَّث عن الإمام مالك عددٌ كبيرٌ من الناس،
فقد حدث عنه من شيوخه:

عمه أبو سهيل
ويحيى بن أبي كثير
وابن شهاب الزهري
ويحيى بن سعيد الأنصاري
ويزيد بن الهاد
وزيد بن أبي أنيسة
وعمر بن محمد بن زيد
وغيرهم.

كما حدث عنه من أقرانه:

أبو حنيفة
والشافعي
وابن مهدي
وابن جريج
والأوزاعي
وعبد الله بن المبارك
ويحيى بن سعيد القطان
ويحيى بن يحيى الأندلسي
ويحيى بن يحيى النيسابوري
وسفيان بن عيينة
وغيرهم.

ومن أشهر من روى عنه أيضًا:
عبد الله بن مسلمة القعنبي
وعبد الله بن وهب
ومعن بن عيسى القزاز
وداوود بن أبي زَنْبَر، وابنه سعيد
وأبو بكر وإسماعيل ابنا أبي أويس
وعبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون
وعبد الله بن عبد الحكم المصري
والليث بن سعد من أصحاب مالك وعلى مذهبه ثم اختار لنفسه
وابن المعذل
وغيرهم.

مؤلفات الإمام مالك

له كتاب الموطأ
ورسالة في الوعظ
وكتاب المسائل
ورسالة في الرد على القدرية
وتفسير غريب القرآن

منهج الإمام مالك في البحث

كان للإمام مالك منهجٌ في الاستنباط الفقهي لم يدونه كما دوَّن بعض مناهجه في الرواية، ولكن مع ذلك صرح بكلام قد يستفاد منه بعض منهاجه، فقد ألمح إلى ذلك وهو يتحدث عن كتابه (الموطأ): “فيه حديث رسول الله وقول الصحابة والتابعين ورأيي، وقد تكلمت برأيي، وعلى الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، ولم أخرج من جملتهم إلى غيره”.
فهذه العبارة من الإمام تشير إلى بعض الأصول التي استند إليها في اجتهاداته واستنباطاته الفقهية، وهي: السنة، وقول الصحابة، وقول التابعين، والرأي، والاجتهاد، ثم عمل أهل المدينة.
ولعل أدق إحصاء لأصول المذهب المالكي هو ما ذكره (القرافي) في كتابه (شرح تنقيح الفصول)؛ حيث ذكر أن أصول المذهب هي

القرآن

السنة

الإجماع

إجماع أهل المدينة

القياس

قول الصحابي

المصلحة المرسلة

العرف

العادات

سد الذرائع

الاستصحاب

الاستحسان

محنة الإمام مالك :

الإمام مالك كما مرَّ بنا وُلد سنة 93هـ، أي عاصر ورأى بعينه الأحداث الجسام التي وقعت أثناء سقوط الدولة الأمويَّة وقيام العباسيَّة مكانها، ثم قيام الثَّورات العنيفة ضد الحكم العباسيِّ، ومقابلة العباسيِّين لها بمنتهى الشِّدَّة والعنف، حتَّى إنَّ العباسيين قد أنسوا الناسَ معاني العفو والصَّفح، فأدنى محاولةٍ للخروج أو التَّلويح به ولو بالإشارة كان بنو العباس يقمعونها بمنتهى الشِّدَّة، ويأخذون البريء بالمذنب، والقاعد بالسَّاعي، والبعيد بالقريب.
وبسبب هذه المضارِّ والمفاسد العظيمة المترتبة على الخروج على الحكم، لم يرَ الإمامُ مالك الخروج عليهم، وإن كانوا ظلمةً وجائرين، ولكنه مع ذلك لم يكن يوماً مداهناً لخليفةٍ أو أمير، أو يكتمُ العلم من أجلهم، لذلك ارتفعت مكانة ومنزلة الإمام مالك عند الخاصَّة والعامَّة، حتى جلس الخلفاءُ بين يديه وقرأ الأمراء عليه، وصدع الناس لما أمرهم به، فصار آمراً ناهياً، تسري أوامره على الجميع، فحسده على تلك المكانة العالية بعضُ أهل العلم ممن يؤثرون الدُّنيا ويسعَون إليها، ووَشَوا به عند أمير المدينة جعفر بن سليمان في عهد الخليفةِ أبي جعفر المنصور، وذلك سنة 147 هـ وكانت التهمة: أنَّ مالكاً لا يرى أيمان البيعة للخلافة هذه بشيء.
ولم يكن الإمامُ مالك يقول هذا الكلامَ مطلقاً، بل غايةُ ما تسوَّل به خصومه وحسَّادُه للنيل منه: أنَّه أفتى بأنَّ يمين المكره لا تلزمه، وذلك عملاً بما رواه في موطئه عن ابن عباس قوله: “ليس لمكرهٍ ولا لمضطهدٍ طلاقٌ”، وهو صحيح عن ابن عباس، ولا يصحُّ رفعه، وقد علَّقه البخاريُّ في كتاب الطلاق.
وقد استخدم الثُّوَّار هذا الحديث وما أفتى به الإمامُ مالك، في تحريض الناس على نَكْثِ البيعة للعباسيين.

كان أبو جعفر المنصور شديدَ الحساسيَّة تجاه أيِّ تحرُّكات لأهل العلم، خاصَّةً الأئمة منهم أيامَ الفتن والثورات، لذلك لما وصلت الأخبارُ إليه أصدر أوامر مشددةً للإمام مالك بأن يترك التحديث بهذا الأمر ولا يُفتي به مَن سأله، فلم يستجبْ مالكٌ لهذه الأوامر ولم يسكت وعدَّ ذلك كتماناً للعلم لا يُمكن أن يفعله أبداً .
لما علم أبو جعفر المنصور بإصرار الإمام مالك على التَّحديث والإفتاء بحديث ابن عباس، أمر واليه على المدينة جعفر بن سليمان بأن يؤدِّب الإمام مالك، فما كان من الوالي الظلوم والغشوم إلا أن قبض على الإمام وضربه بالسياط، وأمر بجذب يديه حتى انخلع كتفُه وأقامه للتشهير بين الناس، ثم حمله على جملٍ وطاف به في جنبات المدينة، وذلك لإهانته وإسقاط جاهه بين الناس.

ورغم كلِّ محاولات الوالي للنيل من هيبة مالك ومنزلته، إلا أنَّ الله عز وجل قد رفع قدرَ الإمام بعد هذه المحنة، ذلك بأنَّ أهل المدينة قد غضبوا لما جرى للإمام مالك على يد والي المدينة، وجاهروا بانتقادهم للوالي وحتى الخليفة نفسه، وتوتَّرَ الرأي العامُّ داخل المدينة، خاصةً بعد إصابة الإمام بعجز فى يده المخلوعة، وقد جلس الإمام في بيته ولم يخرج للناس، وشعر الخليفةُ المنصور بمرارة فِعلتِه، فأرسل إلى الإمام مالكٍ يعتذرُ إليه ويتنصَّل مما فعله واليه، ولما جاء أبو جعفر إلى الحجاز حاجَّاً أرسل إلى مالك واجتمع معه وبالغ في الاعتذار له، تطييباً لخاطره وخاطر العامَّة الَّذين غضبوا لإمامهم.

ذكر أبو نعيم الأصبهاني أن مالكا ضرب وحلق وحمل على بعير، وأمر أن ينادي على نفسه فنادى : ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي، وأنا أقول: طلاق المكره ليس بشيء. فبلغ جعفر بن سليمان والي المدينة أنه ينادي على نفسه بذلك، فقال : أدركوه وأنزلوه

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام : وعن إسحاق الفروي، وغيره قال: ضرب مالك ونيل منه، وحمل مغشيا عليه. فعن مالك قال : ضربت فيما ضرب فيه سعيد بن المسيب، ومحمد بن المنكدر، وربيعة، ولا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر

وعن الليث بن سعد قال : إني لأرجو أن يرفعه الله بكل سوط درجة في الجنة

والخلاصةُ أنَّ محنة الإمام مالك تتعلَّق بالدور المنوط بعلماء الأمة في بيان الحق ونشر العلم وإرشاد الناس خاصَّةً وقت النَّوازل، والصبرِ على المكاره واحتمال المشاقِّ والصِّعاب؛ من أجل إظهار العلم وعدم كِتمانه في ظلِّ تهديداتِ السُّلطة الحاكمة، وطلبها الدائم بكتمان هذا العلم الذي قد يُمثِّل إحراجاً وضغطاً على هذه السلطة، كما أنَّ للحسد والغيرة المذمومة دوراً بارزاً في أحداث محنة الإمام.

ما قيل عن الإمام مالك

قال البخاري: “أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر”.
وقال سفيان بن عيينة: “ما كان أشد انتقاده للرجال”.
وقال يحيى بن معين: “كل من روى عنه مالك فهو ثقة إلا أبا أمية”.
وقال غير واحد: “هو أثبت أصحاب نافع والزهري”.
وقال الشافعي: “إذا جاء الحديث فمالك النجم”.
وقال: “إذا جاءك الأثر عن مالك فشد به يدك”.
وقال أيضًا: “من أراد الحديث فهو عِيالٌ على مالك”.
وقال: «مالك وابن عيينة القرينان، لولاهما لذهب علم الحجاز».
ورُوي عن عبد السلام بن عاصم أنه قال: قلت لأحمد بن حنبل: «الرجل يريد حفظ الحديث، فحديث من يحفظ؟»، قال: «حديث مالك بن أنس»، قلت: «فالرجل يريد أن ينظر في الرأي، فبرأي من؟»، قال: «فرأي مالك بن أنس». وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: «من أثبت أصحاب الزهري؟»، قال: «مالك أثبت في كل شيء».
وقال الإمام النووي: «أجمعت طوائف العلماء على إمامة مالك وجلالته، وعظيم سيادته وتبجيله وتوقيره، والإذعان له في الحفظ والتثبت، وتعظيم حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه».
وقال الإمام الذهبي: «قد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لأحد غيره، أحدها: طول العمر والرواية، ثانيها: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم، ثالثها: اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية، رابعها: إجماع الأئمة على دينه وعدالته واتباعه للسنن، خامسها: تقدمه في الفقه والفتوى وصحة قواعده».

من كلمات الإمام مالك الخالدة

“كل أحدٍ يؤخذ من قوله ويُتْرَك إلا صاحب هذا القبر”، أي النبي صلى الله عليه وسلم.

وفاة الإمام مالك

مرض الإمام مالك اثنين وعشرين يوماً، ثم جاءته منيته، وأكثر الرواة على أنه مات سنة 179هـ، وقد قال فيه القاضي عياض: «إنه الصحيح الذي عليه الجمهور»، واختلفوا في أي وقت منها، والأكثرون على أنه مات في الليلة الرابعة عشرة من ربيع الثاني منها.وفي رواية عن بكر بن سليم الصراف قال: دخلنا على مالك في العشية التي قبض فيها، فقلنا: «يا أبا عبد الله كيف تجدك؟»، قال: «ما أدري ما أقول لكم، ألا إنكم ستعاينون غداً من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب»، قال: «ما برحنا حتى أغمضناه، وتوفي رحمه الله يوم الأحد لعشر خلون من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة». وصلى عليه عبد الله بن محمد بن إبراهيم أميرُ المدينة، وحضر جنازته ماشياً، وكان أحدَ من حمل نعشَه. وكانت وصية الإمام مالك أن يُكفَّن في ثياب بيض، ويُصلى عليه بموضع الجنائز، فنُفِّذت وصيته، ودُفن بالبقيع.

وقد رثا الإمامَ مالك كثيرٌ من الناس، منهم أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج بقوله:

سقى الله جدثاً بالبقيع لمالك * * * من المُزْن مرعادَ السحائب مبراقُ
إمامٌ موطاه الذي طبَّقت به * * * أقاليمُ في الدنيا فساحٌ وآفاقُ
أقام به شرعَ النبي محمدٍ * * * له حذرٌ من أن يُضام وإشفاقُ
له سندٌ عالٍ صحيحٌ وهيبةٌ * * * فللكل منه حين يرويه إطراقُ
وأصحابه بالصدق تعلم كلَّهم * * * وإنهم إن أنت ساءلت حُذَّاقُ
ولو لم يكن إلا ابنُ إدريس وحده * * * كفاه على أن السعادة أرزاق