مقدمة

الداعية الصابر الحاج أحمد البس عضو مكتب الإرشاد سابقاً
لقد كان الحاج أحمد البسّ نموذجاً رائعاً وقدوة حسنة للدعاة، في علمه وخلقه، ودينه وتقواه وسيرته ومعاملته، وكان التواضع والبساطة والكرم والبشاشة، من صفاته التي لا تفارقه، وهي قدر مشترك ينتظم معظم دعاة الإخوان المسلمين؛

وبخاصة الذين تربوا على يدي الإمام الشهيدحسن البنا ومرافقيه فترة من الزمن، فهذا الجيل له من الأخلاق العالية، والنفوس الكبيرة، والصلاح والتقوى، والصبر والثبات والعمل الدؤوب في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، نصيب كبير وجهد متواصل، وباع طويل، وعمل مُتقبل مشكور بإذن الله.

إن الأستاذ المربي والداعية الحليم الحاج أحمد البسّ كان له في نفوس الإخوان وبخاصة الشباب والطلاب منزلة ومكانة الأب والموجه والأخ والمعلم، حيث يحبونه غاية الحب، ويستجيبون لتوجيهاته التربوية دونما تردد، ويسيرون في ركاب الدعوة باندفاع وحماس حيث يرون في أستاذهم القدوة الحسنة؛

فقد كانت الدعوة إلى الله هي همُّه بالليل والنهار، وقضايا الإسلام والمسلمين، هي شغله الشاغل، وقد وفقه الله لزوجة صالحة ومربية فاضلة كانت السند القوي، الذي يشد أزره، ويؤيد منهج الإخوان المسلمين، وكانت خدمتها لأبناء الدعوة لا تقل عن رعايتها لأولادها الذين وفق الله لتنشئتهم تنشأة صالحة، على مبادئ الإخوان المسلمين، فكانوا قرة عين للوالدين في البر والوفاء والصبر والثبات.

حياته
لقد ولد أستاذنا الحاج أحمد البس سنة 1915م ببلدة “القضابة” مركز “بسيون” في محافظة الغربية، وبعد إكماله الدراسة، عمل مدرساً في حقل التدريس ثم مدير مدرسة، ثم موجها بوزارة التعليم.

تزوج زوجته الأولى (وكانت ابنة خالته) وهو في السابعة عشرة من عمره، في عام 1935م غير أن هذا الزواج كما يصف لم يدم طويلاً، بسبب عدم تقدير المسؤولية من الطرفين، فانفرط عقد الحياة الزوجية وبعدها عزف عن الزواج مرة أخرى، وكان والده يغمره بالحب والعطف، فألح عليه حتى تزوج من زوجته الثانية، وهي كريمة الشيخ “سليم إبراهيم رامون” و هي من عائلة كبيرة في الريف.

التحق بركب جماعة الإخوان المسلمين سنة 1939م، فعاش كل محن الجماعة، وقضى في سجون مصر سواء في العهد الملكي (أثناء تولي إبراهيم عبدالهادي) وآخر الأربعينيات أو في عهد الجمهورية (جمال عبدالناصر) قرابة ربع قرن من الزمان كان فيها صابرا محتسبا آمنا مطمئنا، لم يهن ولم يضعف ولم يعط الدنية في دينه، وبقي على العهد حتى لقي ربه مأجورا إن شاءالله.

ومن توفيق الله له في السجن أنه كان يحفظ القرآن الكريم كله وهو في سن العاشرة، وقد نسيه، وحين دخل السجن استعاد حفظه كاملاً في أربعين يوماً، وواصل قراءته كل عام سبعين مرة، وظل كذلك بعد خروجه من السجن، بحيث كان يقرأ القرآن الكريم كل عام خمسين أو ستين مرة حتى لقي ربه سنة 1992م عسى الله أن يجعل تلاوته للقرآن ذخرا له في السماء.

في داخل الزنزانـة
كان الأعتقال الأول عامًا ونصف عام من 5 فبراير1949م، حتى 6 يونيو1950م ولم يمكث كثيرا حتى اعتقل ثانية يوم الأربعاء 13 يناير1954م مع مجموعة كبيرة من الإخوان، كان على رأسهم المستشار الهضيبيالمرشد العامللإخوان وظلوا داخل المعتقل، حتى أفرج عنهم يوم 26 مارس1954م؛

لكن ما كاد يخرج حتى استشعر بأن الحكومة وعبد الناصر يخططان لتوجيه ضربة قوية ضد الإخوان فقرر على إثر ذلك المبيت خارج البيت كل يوم وصدقت مشاعره، فوجه عبد الناصر ضربته للإخوان بعد حادثة المنشية، وعلى إثرها اختفى الأستاذ البس حتى اعتقل بعد عشرة أشهر ولم يعد لبيته منذ خروجه، إلا بعد ثمانية عشر عاماً، في 14 يناير1973م.

يروي الأستاذ الحاج أحمد البسّ عن بعض أحوالهم في السجون فيقول:

“رُميتُ في زنزانة إلى العشاء، ثم دُعيت للتحقيق على يد الضابط “أحمد صالح داود” وأجلسوني تحت قدميه، وأمرتُ بخلع ملابسي جميعاً، وطرحت أرضا على بطني، وانهال الضربُ على كل أجزاء جسمي، ثم أتوا بالعروسة الخشب وربطوني بها ونقشوا ظهري بالكرابيج، وكانوا يمرون علينا بالأسياخ المحماة ويلمسون أجسامنا حتى تبرد الأسياخ، فيأتون بغيرها حتى صرنا لا نحس بالحرارة؛
ولكن نسمع صوتها وهي تلمس الظهر أو الكتف أو الإلية، واستمر هذا التعذيب طوال الليل، وفي يوم من الأيام دعونا إلى الخروج من الزنازين إلى ساحة العنبر ثم الصعود مرة أخرى وبسرعة، وهكذا صعود ونزول سريع، مع الضرب بالكرابيج، وكان الجزء الأعلى من جسمي مكشوفا، لعدم قدرتي على لبس شيء عليه، لأنه يلتصق بالجروح؛
وفي مرة ونحن نصعد السلم ظن أحد الإخوان أني ألبس ملابسي، فأمسك بظهري ليستعين على الصعود، فقطع جلدي من رقبتي إلى أسفل بأصابعه وقد كان ذلك سهلاً لوجود القيح أسفل الجلد في جميع ظهري فانكشفت عظامي، فأخذني أحد الإخوان الأطباء المسجونين معنا، وأمرني بالنوم على بطني، وأخـــذ يرد جلد ظهري إلى مكانه؛
وقال لي الأخ الطبيب لقد أنقذك الله من الموت لأنني حين أرجعــت الجلد إلى مكانه قذفت القيح من تحته، ولو بقي هذا القيح يوماً آخر لوصل إلى صدرك ومت، وإن ما فعله الأخ الممسك بظهرك، كان رحمــة من الله بك.
وحين رحلت من السجن الحربي إلى ليمان طرة وجدت قرابة المائتين من الإخوان من بينهم منير الدلةوسيد قطبومحمد يوسف هواشوحسن أيوبوحسن دوحوصالح أبو رقيقوكمال خليفة وغيرهم من الرجال الصابرين.
وفي يوم 1-6-1957م فوجئنا بحشد من الجنود والضباط، وبكميات من الذخيرة والأسلحة، والعصي والسياط، وكان ذلك عقب إحدى الزيارات حيث أدخل الإخوان الزنازين عصر الأمس وأخرجوا صباح هذا اليوم وقيدونا بالسلاسل الحديدية، التي تتسع كل واحدة منها لعشرين أو ثلاثين أخاً؛
وبدؤوا بالسلسلة الأولى التي ضمت عبد الحميد الخطابي وأحمد البس وعبد الرزاق أمان، وهكذا تم سلسلة خمسة عشر أخاً، ثم توقف مجيء الإخوان من الزنازين، لأنهم أدركوا أن هذا الأمر لتصفيتهم جميعاً، حين خروجهم للجبل مسلسلين؛
فما كان من إدارة السجن وعلى رأسها السيد والي إلا إصدار الأوامر بإطلاق النار على الإخوان وهم داخل الزنازين واستمر إطلاق النار قرابة الساعة، وكانت الحصيلة 21 قتيلاً، و 22 جريحاً، وخشي المنفذون أن يكون أي تحقيق من النيابة فأخذوا يوسِّعون مكان الطلقة بالسكاكين، ليوهموا المحققين بأن الأمر معركة بالسكاكين بين الإخوان أنفسهم؛
وفي اليوم التالي خرج 21 نعشاً ليلا تحت الحراسة المشددة للدفن، وجاء صلاح الدسوقي ليهنئ قائد السجن السيد والي وزملاءه عبد اللطيف رشدي والنصراني متى وأحمد صالح داود وعبد العال سلومة وغيرهم، وقال أحد الضباط إن المذبحة بأمر السيد الرئيس جمال عبد الناصر، لأن الإخوانبالأردن أفسدوا الانقلاب الذي دبَّره ضد الملك حسين، فانتقم من الإخوان المسجونين بمصر مقابل ذلك.
وفاء زوجة
يقول الأستاذ البس

“لما دخلت السجن عام 1954 أيام عبد الناصر وحكم علي بالسجن عشرون عاماً. فصلت من عملي كمدرس، ولم يبق لأسرتي مصدر للدخل من راتبي الذي قطع عنهم، وبعد مدة طويلة من السجن سمح لأهالينا بزيارتنا في السجن وجاءت زوجتي ومعها أبنائي وبناتي مظهرهم طيب وملابسهم قيمة؛
فبعد أن سلمت على زوجتي يرحمها الله وقبلت يدي، سألتها عن مصدر الأموال التي تعيشون بها، قالت وبغير تردد: فضلة خيرك يا حاج، نبيع الأرض ونصرف على البيت، فشجعتها على ذلك، وقلت لها: بيعي كما تريدي، المهم أن تعيشي أنت والأولاد سعداء (وكنت أظن ساعتها أنها تبيع من الأرض التي ورثتها أنا عن أبي)، وظللت كل زيارة أسالها عن الأموال هل تكفيكم؟
وهي في كل مرة تقول: الحمد لله فضلة خيرك يا حاج، ثم يستطرد قائلاً: في أوائل السبعينيات: خرجت من السجن دون أن تعلم أسرتي بساعة خروجي، وسافرت من القاهرة إلى طنطا حيث توجهت إلى منزلي. فوجئت بي زوجتي فطارت فرحاً، وقبلت يدي كما تعودت، وبعد سلامي على أولادي طلبت مني أن أدخل إلى حجرة النوم لأستريح بعض الوقت الذي ستقوم خلاله هي بإعداد طعام لي .
وعندما دخلت حجرة نومي وجدت حصيرًا وغطاء على أرض الغرفة، سألتها وأنا في غاية الدهشة: أين سريرك النحاس يا حاجة؟ أين السراحة؟ أين الكمودينو؟ فنظرت إلي بابتسامة وكأنها تواسيني وتقول: كله يرجع في عزك يا حاج، وإذا بي أراها تضع طبلية خشب على الأرض عليها أطباق بلاستيك كل طبق من لون مختلف سألتها: أين حجرة السفرة وأطباق الصيني بتاعتك يا حاجة؟ قالت: كله سيرجع في عزك يا حاج!
وعندما ألححت عليها أن تقص لي ما حدث. حدثتني أن أهلي لم يوافقوا على بيع أرضي للإنفاق على أسرتي (لأنه في الريف من العيب أن يبيع الرجل أرضه فيعيره أهل البلد بذلك)، فقامت هي ببيع أرضها التي ورثتها عن والدها، وقامت بإنفاقها على البيت والأولاد، وبعد أن باعت أرضها كلها بدأت ببيع أثاث البيت، حتى وصل الحال إلى ما رأيت.. ووالله ما عانيت يوماً ولا امتنت عليّ يوماً بما فعلت، وذلك أثناء غيابي في السجن، وقمت بحمد الله بعد خروجي بشراء أثاث للبيت وشراء الذهب الذي كانت تقتنيه وباعته من أجل بيتي وأولادي” (5) .
ويضيف قائلاً: “كانت تمر علينا سنوات لا أراها أو أحد من أولادنا، وتعددت البلاد التي سجنت بها، وكانت الزيارات تمنع أحياناً، وبعد أن خرجت من السجن وجدت زوجتي أزكى ما تكون زوجة، وأفضل ما تكون شريكة حياتي، كل خصلة تركتها تحت يديها نمت وازدادت، وكل جرح تداوى؛ الأولاد أحسن ما يكونون خلقاً وعلماً وأدباً”.
“ولكن كل ذلك لم يعلم به أحد، ولم يصل إلى ذل النفس ومد اليد، كل هذا الخير صنعته هذه الزوجة الكريمة، رغم تقصير كثير ممن كان يمكن أن يساعدوا من غير أن يجرحوا كرامتنا؛ لأنهم أهلنا ولكن الله أراد محنتي مصحوبة بالعزة والكرامة، ولا يكون لأحد فضل إلا الله جل وعلا.. فإيمان الزوجة أن تجوع وتمرض وتسافر وتحزن وتتألم وتكدح وحدها، وسط هذه المحنة الطويلة العميقة بعيداً عن أسماع الناس وأبصارهم” (6) .
لم يكد الأستاذ أحمد البس يخرج من محبسه حتى عمت الفرحة أرجاء البيت بقدوم الطير الغائب، وبالرغم من اقترابهم على الستين عاماً، إلا أنها ظلت ترمقه بالعطف والحنان وتحنو عليه كما تحنو الأم على ولدها، حتى توفاها الله أواخر السبعينيات، فأسكب عليها الدمع مدرارًا لفراقها، وظل وفياً لها ولدعوته حتى توفاه الله عام 1992م.
مسيرة حياة
تولى رئاسة الجمعية التربوية الإسلامية بعد تقاعده وهي جمعية أقامها الإخوان المسلمون بمصر للاهتمام بشؤون التربية والتعليم في مدارس الإخوان على مستوى الجمهورية، كما كان من نواب الإخوان في البرلمان في انتخابات 1987م، حيث اكتسح خصومه في الدائرة الانتخابية، وفاز بفارق كبير بالأصوات على مرشحي السلطة رغم الأمكانيات المسخرة لهم؛

وكانت مواقفه وإخوانه النواب في المجلس، تمثل نبض الشعب المصري، وصوت الإسلام المدوِّي، وكلمة الحق المجلجلة، في وجه الظلم والطغيان، وتطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، ورفع المعاناة عن الشعب، وتربية النشء وفق منهج الإسلام، والتصدي لأعداء الدين في الداخل والخارج من اليهود والصليبيين والعملاء والمأجورين والملاحدة والشيوعيين والفسقة والعلمانيين.

رحلة داخل كتاب
يقول الأستاذ جابر رزق في مقدمته لكتاب “الإخوان المسلمون في ريف مصر ” لمؤلفه الأستاذ أحمد البسّ ما نصه:

“إن تاريخ جماعة الإخوان المسلمين هو في حقيقته تاريخ هذا الجيل الذي رافق الإمام الشهيدحسن البنا في إقامة هذا الصرح الشامخ، وواصل المسيرة مع الإمام الممتحن حسن الهضيبي، وصابر وثبت على الحق، حتى جاء فرج الله، فخرجوا من السجون والمعتقلات، مرفوعي الرؤوس، لم يحنوا رؤوسهم لطاغية أو لجبار، وواصلوا السير مع المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني الذي استطاع على مدى الخمسة عشر عاما الأخيرة، أن يعيد للجماعة وجهها الوضاء ويدحض كل ما ألصق بها من تهم وافتراءات، وأصبحت جماعة الإخوان المسلمين واقعاً فعلياً في الساحة المصرية كأقوى قوة اجتماعية مؤثرة في المجتمع المصري”.
وفي كتابة القيم “الإخوان المسلمون في ريف مصر ” تحدث عن تاريخ انتسابه للإخوان المسلمين سنة 1939م، حيث يقول:

“في يوم من أيام عام 1939م خرجت من منزلنا بالقضابة سائراً مع صديق لي هو عبد المجيد الخلالي، فقابلنا الأستاذ محمد إسماعيل حتاتة، الذي أعطانا إعلانا صادراً عن جماعة الإخوان المسلمين (فرع طنطا) ثم قدم المهندس عبد السلام فهمي، والأستاذ محمود العجمي من الإخوان المسلمين وخطب كل منهما في مسجد من مساجد “القضابة”، وقد التقينا بهما، وسألناهما عن الفرق بين الإخوان المسلمين والشبان المسلمين، وما المقصود بدعوة الإخوان المسلمين.
وحين شرح الله صدورنا اتخذنا مقرنا في البيت في حجرات الضيوف كشعبة من شعب الإخوان المسلمين وزارنا فيها الأستاذ عبد الرحمن البنا ثم انتقلنا إلى مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، حيث اشتركت مع زميلي عبد المجيد في البناء مع العمال، فكانت في الصباح لطلبة تحفيظ القرآن الكريم، وفي المساء لاجتماعات الإخوان المسلمين، وقد زارنا الإمام الشهيدحسن البنا، حيث صلى بالناس العشاء والتراويح، وسألهم كم عدد ركعات التراويح يصلون؟
فقالوا عشرين، فصلى بهم عشرين، مع أنه يصلي بالمركز العام بالقاهرة ثماني ركعات ، وقد سارت الأمور في القضابة، إلى أن صدر قرار من إخوانطنطا أن أنتقل إلى شعبة “بسيون” للإشراف عليها وكانت تضم حوالي عشرين قرية وبقيت فيها من سنة 1939م إلى سنة 1954م حيث أنشأنا مستوصفا وفرقة للجوالة ساهمت في مكافحة الكوليرا سنة 1947م ومسجدا للصلوات الخمس والجمعة وداراً للسيدات ومدارس الجمعة للأطفال والناشئة ومدرسة ليلية للبنين ولجنة للمصالحات، وفض المنازعات بين الناس، ولجنة الحفلات والندوات، ولجنة تعاونية زراعية وتجارية ونادي للشباب ومآدب الإفطار في رمضان… إلخ”.