الطريق لبناء الشجاعة والإقدام

• قال تعالى ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ* قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ .

طرق بناء الشجاعة والاقدام

إن ثورتنا المباركة المنتصرة بإذن الله، يقودها الشجعان الذى انتصروا في معركة الخوف من الباطل وبطشه وجبروته، فقد تخلقوا بالشجاعة والإقدام التى هى في المقام الأول ثورة على الخوف اليأس والاحباط.
« للشجاعة صور كثيرة- الثوار الأحرار في أشد الحاجة إليها – منها : الصراحة في الحق، وكتمان السر وحفظه، والإقرار بالخطأ والاعتراف به، والإنصاف من النفس، والانتصار للغير منها، وملكها عند الغضب، فليست الشجاعة مقصورة على حمل السلاح ومشاهدة الحروب، بل إن حراكنا الثوري يحتاج إلى شجاعة لا تقل عن شجاعة الجنود فى المعركة؛ ومن أكبر مظاهر الشجاعة حضور الذهن عند الشدائد، فالشجاع من إذا عراه خطب لم يذهب برشده، بل يقابله برزانة وثبات ويتصرف فيه بذهن حاضر وعقل غير مشتت ». (الأخلاق، أحمد أمين، بتصرف).
«الثوار يبنون الشجاعة في قلوبهم من خلال التأكيد على المعاني الإيمانية وترسيخها في قلوبهم، فهم يوقنون بأنه لن يكون في كون الله إلا ما قدره الله لهم، وأن الخوف أو التقاعس أو عدم الجرأة والإقدام لن يمنعوا قدراً قد كتبه الله على عبد والثوار يوقنون أن مؤثرات الخوف والجبن كلها وهمية لا حقيقية، وأن مصدر هذا الخوف هو الشيطان الذي يحاول بث الخوف والرعب في الصدور بغية القعود وعدم الإقدام والحرمان من الأجر والمثوبة ولهذا كان التحذير الرباني ( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (ال عمران:175)

أولا: خوض التجربة

الشجاعة بالتشجع كما أن العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، والتدريب العملي علي مواقف الشجاعة يظهر للمرء أن المخاوف أوهام وأن الشجاعة خير من الجبن علي كل حال ؛ فالجبان يموت كل يوم مرات من الوهم والخوف، أما الشجاع فلا يموت إلا مرة واحدة، وخير مثال على ذلك عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه « كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه..؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا، قالوا: إن نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني، فان الله سيمنعني، فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم – رافعا صوته – (الرحمن* علم القرآن) ، ثم استقبلهم يقرؤها، فتأملوه قائلين: ما يقول ابن أم عبد؟ إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم عاد إلى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا، قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون..!! » .
فهذا الشجاع المقدام « من المال معدم، وهو في الجسم ناحل، وهو في الجاه مغمور، ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا من خزائن كسرى وكنوز قيصر..! ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه إرادة تقهر الجبارين، وتسهم في تغيير مصير التاريخ، ويمنحه مكان انزوائه، خلودا، وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!! ». ( موقع الصحابة )
وها هو أبو العلاء المعري يؤكد على خوض التجربة فيقول :
وجدتُكَ أعطيتَ الشجاعةَ حــــقّها ***** غداةَ لقيتَ الموتَ غيرَ هَيوبِ
إذا قُرِنَ الظنُّ المصيبُ، من الفتى ***** بتجربةٍ، جـــــــاءا بعلمِ غيوب

ثانيا : التخلي عن فقه الذل وثقافة الخنوع

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه (مع الله): « والشجاعة في الجهر بالحق تنبعث من اجتماع خلقين عظيمين:
أولهما: امتلاك الإنسان نفسه، وانطلاقه من قيود الرغبة والرهبة، وارتضاؤه لونا من الحياة بعيدا عن ذل الطمع وشهوة التنعم، فكم من داع يُبصر الحق ويقدر على التذكير به، ولكنه يحتبس في حلقه فلا يسمع به أحد.. لماذا ؟ لأنه لو نطق لحُرم من هذا النفع أو لغضب عليه هذا الرئيس، أو لفاته هذا الحظ، فهو – إيثارا لمتاع الدنيا– يلزم الصمت ويظلم اليقين.. ولو كان عفيف النفس، راضيا بما تيسر من عيش، مكتفيا بالقليل مع أداء الواجب عن الكثير مع تضييعه، لكان له موقف آخر، وهاهم أهل البصرة عندما سألهم سائل: بما سادكم الحسن البصرى؟ قالوا: احتاج الناس لعلمه، واستغنى عن دينارهم، فقيل: ما أحسن هذا، وما أحسن قول القائل:

أمتُّ مطامعي فأرحت نفسي ***** فإن النفس ما طمعت تهون

وثانيهما: إيثار ما عند الله، والاعتزاز بالعمل له، وترجيح جنابه على جبروت الجبارين وعلى أعطيات المغدقين، والركون إلى القَدَر(أى قدر الله ) بإزاء أي وعد أو وعيد على أساس أن الرزق والأجل إلى الله وحده»، ثم يستطرد قائلا : « لليقين في هذه الميادين منطق ينفي الجٌبن ويورث الجرأة، فلنكن على يقين بأن ما نقدمه في سبيل الانتصار على هؤلاء الطغاة لهو الثمن الرخيص لمحو الذل وهجران ثقافة الخنوع واستبداله بوصال القيم العالية من الشجاعة والبناء والأخوة والعيش الكريم، ليصدق فينا وصف القائل:

أبوْا أن يفروا والقنا في نحورهم ولو أنهم فـــــــــروا لكانوا أعزة

ولم يرتقوا من خشية الموت سلما ولكن رأوا صبرا على الموت أكرما

إن الثائر الحقيقى يٌوقن أن الأمم التى تحررت دفعت ضريبة التحرر وما ترسّخ العدل فيها إلا بالدماء، فها هي أوروبا لم تشهد الاستقرار ولم تنعم بالحرية إلا بعد حروب طاحنة أكلت الملايين منهم لكنها أثمرت تسليماً بالمساواة في المواطنة وقضت على تسلّط حكم الفرد والكنيسة.

لا تسقني ماء الحياةِ بِذلة ***** بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل
مـــــاءُ الحياة بِذلة كجهنم ***** وجــهنمُ بالــعزّ أطــيبُ منـــزل

ثالثا : الإيمان بالقيم العٌليا للإسلام

المدخل الحقيقي للدين هو تحرير إرادة الانسان، فهل تنتظر من مسلوب الارادة أن يقيم دين، أو يقيم حضارة، أو يبنى أمة. انظر إلى النماذج التى تحررت إراداتها، كانوا بالأمس رعاة للغنم فصاروا رعاة للأمم وصانعوا حضارة.
يقول ربعي بن عامر ردا على سعد ابن أبى وقاص ومجلس حربه عندما أرادوا أن يبعثوا بوفد عظيم من أصحاب الرأي ردا على رسالة رستم الذى طلب الصلح : إن هؤلاء القوم قوم تباهٍ، وإننا لو فعلنا ذلك يرون أننا قد اعتددنا بهم (أي: جعلنا لهم مكانة عظيمة، وأقمنا لهم الهيبة ونحن خائفون منهم)، ولكني أرى أن ترسل لهم واحدًا فقط؛ فيشعروا أننا غيرُ مهتمين بهم؛ فيوهن ذلك في قلوبهم. فتجادل معه القوم، ولكنه ظل يجادلهم حتى قال سعد: ومن نرسل؟ فقال ربعي: سَرِّحوني. أي: دعوني أذهب إليه أكلمه؛ ووافق سعد و بقية القوم، فانطلق ربعي لمقابلة رستم، فدخل بفرسه ووقف على باب خيمته، فطلب منه القوم أن ينزع سلاحه، فقال: لا، أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رَجعتُ. فأخبروا رستم بذلك، فقال: ائذنوا له بالدخول. فدخل بفرسه على البُسُطِ الممتدة أمامه، ووجد الوسائد المُوَشَّاة بالذهب؛ فقطع إحداها، ومرر لجام فرسه فيها وربطه به، ثم أخذ رمحه، واتجه صوب رستم وهو يتكئ عليه، والرمح يدب في البسط فيقطعها، ولم يترك بساطًا في طريقه إلا قطعه، ووقف أهل فارس في صمت، وكذلك رستم، وجلس ابن عامر على الأرض، ووضع رمحه أمامه يتكئ عليه، وبدأ رستم بالكلام؛ فقال له: ما دعاك لهذا ؟ أي: ما الذي دفعك للجلوس على الأرض؟ فقال له: إنا لا نستحب أن نجلس على زينتكم.

فقال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال له: لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قَبِلَ ذلك منا قبلنا منه، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية، وإن رفض قاتلناه حتى نظفر بالنصر. فقال له رستم: قد تموتون قبل ذلك. فقال: وعدنا الله أن الجنة لمن مات منا على ذلك، وأن الظفر لمن بقي منا. فقال له رستم: قد سمعت مقالتك، فهل لك أن تؤجلنا حتى نأخذ الرأي مع قادتنا وأهلنا؟ فقال له: نعم، أعطيك، كم تحب: يومًا أو يومين؟ فقال له رستم: لا، ولكن أعطني أكثر؛ إنني أخاطب قومي في المدائن. فقال: إن رسول الله قد سنَّ لنا أن لا نمكن آذاننا من الأعداء، وألا نؤخرهم عند اللقاء أكثر من ثلاث؛ اختر الإسلام ونرجع عنك أو الجزية، وإن كنت لنصرنا محتاجًا نصرناك، وإن كنت عن نصرنا غنيًّا رجعنا عنك، أو المنابذة في اليوم الرابع، وأنا كفيل لك عن قومي أن لا نبدأك بالقتال إلا في اليوم الرابع، إلا إذا بدأتنا. فقال له رستم: أسيِّدُهم أنت؟ فقال له: لا، بل أنا رجل من الجيش، ولكنَّ أدنانا يجير على أعلانا. وعاد رستم يُكلِّم حاشيته مرة أخرى، ويقول لهم: أرأيتم مَنطِقِه؟! أرأيتم قوته؟! أرأيتم ثقته؟! يخاطب قومه ليستميلهم للصلح مع المسلمين؛ ليتجنب الحرب، ولكنهم رفضوا ولجُّوا، فذاقوا وبال أمرهم.(موقع قصة الاسلام، بتصرف )

طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستكمن، يضفى على صاحبه قوة تنطبع في سلوكه كله، فإذا تكلم كان واثقًا من قوله، وإذا اشتغل كان راسخًا في عمله، وإذا اتجه كان واضحًا في هدفه، وما دام مطمئنًا إلى الفكرة التي تملأ عقله، وإلى العاطفة التي تعمر قلبه، فقلما يعرف التردد سبيلا إلى نفسه، وقلما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه بل لا عليه أن يقول لمن حوله ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) (الزمر: 39- 40). هذه اللهجة المقرونة بالتحدي، وهذه الروح المستقلة في العمل، وتلك الثقة فيما يرى أنه الحق، ذلك كله يجعله في الحياة رجل مبدأ متميز، فهو يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إن رآهم على الصواب تعاون معهم، وإن وجدهم مخطئين، نأى بنفسه، واستوحى ضميره وحده (خلق المسلم، الشيخ محمد الغزالي).

رابعا: التعوذ من الجبن

عن عمرو بن ميمون الأودي رضي الله عنه قال: «كان سعد يعلِّم بنيه هؤلاء الكلمات، كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر، فحدثت به مصعبًا فصدقه» (رواه البخاري). ليقينه أن الخوف والجبن من أهم صفات المنافقين الذين يخشون الموت، ويهابون القتال خوفاً على حياتهم، وخوراً وجبناً من عدوهم، ولهذا وصفهم الله هذا الوصف الدقيق (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا . وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا)(النساء:72-73)

خامسا: الإعداد

فإنه يكسب المرء الثقة بالنفس فتزداد شجاعته؛ والله عز وجل يقول: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ (الأنفال:60) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنِّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان» (رواه مسلم). قال النووي: «والمراد بالقوة هنا، عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى» (شرح النووي على صحيح مسلم).

سادسا: التوكل

تزداد الشجاعة بزيادة الإيمان وما يرتبط به من يقين وتوكل علي الله تعالي؛ واعتقاد جازم أن الموت والحياة بيد الله وحده وأن الموت نهاية كل حي؛ فالأفضل أن يكون في سبيل الله؛ فالشهيد ميت بأجله ولكن لكرامته علي الله أبي إلا أن يكون خروجه المحتوم من الدنيا ودخوله إلي الآخرة من باب الشهادة
يقول قطري بن الفجاءة:

أقول لها و قد طارت شعاعــاً ***** من الأبطال و يحك لن تراعـي
فإنك لو سألت بقاء يـــــــــــوم ***** على الأجل الذي لك لن تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً ***** فما نيل الخلود بمستطـــــــــاع