الاختراق القيمي

د. عبد الكريم بكار

كان ضعف الاتصال بين أجزاء العالم في الماضي يوفر حماية طبيعية للثقافات الضعيفة من اجتياح الثقافات القوية؛ لكن هذا الوضع آخذ في التغير اليوم على نحو مدهش ومتسارع، فثورة الاتصالات والبث الفضائي وتداخل مصالح الأمم والشعوب، يدفع في اتجاه إيجاد تجنيس واسع النطاق للاهتمامات والقيم والرؤى والعلاقات، ومن هنا فإن على الكثيرين منا ومن غيرنا أن يقبلوا بأشياء كثيرة كانوا يستنكرونها من قبل، كما أن عليهم أن يهيئوا أنفسهم للمزيد من التغير في النظر إلى كثير من الأمور.

القيم هي كل ماله قيمة مادية أو معنوية واعتبارية، وتشكل القيم لدى الإنسان المرشد الأكبر له في دروب الحياة الملتوية، كما أنها تعلمه كيف ينظّم ردود أفعاله تجاه الأشياء والأحداث المختلفة.
تقول إحدى قواعد التواصل الأممي: إنه إذا التقى قويّ وضعيف فإن اللقاء يكون في الأعم الأغلب لصالح القويّ، إذ يمكّنه اللقاء من إبراز جاذبيته وفرض شروطه. وإنّ كثيرًا من القيم لا يستمد قوته من مشروعيته أو عظمته أو سماحته، وإنما يستمدّها من قوة حضوره. وذلك يعود إلى أن وعي الإنسان بعظمة القيم التي لديه ووعيه بما يحتاجه من قيم، يظل ناقصًا وميالاً إلى الغموض. ومن هنا فإن الناس يطربون في نهاية الأمر للصوت القادر على الوصول إلى آذانهم.

نقصد بالاختراق هنا إجبار منظومةٍ قيمية منظومةً قيميةً أخرى على التعرّف على ذاتها من جديد وعلى إعادة ترتيب درجات سلّمها الخاص، كما تجبرها على إحداث بعض التغييرات في إطارها المرجعي. الثقافة السائدة في ديار المسلمين تقوم في جوهرها على تعاليم الإسلام وأدبياته، وهي تتعرّض اليوم لضغوط متنوعة من الثقافات السائدة في الدول الصناعية التي تقود مسيرة التطوّر التقني والاقتصادي، وهذه الضغوط لا تُمارس على ثقافتنا فحسب، بل تُمارس على كل الثقافات التي لا يتمتع أصحابها بموقع في غرفة القيادة الأممية والدولية، ولعلي أوضح معالم هذا الاختراق عبر المفردات الآتية:

1- تكون القيم اليومية على نحو حسن؛ إذ إن تجسيد القيم يشكل لها شريان الحياة الذي لا تستطيع البقاء من غيره. كما أن القيم تكون ضعيفة إذا لم تتمكن من توفير قدر من الإقناع والإرضاء للأجيال الجديدة المتطلعة إلى الجديد والعملي والمريح.

2- يتخذ الاختراق الثقافي والقيمي في بعض الأحيان إجبار الشعوب المخترقة على وضع قيمها أو بعض قيمها موضع تساؤل واستفهام وشرح؛ بغية تأويلها أو تجاوزها. إن القيم أشبه شيء بالصحة، نسأل عنها ونتحسّسها حين نشعر أنها باتت في خطر، ونحن اليوم نطرح على أنفسنا العديد من التساؤلات المتعلقة بعدد من القيم، وذلك مثل:

– هل نحن عاطفيون أكثر مما ينبغي؟
– هل لدينا نظام حكم إسلامي كامل أو مبادئ توجه الحاكم المسلم؟
– ما أسباب انتشار الاستبداد في كثير من بلدان العالم الإسلامي؟
– ما أسباب ما لدينا من نقص من جدية ودقة ومصداقية في مجال الأعمال؟
– ما أسباب ضعفنا العام، وتمزّق شعوبنا ودولنا على هذا النحو؟
وهكذا فإن لدينا عشرات الأسئلة من هذا القبيل، والتي سنختلف في الإجابة عنها، وهذا الاختلاف يشكل الدليل الملموس على وجود الاختراق القيمي.

3- إذا تأمّلنا في القيم السائدة في العالم لما وجدنا كبير اختلاف فيما بينها، وإنما يمكن التباين في ترتيب السُلّم القيمي، وفي مقدار الاهتمام الذي يوليه شعب ما لقيمة من القيم. وعلى سبيل المثال فإن إكرام الجار وبر الوالدين وصلة الأرحام والصدق في القول والوفاء بالعهد من القيم العالمية المعترف بها في كل مكان. والذي يُظهر الخصوصيات القيمية هو تعارض هذه القيم مع قيم أخرى، فإذا كانت -مثلاً- رغبة الزوجة في أن تسكن في بيت منفرد، وكانت رغبة الأبوين أن يقيم ابنهم الوحيد مع أسرته معهم فإن مدى الاهتمام بقيمة الوالدين هو الذي سيتحكم في قرار الزوج. ونحن نعرف كيف يحدث التبدّل الآن بالنسبة إلى هذه القيمة، فقد كان من غير المقبول قبل خمسين سنة أن يترك الشاب بيت أبويه إذا تزوّج، ثم صار ذلك مقبولاً. وصارت إقامة الأبوين عنده شيئاً معقولاً. والآن فإنّ كثيراً من الأبناء يفضلون إسكان آبائهم وأمهاتهم في دور منفصلة والإنفاق عليهم، أو التخلّص منهم بإلجائهم إلى الذهاب إلى بيوت كبار السن…!

ولعلنا نلاحظ اليوم أننا نركز في تثقيفنا وفي تربيتنا على امتلاك المزيد من (القوة) على حساب الاهتمام بقيمة (الرحمة)، كما صار للنجاح والثراء مساحة متسعة على حساب مساحة التقوى والورع؟ اليوم مساحة الاهتمام بخدمة الذات على حساب قيمة خدمة الناس، ومساحة اللهو و (الفرفشة) والمتعة وإرواء حاجات الجسد على حساب مساحة الاهتمام بالسمو الروحي والتأنّق الخُلُقي، وصار الحديث عن الفضيلة والمروءة يلقى نوعاً من الاستهجان لدى بعض الناس… وهكذا.

إن هذه القضية ليست واضحة في ذهني بالقدر الكافي، لكن أحببت إثارة الاهتمام حولها بغية توليد وعي جديد بمسألة التبدّل القيمي حتى نسعى إلى تجديد قيمنا وتحصينها بالطريقة التي تتلاءم مع مبادئنا ومثلنا العليا.

والله الموفق