الحج مدرسة التضحية

الحمد لله حمداً يوافي نعمه، ويكافئ مزيد فضله، حمداً كالذي نقول، وخيراً من الذي نقول، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، والصلاة والسلام علي سيد الخلق، وحبيب الحق، وخاتم الرسل، وعلي إخوانه من الأنبياء و المرسلين، وعلي آل بيته الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين وبعد.

عندما تقترت الأيام المعلومات، وتدنو الأيام المعدودات وتهل شهور الحج، تهيج أشواق المسلمين في كل أصقاع الأرض، وتهفوا الأرواح لزيارة بيت الله الحرام، والطواف بالكعبة المشرفة، والسعي بين الصفا والمروة، والصلاة في مقام إبراهيم، والشرب من ماء زمزم، وزيارة قبر الرسول الكريم محمد صلي الله عليه وسلم. وهذه المشاعر المرتبطة بهذا المكان المقدس، وقلوب الملايين التي تهفو إليه هي في الحقيقة أحد الآثار المباركة لهذا الدعاء المبارك من أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (إبراهيم: 37). وهي ثمرة عظيمة من ثمار التضحية والثقة المطلقة بالله تعالي. عندما ترك إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر عليها السلام، وابنه الرضيع إسماعيل عليه السلام، سألت الزوجة المؤمنة زوجها النبي الكريم: آلله أمرك بهذا؟. قال: نعم. قالت: إذاً لن يضيعنا. فتركهم إبراهيم عليه السلام وهو يدعو بهذا الدعاء فكان من بركته ما قصه التاريخ وما يشهده الناس إلي يومهم هذا. فمن توكل علي الله كفاه، ومن آوي إليه فقد آوي إلي ركن شديد.

إن قصةالحج هي قصة التضحية من هذه الأسرة النبوية المجاهدة، فكانت أول التضحيات هذا التسليم المطلق لأمر الله، والرضا بقضائه، والقبول من الأب والأم بالبقاء وسط هذه الصحراء الجرداء الموحشة، بلا أنيس ولا جليس إلا استشعار معية الله وحفظه، والثقة في حكمته ورحمته، ثم يأتي إبراهيم عليه السلام بعد سنوات طويلة، ليرفع قواعد البيت الحرام مع ابنه إسماعيل، وهم أيضاً يلهجون بالدعاء لله تعالي أن يتقبل منهم ويتوب عليهم ويصلح لهم الذرية ويجعل فيها رسالة الإسلام متصلة باقية: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة: 127 – 129).

وتتواصل سلسلة التضحيات عندما يأمر الله تعالي نبيه إبراهيم عليه السلام في رؤيا منام أن يذبح ولده إسماعيل، وقد بلغ مبلغ الرجال، واشتعل رأس إبراهيم عليه السلام من الشيب، فكبر سنة، ورق عظمه، ووهنت قوته، وزادت حاجته إلي ولده الذي حرم من رؤيته والعيش معه كل هذه السنوات؛ فلما رآه بعد غيبة طويلة، وسعد بشبابه وقوته وإيمانه وتقواه، وشاركه في بناء البيت الحرام، يأتي الأمر للأب أن يذبح ولده بيده، وهو أحوج ما يكون إلي عونه، وهو أحب أهل الأرض إلي قلبه، وتعلم الأم العجوز بالأمر، ويعلم الشاب المحب للحياة بالخبر؛ فماذا كان موقفهم؟! ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ (الصافات:102 – 107).

لقد كان التسليم المطلق لأمر الله تعالي من جميع أفراد الأسرة هو باب الفرج، وكان الاستعداد الحقيقي للتضحية في سبيل الله هو الطريق إلي النجاة والفداء ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ وكانت شعيرة الأضحية تخليداً لهذه الذكري العظيمة، ذكري هذه الأسرة العظيمة التي هزمت الشيطان، واستعلت علي رغائب الدنيا، وحققت قمة الكمال الإنساني بالاستعلاء علي الغرائز المختلطة باللحم والدم والعصب، فقد استعلي إبراهيم عليه السلام علي غريزة الأبوة، واستعلت هاجر عليها السلام علي غريزة الأمومة، واستعلي إسماعيل عليه السلام علي غريزة حب الحياة؛ فكانت التضحية، وكان الفداء، وكانت هذه الشعيرة تخليداً لهذه الذكري.

إن هزيمة الشيطان هي بداية الفرج، وامتلاك النفس هو بدايةالنصر، والتضحية أساس الدين ولب العقيدة، فلا يقوم الدين، ولا تنتصر العقيدة بغير تضحية، وأصحاب العقيدة يحبون دينهم أكثر مما يحبون أنفسهم، ويرون حياتهم قليلة حين يقدمونها في سبيل الله، وما أجمل نشيد الإخوان الذي يصل الحاضر القريب بالماضي البعيد.

تهـــــــــون الحيــــــــــــــاة وكــــــــل يهــــون

*****

ولكـــــن إســــــــــــــــــــــــلامنـــــا لا يهــــــــون

وهي نفس المعاني التي أنشدها خبيب بن عدي رضي الله عنه قبل قرون والسيف علي هامته ينتظر أجله:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً

*****

علي أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشـــــــــــــأ

******

يبــــــــــــــارك علي أشلاء شــــــــلو ممــــــزع

وهي نفس المعاني التي أنشدها من بعد العلامة القرضاوي، وكأنها تخرج من مشكاة واحدة، تصل اللاحق بالسابق:

ضع في يدي القيد ألهب أضـــــــــــلعي

*****

بالسوط ضع عنقي علي السكين

لن تستطيع حصار فكري ساعة

******

أو طمــــــس إيمانــــــــــي ونـــــــــور يقيـــــــــني

فإيمـــــــاني بقلـــــــبي وقلـــــــبي فـي يــــــــــدي

******

ربـــــــــــــــــي وربــــــــــــــــــي نــاصـــــــــــري ومعيــــــــــني

سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي

******

وأمــــــــــــوت مبتســــــــــــماً ليحيــــــا ديـــــــــــني

إن طريق الدعوة ليس مفروشاً بالورود، ولكنه طريق طويل، كثير العقبات، عظيم التبعات، مليء بالمنزلقات والمنعطفات، ناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، ونشر بالمنشار زكريا، وقدم رأس يحيا مهراً لسالومي البغي، وطورد موسي بجيش جرار، وأخرج فيه محمد وأصحابه من ديارهم وأموالهم، صلاة الله وتسليماته عليكم أيها الرهط الكريم، ومن سار علي دربكم من الجهاد والتضحية إلي يوم الدين.

فمن أراد أن يسير في هذا الطريق فليذكر ذلك جيداً، وليذكر معه أن الله تعالي قد خلد في الحج أبرز سمات وخصائص طريق الدعوة وهي التضحية؛ ليكون علماً لهذا الدين، وعنواناً له؛ فلا معني لإيمان لا يتبعه عمل، ولا قيمة لتدين لا يعتمد علي التضحية لنصرة الدين، فالأديان لا تنصر بالمجان، والعقيدة لا ترتفع بلا أثمان، وليس من قبيل الصدفة أن نقرأ في سورة الحج قوله تعالي: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية40).