ولد الشيخ محفوظ بن محمد نحناح  يوم 27 يناير 1942 بمدينة البليدة.

تميزت عائلته بالمحافظة على اللغة العربية و التمسك بالإسلام، نشأ في أحضان القرآن الكريم و في أحضان اللغة العربية على يد علماء أفاضل وأساتذة مبجلين.

شارك الشيخ محفوظ نحناح في ثورة التحرير وكان أحد فتيانها في البليدة إلى غاية 1962 و قد عاش فترة الثورة المسلحة بين المجاهدين، كما شارك في المظاهرات الشعبية الجماهيرية إلى جانب الشهيد محمد بوسليماني ومحمد بلمهدي، وينبغي أن نسجل أن الشيخ لم يتجه إلى المطالبة بالحقوق التي طالب بها الكثير بعد الاستقلال.

مراحل التكوين والبناء

لقد مرت مراحل تكوين الشيخ محفوظ نحناح الفكري والسياسي بعدة مراحل:

1- كانت مرحلة النشأة الفكرية، وهي مرحلة التفاعل الحضاري الذي فرضه الاستعمار على الأمة الإسلامية، وولد فعلاً جهاديًا فكريًا ثقافيًا، رفض القابلية للاستعمار والخضوع له، وقاد هذا الفكر مجموعة من الفطاحلة، أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وعبد الحميد ابن باديس، والبشير الإبراهيمي، ومالك بن نبي، وأحمد عرابي، والبارودي، والشيخ المودودي، والشيخ السباعي، وعلماء العراق ، وعلماء سوريا، وزعمائها الوطنيين، وكذا أمثال الأمير عبد القادر رحمة الله عليه، والشيخ بوعمامة، فهذه الشخصيات كانت نماذج حقيقة من العديد من النماذج التي أثرت في عملية الرفض للمستعمر وفي التبعية، وهذا أنتج أمثال الشيخ محفوظ نحناح، وكان التفاعل يأخذ أكثر من شكل فكري، وسياسي ونضالي، قتال مسلح، وانتفاضات.

2- كانت المرحلة الثانية، وهي مرحلة مشاركة الشيخ محفوظ نحناح في الثورة الجزائرية، هذه المشاركة التي صنعت منه الشخصية الملتزمة بمسئولية التغيير والقادرة على هذا التغيير، لأن الثورة الجزائرية ضربت أروع الأمثلة في القدرة على التغيير بأبسط الإمكانات، لأنها توفرت على الإرادة التي تضمنت قوة الرغبة في الاختيار، كما توفرت على العقيدة، والتنظيم، وضوح الهدف رغم قوة الخصم والعدو، وكل هذا أثر حقيقة في المنظومة الفكرية للشيخ محفوظ نحناح، وحولها إلى منظومة ديناميكية، لا تعيش الترف الفكري ولكن تعيش التغيير الفكري.

3- كانت المرحلة الثالثة وهي مرحلة الاستقلال مرحلة أعطت فرصًا لإطارات الجزائر عمومًا، منها فرص التعليم الجامعي، هذه الفرص الجامعية التي أُعيد من خلالها تكوين إطارات الجزائر التي حرمها الاستعمار من الالتحاق بالدراسة، عوضوها بعد الاستقلال بالالتحاق بمقاعد الدراسة، حيث أصبحت فضاءات التدريس مركزًا حقيقيًا لتفاعل العلم مع التجربة الثورية، وتفاعل العلم مع التجارب العالمية الموجودة، وقد كان الشيخ محفوظ نحناح طالب أدب، وكان من الذين أسسوا المسجد الجامعي الأول ‘مسجد الجامعة المركزية’.

وكان أول من يحاضر فيه الأستاذ المفكر مالك بن نبي، الرجل المفكر الذي أثر في شخصية الشيخ محفوظ نحناح المتميزة، فمالك بن نبي صاحب تجربة فكرية رائدة، وكان صاحب علاقة مع بعض الأنظمة العربية، بحيث تمكن من الإطلاع على عمق تجربة ما بعد الاستعمار من ناحية، وتجربة الثورة الجزائرية من ناحية ثانية، وكان يقدم طروحات لتجديد الفكر ولتجديد النظام العربي والنظام الإسلامي، وفق محور (طانجا – جاكرتا)، ووفق نظرية التحالفات التي كان يطرحها كـ(الآفروأسيوية) التي كانت مقهورة أمام تجاذب قطبي الصراع: الاشتراكي والرأسمالي.

كانت الجامعة محل صياغة الشخصية القيادية للشيخ محفوظ نحناح، والشخصية المستفيدة من التجربة العالمية في الحركة الإسلامية من ناحية ثانية.

ثم جاءت مرحلة الثورة الزراعية أو الثورات الثلاث التي قام بها النظام آنذاك، والذي اتجه وجهة شيوعية اشتراكية، فرضت الوقوف في وجهها، فكان أحد الذين وقفوا ضد ظلم تأميم أملاك الناس، وضد التوجه الأيديولوجي للدولة الجزائرية بعيدًا عن ثوابتها، وضد الضغط الشيوعي على مسار الدولة الجزائرية، التي ارتمت في أحضان الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، بحكم الثورة وبحكم العلاقة مع روسيا والصين وكوبا، كان أحد الواقفين ضد هذا الاتجاه هو الشيخ محفوظ نحناح، والذي زج به في السجن مع مجموعة من خيرة مؤسسي حركته في بداية تأسيسها وفي سنواتها الأولى، ‘التأسيس التنظيمي، والتأسيس السياسي’ رغم المنع القانوني لهذا الموضوع.

مرحلة ما بعد السجن، التي صيغت فيها شخصية الشيخ صياغة جديدة جمعت تجربة ما قبل الاستقلال وتجربة الاستقلال وتجربة الجامعة، وتجربة السجن والمعارضة التي اتخذت أشكالاً حادة في ذلك الوقت، وتجربة السجن في حد ذاتها كفترة للحرية والتفكير لإعادة الحسابات، وبدأت مرحلة ما بعد السجن تنسجم مع تطور كبير جدًا في الصحوة الإسلامية على مستوى الجامعات، وكان خروج الشيخ محفوظ نحناح من السجن بداية مرحلة جديدة لانتشار تنظيم الحركة التي أسسها وتوسع أفقها، وبداية طروحات فكرية متميزة على رأسها فكرة التنسيق العالمي والعلاقة مع التنظيمات الأخرى في الحركة الإسلامية العالمية، وعلى رأسها أيضًا المعارضة للسلطة، وكيفياتها، والإسلام السياسي وغير ذلك من المواضيع التي كانت ومازالت محل جدل حقيقي داخل الساحة الفكرية والساحة الحركية المتأثرة سلبًا وإيجابًا بما يجري في الساحة الدولية من أحداث جسام تستوجب التحليل وتعميق النظر في تفاعلاتها وانعكاساتها، وقد تنبه مبكرًا إلى ما يمكن أن يحصل من اندفاع أو انزلاق يتسبب في زعزعة الاستقرار بفعل فاعل، يقصد إجهاض الصحوة الإسلامية أو إثارة فتنة أهلية، أو الدفع نحو المجهول، خصوصًا وأن التجربة الأفغانية والإيرانية وزوال دولة الصومال ماثلة للعيان.

مرحلة التعددية السياسية في الجزائر

أفرزت التعددية السياسية في الجزائر تحديات جديدة:

أ- التحدي الأول : هو التحدي ضد الإسلام، عندما أصبح الإسلام ممثلاً من عدة أطراف: بعضها متطرفة، وبعضها شعوبية، ووبعضها الآخر يتمثل في احتكار السلطة الجزائرية الإسلام بعيدًا عن ترقيته، مما فرض تحديًا جديدًا على حركة الشيخ وشخصيته، وفي هذه المرحلة نكاد نقول إن شخصية الشيخ ذابت في حركته، وأصبح رمزًا للحركة أكثر منه رمزا للشخصية الخاصة الذاتية المتميز بها.

هذا التحدي على موضوع الإسلام، فرض مسئوليات جديدة: ضرورة حماية الإسلام من التطرف، حماية الإسلام من الغلو، حماية الإسلام من التشويه والانزلاقات التي كان يرى أنها ستعطي مسوغات للأنظمة الجائرة وأزلامها من العلمانيين فرصة الانقضاض على الحصون الإسلامية.

ب- التحدي الثاني : هو المحافظة على الدولة الجزائرية، لأن طروحات التقسيم وطروحات اللادولة، وطروحات الفوضى في إدارة الدولة وتسيير الدولة، فرضت فرضًا جديدًا على الجميع، وهو حماية الدولة الجزائرية من الانهيار بعد عملية الانزلاق، مما اقتضى نوعًا من فقه الأولويات، فقه درء المفاسد المقدم على جلب المصالح، وبرز بما يسمى بالمشاركة، والذي يقوم على أساس واضح هو القول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت، التعاون مع كل الأطراف سواء كانت في المعارضة أو في السلطة، تعاون على أساس المبادئ الوطنية المشتركة، ولعل هذا الموقع أصبح موقع الاعتدال الذي سيعاديه المتطرفون من كل لون.

لقد أدرك محفوظ نحناح أن للتشدد أسبابًا ذاتية وسياسية وتحريكية داخلية وخارجية، لكن الشيخ يفقه جيدًا وبعمق أن آفة التشدد تعود في تكوينها ونشأتها، إلى أن ظرف التحول الذي عاشته الجزائر بعيد الإعلان عن الاستقلال كان أحد المكونات الأساسية لهذه الآفة، كما أن أجهزة الدولة الناشئة الفتية مرشحة لأن تتهم بأنها لم تقم بدورها في التحصين للذات الوطنية، ما عدا التغافل عن بناء المساجد التي تتطلبه وضعية الخروج من قبضة الاستعمار، كما أنها – أجهزة الدولة – لم تُعد الجرعة الكافية لحماية الأسرة والمجتمع والجامعة والإدارة والشباب، وانفسح المجال أمام الدعوات الهدامة والأفكار المادية المستوردة، بما جعل ذلك خميرة الفتن والأزمات، وبتوفر أجواء التغريب تتهيأ طرق الغلو والتشدد، غير أن ثمة من يذهب مذهبًا وجد له مسارات إعلامية تروج له، وهو أن التشدد مرده الفقر، والبيوت القصديرية، وأحزمة الفقراء حول المدن، وانعدام أسباب الحياة الرغيدة والكريمة، فضلاً عمن يقول إن السبب الأوحد: هو القمع، والبطش، والاقتصاد والتهميش وانتهاك حقوق المواطنة، والمحن واتساع هوة فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم، والشعور باللهفة في كسر الجسور بينهما.

في هذه المرحلة تحول الشيخ من شخصية وطنية أو من شخصية قطرية إلى شخصية عالمية، وأضفى هذا حقيقة إضافات على الشخصية في حد ذاتها وعلى الفكر في حد ذاته، فأصبحت اللقاءات والزايارات الدولية التي قام بها والمشاركة المتعددة في إدارة الفكر العالمي وفي مؤتمرات الفكر العالمي أصبحت ذات تأثير مباشر وواضح في مسار وتشكيل شخصية الشيخ محفوظ نحناح، وفي رؤاه السياسية، وفي مواقفه وفي وخطواته النضالية التي لم تستبعد التأثير الإقليمي والتأثير الدولي والتأثير الوطني، ولا تأثير المواقف المتخذة من طرف شخصيته في هذا المستوي وانعكاساتها على الوطن وعلى الإقليم وعلى الإسلام، وعلى التوجه الذي تسير فيه الحركة التي يترأسها الشيخ محفوظ نحناح، حركة مجتمع السلم.

جـ- التحدي الثالث : تحدي الأزمة التي صاحبت الجزائر ، تضاف إلى هذا الموضوع، فالأزمة شكلت في شخصية الشيخ محفوظ نحناح توازنًا آخر، توازن الفتنة، وتوازن الأزمة التي تقتضي رؤىً جديدة، وتقتضي حسابات جديدة، وتأجيل عداوات، وتأجيل خلافات وربما تعاونًا مع الخصوم على أشياء مشتركة أو ضرورات مشتركة مثل ضرورة تمدين النظام السياسي، أو ضرورة التنسيق من أجل المحافظة على الحريات العامة والخاصة، أو ضرورة الإبقاء على الدولة وتقوية مؤسساتها، أو ضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية، أو إصلاح شرعية الحكم المعطوبة، وهو الذي يمكن التمثيل له بالتحالفات التي قام بها الشيخ محفوظ نحناح في أكثر من اتجاه، ودعا إليها في أكثر من مناسبة.

د- التحدي الرابع : تحدي رئاسة الجمهورية الذي كان هو النقلة النوعية التي انتقلها الشيخ محفوظ نحناح في مساره، ومسار الحركة الإسلامية، كأول زعيم إسلامي يترشح لرئاسة الجمهورية ويصوت عليه الشعب بأغلبية ساحقة، ويعرف الجميع ذلك، ولكن التزوير الذي حدث ضده من طرف النظام الذي كان حليفًا له، أثر حقيقة في شخصية الشيخ محفوظ نحناح وفي حساباته، وأثر في مسار الحركة تأثيرًا واضحًا، سواء في تعاطيها مع الضغط أو ردود الأفعال المتولدة لدى الشعب الجزائري اتجاه مثل هذه القضية، أو في موضوع الثقة في السلطة القائمة كشريك للمحافظة على هذه الدولة، التي هي دولة جميع الجزائريين، ومما أثر في هذا الأمر أيضًا، أن وزن الشيخ أصبح في الساحة الجزائرية رقمًا رئيسيًا، لا يمكن للحساب أن يكون بدونه، وهو ما اقتضى لدى خصوم الشيخ وعلى رأسهم متنفذون فاعلون في السلطة القائمة أن يطعنوا في شخصية الشيخ التاريخية وماضيه التاريخي، ويطعنوا في وجوده السياسي بمنعه من حق طبيعي دستوري في الترشح للانتخابات الرئاسية التي أصبح الجميع يعرف أنه إذا ترشح سيفوز بها.

غير أن هذا الموضوع الحساس يجب أن يدرج ضمن مسلسل دولي لافت للنظر: فالسماح لـ أنور إبرهيم في ماليزيا ثم تنحيته وتشويهه، والسماح لـ نجم الدين أربكان وتنحيته ثم حرمانه من حقوقه السياسية، والدفع بالترابي إلى أن يؤسس شبه دولة ثم تنحيته، والضغط على الإصلاح في اليمن وإبعاده من الساحة، وتيسير الطريق أمام الجبهة الإسلامية وقياداتها ثم استبعادها بكل الوسائل الممكنة وإدخالها في النفق المظلم، وإقصاء راشد الغنوشي ومطاردته ومنعه وحصاره إعلاميًا وتشتيت رجاله، هذا وغيره يفرض نظرة فاحصة وتحليلاً عميقًا تتجلى به كثير من الحقائق التي يعجز ضيقو الأفكار أن يوفوها حقها من البحث والاستنتاج.

هـ- التحدي الخامس : تحدي تخريب الإسلام : لقد لاحظ محاولات استبعاد الإسلام من الساحة، ثم محاولات الربط المتعمد بين التسييس والتحزيب، وأدرك أن التحزيب للإسلام ومقدساته يتسبب في مآسٍ على النفس والمجتمع والوطن، وظن التسييس من صلب الإسلام ، وما دام ثمة من يدعو إلى فصل الدين عن الدولة أو إفراغ الدولة من التدين أو احتكار الدولة للدين أو احتكار حزب ما للدين فإن الجميع – وشبه الجزائر- سيقع في أخطار الانقسام والتشرذم والتخلف.

و- التحدي السادس : تحدي الربط بين ما هو طني وقومي وإسلامي : منذ عقد من الزمن تناثرت فكرة الوطنية والقومية والإسلامية حتى بلغ دعاة هذه التيارات إلى درجة الصدام، وضاعت المصالح المشتركة للأوطان والشعوب، وصار هذا الصراع تحديًا أمام الغيورين من أبناء هذا الوطن الإسلامي الشاسع، وبات الربط بين الوطنية والقومية والإسلامية يشكل (أسمنت) استقرار للوطن العربي والإسلامي، وفضيلة الشيخ محفوظ نحناح كان من دعاة هذا الربط عبر التأسيس لفكرة المؤتمرات لتجسير العلاقة بين القوميين والإسلاميين والوطنيين، لتتوج فيما بعد بمؤسسات وتنظيمات ترعى وتجسد الفكرة، لتحقيق مشروع تكامل بين كل أطياف التيارات السياسية في وطننا العربي والإسلامي بما يحقق التنمية والاستقرار.

نشاطه العملي والدعوي

كان رمزاً من رموز الحركة الإسلامية في الجزائر ، ممثلاً لنهج الإخوان المسلمين فيها، وكان عضواً في مكتب الإرشاد، وهو القيادة الجماعية للتنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين، كما كان عضواً في مجلس الشورى العام للتنظيم العالمي.

اشتغل الشيخ نحناح في حقل الدعوة الإسلامية لأكثر من ثلاثين عاماً بدءاً من سنة 1964م بالتعاون مع رفيقه الشيخ محمد بوسليماني، حيث وضعا اللبنة الأولى للجماعة الإسلامية في الجزائر.

قاوم المد الثوري الاشتراكي والثقافة الاستعمارية الفرنسية. وكان من أشد معارضي الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين في توجهاته العلمانية الاشتراكية، ومحاولته فرض النظام الاشتراكي بالقوة على المجتمع الجزائري العربي المسلم، ودعا إلى توسيع نطاق الحريات السياسية والاقتصادية، فاعتقله بومدين، وقدّمه إلى محاكمة عسكرية هي صورة عن المحاكم العسكرية في سائر الأنظمة العسكرية الانقلابية (التقدمية) في الوطن العربي الكبير، واتهمه بمحاولة قلب نظام الحكم، وهي التهمة نفسها في سائر تلك الأنظمة البائدة والحالية، وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً سنة 1975 وتعرّض ومن معه لألوان التعذيب الوحشي، لعله يتراجع عن موقفه ضد الاشتراكية العلمانية، ولكنه أبى وازداد تشبثاً واقتناعاً بموقفه، وكانت صلابته في الحق مثار إعجاب بعض سجانيه وجلاديه، ومثار إغضاب بعضهم الآخر ونقمتهم عليه، فصبّوا عليه العذاب صبّاً.

وبعد انتهاء (التحقيق) وما رافقه من تعذيب وحكم واستقرار في قاع المعتقلات، لم يضع الشيخ محفوظ وقته وعمره سدى في عفونة الزنازين، بل بادر إلى نفسه يعالجها بالقرب من الله، والإقبال على العبادة، وتلاوة القرآن الكريم وحفظه، وتثقيف نفسه، من خلال التهام ما يقع بين يديه من الكتب، وفكّر ملياً في الفكر المطروح، وفي النظريات المطروحة على الشعب من الماركسيين والفرانكفونيين المستغربين، وزادته طروحاتهم الوافدة بعداً عنهم، وتمسكاً بدينه وعروبته، وبدأ يعمل مع من معه من السجناء والمعتقلين، يثير عقولهم، ويحرك قلوبهم، حتى اهتدى عدد منهم على يديه، وتركوا ما كانوا عليه من انحرافات سلوكية، وهذه هي المدرسة اليوسفية، صبرٌ على البلاء والأذى، ودعوةٌ إلى الله، وهداية الضالين، وإقبال على النفس تثقيفاً وتزكية وإعداداً لها لقابل الأيام، ولذلك لم يحقد على ساجنيه، بل سامحهم وعفا عنهم، وهذا ما لم نقدر عليه نحن.

من عجيب أمر الله تعالى في الشيخ محفوظ، أنه عندما كان معتقلاً في مدينة (الأصنام) تعرّضت المدينة إلى زلزال مدمر، ترك الشيخ فجأة في العراء، وقد تساقط كل ما حوله، وفرَّ السجانون ومن بقي من السجناء على قيد الحياة، بينما ظلّ الشيخ محفوظ ساكناً في مكانه، ينتظر عودة السجن والسجانين.

وبعد موت بومدين، أطلقوا سراحه عام 1980 بعد خمس سنين أمضاها في سجون الظالمين.

وقد ساهم في تأسيس رابطة الدعوة الإسلامية مع صفوة من علماء الجزائر ودعاتها منهم الشيخ أحمد سحنون رئيس الرابطة، والشيخ عبدالله جاب الله ، والشيخ علي بلحاج والشيخ محمد بوسليماني ، والدكتور عباسي مدني ، وغيرهم، كما ساهم في تأسيس جمعية الإرشاد والإصلاح سنة 1988م مع زميله الشيخ محمد بوسليماني الذي اغتالته جماعة مسلحة سنة 1994م. ويمتاز الشيخ نحناح بقدرة هائلة على الاتصال والتنقل، فقد زار القارات الخمس داعية وحاملاً رسالة الوسطية والاعتدال، كما طاف كل محافظات الجزائر وأسس فيها أنشطة دعوية وتربوية وخيرية متنوعة.

كما أنشأ الشيخ النحناح “حركة المجتمع الإسلامي” سنة 1991م وانتخب رئيساً، وقد تغير اسمها إلى “حركة مجتمع السلم” بعد صدور قانون جزائري يحظر استعمال وصف “إسلامي” على الأحزاب.

ولقد كانت مواقف الشيخ نحناح تتسم بالاعتدال والتوازن، فقد عارض موقف الحكومة من الانتخابات، كما اعترض على دعاة العنف وحمل السلاح.

وهو الذي صاغ بيان التجمع الإسلامي الكبير سنة 1980م، كما نظم أول مهرجان إسلامي سنة 1988م، ونادى بإنشاء رابطة تجمع كل الدعاة من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية سنة 1989م، كما أنه انضم إلى علماء العالم الإسلامي في توقيع وثيقة ترفض التنازل عن أي شبر من أرض فلسطين واعتبرها وقفاً إسلامياً.

ويعتبر محفوظ نحناح أول زعيم حركة إسلامية في العالم العربي يتقدم للترشح لرئاسة الجمهورية.

والحق يقال: إن الشيخ محفوظ نحناح فيه من مواصفات الزعامة والقيادة ورباطة الجأش وقوة التحمل والصبر على المكاره ما يرشحه للأمور العظيمة والأحداث الجسام.

فهو كفء لذلك، وأهل لتحمل التبعات والتكاليف لأنه من فرسان هذا الميدان.

أفكاره وطروحاته

    من أهم الطروحات التي يدافع عنها الشيخ محفوظ نحناح هي: الشورى ، والديمقراطيه، والتطور، والتسامح، والتعايش، والاحترام المتبادل، واحترام حقوق الإنسان ، ومشاركة المرأة في مجالات الحياة، وحوار الحضارات، واحترام حقوق الأقليات، وتوسيع قاعدة الحكم، والتداول السلمي للسلطة، واحترام الحريات الشخصية والأساسية، والوسطية والاعتدال، وتجسير العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

    وكان يرى ضرورة تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية والشخصية، ويدعو إلى التمييز بين ضرورة وجود الدولة وتقويتها ومنافستها ومعارضتها والمطالبة بخلعها وذهابها عند إساءتها، ويرى أن المشاركة في قاعدة الحكم أولى من الروح الانسحابية أو المعارضة الراديكالية.

    وكان موقفه واضحاً من وقف المسار الانتخابي بالجزائر ويعتبره خطأ كبيراً من الحكومة، ولكنه لا يرى معالجة خطأ الحكومة بحمل السلاح وجزّ الرقاب والحقد والتدمر.

    وفيما يتعلق بالغزو الأمريكي للعراق، فقد كان واضحاً غاية الوضوح، حيث دعا إلى بلورة موقف متقدم لقوى الأمة العربية لضمان حركة المعارضة للاحتلال الأمريكي للعراق ومواجهة إستراتيجيات الهيمنة على الأمة العربية والإسلامية.

    وقد طالبت حركته “مجتمع السلم”” بفتح قنوات الحوار أمام الجميع وإيقاف حملات العنف والعنف المضاد، والتكفل بالعائلات المتضررة من جراء المأساة الوطنية ورفع العقوبات التعسفية التي طالت بعض المواطنين من جراء انتماءاتهم السياسية، وتعويض المتضررين منهم، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وسجناء الرأي، بالتوازي مع إقامة محاكمات عادلة للمتورطين في الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان وكرامة المواطنين. والعمل الجاد والعودة بالبلاد إلى الوضع المستقر الآمن الذي يعيش فيه المواطن وهو آمن على نفسه وأهله من تغوّل السلطة أو استهداف المخرِّبين.

وضرورة انصراف الحكومة إلى تأمين احتياجات المواطنين الجزائريين ورفع العنت والظلم عنهم وتيسير سبل الحياة الكريمة لهم، ولكل طبقات الشعب دون استئثار أو تفضيل لطبقة على طبقة أخرى، أو الاهتمام بشريحة من المواطنين دون أخرى، فالحكومة مسؤولة عن جميع المواطنين دون استثناء أو تمييز.

شيوخه

    لقد تأثر الشيخ محفوظ نحناح ب”مدرسة الإرشاد” التي هي مدرسة الحركة الوطنية، وشعارها: “الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا” كما تأثر النحناح بـ”جمعية العلماء المسلمين” التي هي جزء من الحركة الوطنية، إلا أنها تتميز بالإسلامية التي جعلتها نموذجاً آخر غير النموذج العادي في الحركة الوطنية، ومن زعماء هذه المدرسة الشيخ عبدالحميد بن باديس الزعيم الروحي الجزائر ، والمفسر للقرآن والمصلح والداعية الذي كان سلفي المنهج، صوفي السلوك، مجاهداً ضد الاستعمار، ومن زعماء هذه المدرسة الشيخ البشير الإبراهيمي العالم الفذ في الأدب واللغة والإصلاح والفكر، وصاحب الصولات والجولات الذي نقل حقيقة الثورة الجزائرية، وهموم الجزائر إلى كل أنحاء العالم الإسلامي، ومن زعماء هذه المدرسة أيضاً الشيخ الفضيل الورتلاني الذي تجاوز حدود الوطن ليصبح مصلحاً عالمياً وهو قرين الشيخ الإبراهيمي وأحد السياسيين المحنكين والعلماء الفطاحل والمصلحين المجددين، ترك آثاراً وبصمات في مصر واليمن وسورية وتركيا والجزائر.

    وهؤلاء العلماء الثلاثة من جمعية العلماء المسلمين كان لهم التأثير الكبير في شخصية الشيخ محفوظ نحناح، بالإضافة إلى الأستاذ مالك بن نبي والإمام الشهيد حسن البنا ، والشيخ محفوظي الجزائري والشيخ محمد متولي الشعراوي ، والشيخ محمد الغزالي ، فضلاً عن المؤلفات القيمة للإمام ابن تيمية التي نهل منها الأستاذ النحناح ودأب على دراستها.

هذه الشخصيات والمدارس الفكرية كان لها أبرز الأثر في تكوين شخصية الشيخ محفوظ نحناح وتحديد مسارها وانطلاقها في حقل الدعوة الإسلامية المعاصرة.

    فالإمام الشهيد حسن البنا مجدد القرن الرابع عشر الهجري، الذي نقل فكر الإسلام من النظرية إلى التطبيق، وعمل على وحدة الأمة الإسلامية وتخليصها من الاستعمار بكل أشكاله، كان له تأثير كبير جداً على الشيخ محفوظ نحناح حيث سلك طريقته ومنهجه وأسلوبه في الدعوة إلى الله، لأن الإمام حسن البنا ليس رجلاً محدود العمل في دولة أو قطر، بل كان يملك نظرة عالمية، تجمع بين المعاصرة والأصالة وهذا ما سار عليه الشيخ محفوظ نحناح وبخاصة بعد ارتباطه العضوي بحركة الإخوان المسلمين العالمية.

    وكان يفقه مقولة الإمام الشهيد حسن البنا في توجيه الشباب حق الفقه ويضعها نصب عينيه إذ يقول الإمام البنا: “ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ولا تصادموا نواميس الكون، فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد”.

صفاته

    من صفاته الخَلْقية التي تلفت الانتباه إليه، مظهره الأنيق، فلا تكاد تراه إلا في هندام كامل؛ بذلة حديثة مكويّة، وربطة عنق محكمة جميلة ومتلائمة الألوان مع البذلة، ولحية لطيفة أعمل بها المقص تهذيباً وتشذيباً، وشعرٌ مرّ عليه المشط من قريب، فبدا مرتّباً، وقد زانه الشيب وزاده وقاراً، وحذاء ملمّع.

يستقبلك بابتسامته العريضة التي لا تكاد تفارقه حتى في أقسى الظروف الملمّة به، كالمرض الشديد، والهموم العاتية.

إذا حدّثته عما تعانيه الدعوة والدعاة في بلدك أو ما يصيب المسلمين في العالم من مصائب، سالت دمعته حزناً وألماً.

    منذ اللحظات الأولى معه، تعرف أنك أمام محاور متمرس، ولطيف، يعطيك من الوقت ما تريد حتى تنتهي من شرح فكرتك، ثم يستأذنك في الكلام، ويدلي بدلوه فيه بوضوح، وبلا لفٍّ ولا دوران، تحسّ باحترامه لمحاوره، كائناً من كان، فهو محاور ذكي، وذو عقل منظم يفرض احترامه على من أمامه.

    وتحسّ أنه زاهد في الحديث عن نفسه، وفي أن يرجع الفضل إليها في أي عمل من الأعمال، فهو ليس من الذين يحبّون أن يُحْمَدوا فيما فعلوه أو لم يفعلوه. يبتعد عن الأضواء والمباهاة، ولا يجرّح خصومه وأعداءه، فضلاً عن إخوانه وأصدقائه المخالفين له في الرأي، متأنٍّ، لا يستعجل قطف الثمار في حواره ومواقفه.

هادئ في سائر أحواله هدوءاً يدل على استقرار نفسي.

وذو روح مرحة، ودعابة مهذّبة حاضرة، يلقي النكتة، ويتلقّاها في سرور، وقد يتفاعل معها فيتجاوز الابتسام إلى الضحك الوقور.

متواضع لإخوانه؛ محبّ لهم، يشاركهم في سرّائهم وضرّائهم، ومواقفه مشهودة مع إخوانه التونسيين الممتحنين.

مثقف ثقافة عالية، شرعية، وأدبية، وسياسية، واجتماعية، يظهر هذا في أحاديثه وكتاباته.

يتميز بمرونة عجيبة إلا في الثوابت التي يبدو مقاتلاً شرساً في الدفاع عنها، ومن أهمها، انتهاك حرمات الله، وإراقة الدماء، وفيما يعتقد أنه حق ومصلحة.

شجاع مقدام في الصدع برأيه مهما بلغ تباينه مع الجمهور.

همومه هي هموم شعبه وأمته، وكان من العبّاد، محافظة على الفروض والنوافل والأوراد، ودعوة إخوانه ومن يحبّهم إلى التمسّك بها.

    وكان فصيح اللسان، واضح البيان، بعيداً من الرطانة والعجمة اللتين تسمعهما من الذين رُبّوا أيام الاستعمار الفرنسي على النطق بالفرنسية التي فرضوها لغة رسمية في بلاد العرب والمسلمين في الجزائر. إذا خطب شدّ إليه الأسماع والأبصار، ولهذا كان الشباب يقبلون على المسجد الذي يخطب فيه، ليتزوّدوا منه علماً وأدباً، وفصاحة، وأخلاقاً، وديناً، وسياسة، ووسطية في ذلك كله، فقد كان بمثابة الأب الروحيّ لكثير من شباب الحركة الإسلامية وشيوخها الذين ينشدّون إلى أحاديثه وخطبه وكلماته، ويتبعون أحسنها. تدور الآيات على لسانه وقلمه، منزّلاً إياها منازلها الذكية في البرهنة والتدليل على ما يريد، بشكل مدهش.

ويستخدم المحسنات البديعة استخداماً جميلاً لطيفاً على الأسماع، فتخرج مخرج الأمثال:

“وإن القضاء على هذه العقارب، يفرض تلاقي الأقارب”.

وخاصة في عنواناته التي تذكرك بما كان الأجداد يفعلونه.

يعرض فكرته بعقلانية وتجرد عرض الفيلسوف الحكيم، بحيث يجعل خصمه يذعن له..

ويزن كلامه كأسد جريح.. قال العارفون عنه: إنه سرّ الإخلاص.

مواقفه

لقد كان للشيخ محفوظ نحناح مواقف كثيرة تدل على أصالته وصدق لهجته وعمق فهمه للأحداث وطرح المفاهيم المستقاة من الإسلام كتاباً وسنة، والمأخوذة من مواقف السلف في معالجة ما يستجد من أحداث وقضايا ومشكلات في حياة الناس والمجتمعات وطرح الحلول الناجعة لعلاجها والتصدي للآراء المنحرفة والأفكار البعيدة عن المنهج الإسلامي الصحيح.

    ومن هنا نجد أنه بعد التشاور مع إخوانه وعرض وجهات النظر للقضايا والاستهداء بالكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة، يكون اتخاذ القرار الحاسم في المواقف دون تردد لأنه يرى وإخوانه أن في ذلك مصلحة للأمن والوطن، ومن ذلك دخول الانتخابات التشريعية، بل إنه رشح نفسه لانتخابات الرئاسة سنة 1995م وحصل على المرتبة الثانية بأكثر من ثلاثة ملايين صوت حسب النتائج الرسمية المعلنة.

كما شارك الأستاذ نحناح في العديد من المؤتمرات والملتقيات الدولية في الدول العربية والإسلامية والآسيوية والإفريقية والأوروبية والأمريكية.

    وكان مسار حركته “حركة مجتمع السلم” نبذ العنف والحفاظ على قيم المجتمع الجزائري وتبني الإسلام وثوابت الأمة الجزائرية والسعي لإقامة السلم والوئام الوطني في الجزائر وحماية حقوق الإنسان وكرامة المواطن. والحركة تعتمد الحوار على الحل السياسي وضرورة فتح قنوات الحوار أمام الجميع.

    وقد أدان الشيخ محفوظ العنف بكل صوره وأشكاله سواء من الدولة أو من الجماهير، واعتبر أن هذا غريب عن منهج الإسلام والمسلمين، وكرس جهوده للدفاع عن العقيدة الصحيحة وقيم الوسطية والاعتدال.

    وقد دفعت حركته ضريبة غالية من دماء أبنائها حيث ذهب أكثر من خمسمائة شهيد من إخوانه ومحبيه ومناصريه وعلى رأسهم رفيق دربه الشهيد الشيخ محمد بوسليماني الذي اغتيل عام 1994م على يد مسلحين تكفيريين.

لقد دخلت “حركة مجتمع السلم” الانتخابات النيابية وحصلت على 70 نائباً، كما شاركت في الحكومة بسبعة من الوزراء.

ورغم التدخلات وخلط الأوراق فيما بعد، بقيت الحركة “مجتمع السلم” لها ممثلوها في البرلمان الجزائري وفي الحكومة، وإن كانوا بعدد أقل من السابق.

رحلاته ومحاضراته

لقد كانت للأخ محفوظ على مدار العام رحلات طويلة وقصيرة طوف فيها أرجاء العالم العربي والإسلامي والعالم الغربي وإفريقيا وآسيا، فقد زار الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا وفرنسا والسويد وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وألقى فيها جميعاً محاضرات وعقد ندوات.

كما تعددت وتكررت زياراته ومحاضراته وندواته في المملكة العربية السعودية والكويت وقطر وسورية والأردن والسودان والمغرب وليبيا وغيرها.

وكان في معظم محاضراته يركز على ضرورة الالتزام بالمنهج الوسط والتدرج في الخطوات وعدم الانسياق وراء الدهماء والعوام لأن أهواء العوام لا تهادن كما يقول شيخه محمد الغزالي.

الشخصية المتكاملة

إن اكتمال شخصية محفوظ نحناح في هذا الاتجاه لم يأت اعتباطًا، وإنما جاء من تناغم ثلاثية واضحة، الثلاثة الواضحة هي:

 أولاً: الاستقرار النفسي، ووضوح في الهوية وفي الماهية:

فهو يحرص على تعاطي الخبر والمعلومة، كما يحرص على قراءة وِرْد القرآن، كما يحرص على الاهتمام بشئون حركته، هذا الجانب الشخصي المتميز يطبعه جانب تنظيمي انتشاري واسع مثلته فئات الحركة، وتنوع عطاءاتها الفكرية والثقافية والسياسية والنفسية والرياضية والجمعوية والأدبية التي لم يخل منها موقع من مواقع الجزائر.

ومثلها في المقابل هذا التعاطي مع السلطة الجزائرية، وهو المشاركة بمجموعة وزراء ومجموعة برلمانيين، ومجموعة منتخبين عبر الوطن، كلهم أصبحوا يشكلون أجزاء مهمة في صياغة هذه الشخصية التي تتعاطى مع الحدث، وبنفس محددات الحكمة والهدوء والتوازن ومعرفة الواقع.

وإذ تبدو حقيقة شخصية محفوظ نحناح للمراقب البعيد تحمل كثيرًا من التناقضات، فهي ليست كذلك، وإنما هي شخصية مركبة وذات زعامة تعلو همتها لتتحمل مسئوليتها تحملاً كاملاً في كل الاتجاهات، مما يدفع بخصوم الشيخ محفوظ نحناح- وفي بعض الأحيان حتى محبيه- أن يصرحوا بعدم فهم بعض المفاصل، وليس من اليسير أن يجمع الإنسان بين الحامض والحلو والمر، والحار والبارد في نفس الشيء، إلا إذا كان يحمل قوة مقاومة حقيقية تستطيع أن تؤهله لإدارة هذه المتناقضات، ولذلك كان الزعماء دائمًا يحملون صور الجميع بين مجموعة المتناقضات، هي التي تجعل منهم قياديين وتؤهلهم لإدارة شئون شعوبهم، وتحمل تناقضات هذه الشعوب، وتعمل على التقريب بينها وإيجار التناغم والانسجام بينها بما يستصعبه كثير من الخلق.

ثانيا:-العمل من أجل الجماعة:-

الشيخ محفوظ نحناح لا يمثل شخصًا، ولا يمثل فئة ولا يمثل شعبية ولا يمثل مرحلة تاريخية، بقدر ما يمثل الجميع أو يعمل لصالح الجميع من خلال الاهتمام والانشغال بهموم الجميع، على اختلاف تركيبهم وعلى اختلاف تناقضاتهم، ومن هنا يعمل مع الجميع ضمن قواعد التشاور والتنظيم، والائتلاف والتنسيق والتنازل، ضمن وضوح المصلحة العامة وتغليبها على المصلحة الخاصة، وهذا لا يتأتى إلا بالبحث العميق عن نقاط التلاقي مع محاوريه، واجتناب نقاط التنافر، إلا ما كان متعلقًا بالثوابت والدماء وإثارة تطويق دعاويهم، وتعففًا وتنزها عن الخوض مع الخائضين، ولعل هذا من أحسن الرد على من لا يستحقون ردًا، وكأن لسان حاله يقول: ‘موتوا بغيظكم’ أو: ‘فاصفح الصفح الجميل’.

الإيمان بالاتجاهات المتعددة والأطياف المختلفة:-

فالشيخ محفوظ نحناح لا يؤمن بأسود وأبيض، ولا يؤمن بـ: ‘إذا لم تكن معي فأنت ضدي’، ولا يؤمن بنظرية التطرف، بل يؤمن بنظرية التشارك والتمازج بين الأطياف والأشياء، وتولد عملية التزاوج بين الأطياف ألوانًا جديدة إبداعية رائعة، تستطيع أن تقوم في المجمع وتؤدي أدوارًا أكثر إيجابية.

الشيخ محفوظ نحناح لا يؤمن بحدية الأشياء، وإنما يؤمن بنسبيتها، فليس هنالك صواب مطلق أو خطأ مطلق، وإنما هناك صواب نسبي وخطأ نسبي، حرص نسبي، هنالك أشياء نسبية، وتمسك بهذه النسبية حديث النبي ‘صلي الله عليه وسلم’: ‘إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى’ ‘أخرجه الإمام أحمد والبيقي، ولذلك تعالج أمور شخصيتنا بهذه النظرة، وقد تبدو أحيانًا تحمل بعض التناقضات، ولكنها تحمل حقيقة الانسجام بين المتضادات، والجمع بين هذه المتضادات في نظرية تستفيد من كل ذلك، دون أن تسمح بالتصادم بين جزئياتها.

وهو لا يرى الحق في جهة من الجهات، ولا بالمقابل الخطأ المطلق لجهة من الجهات، ويعتبر الحوار مجالاً مفتوحًا حتى للشيطان، والشيطان هو أكبر ممثل للشر، كان الحوار موجودًا بين أكبر ممثل للشر – وهو الشيطان- وبين الله سبحانه وتعالى، فمن باب أولى أن تكون هنالك مساحات لهذا التعاطي النسبي مع جميع الأشياء

وفاته:-

توفي بعد ظهر يوم الخميس 19/6/2003 بعد مرض عضال عانى منه قرابة سنة.

شيع أكثر من مئة ألف جزائري جنازته بعد صلاة الجمعة 20/6/2003 إلى مثواه الأخير بمقبرة العالية، في الضاحية الشرقية للجزائر العاصمة، حيث ووري جثمانه الطاهر في المربع المقابل لمربع الشهداء، حيث ترقد جثامين العديد من الشخصيات الجزائرية.

رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. والحمد لله رب العالمين.