المبادرون وجه الحياة المتجدد

ليس من المبالغة أن نقول: إن المبادرين هم (وجه الحياة المتجدد) فهم العصابة التي تشق الطريق نحو الأمل، وهم الذين ينفضون غبار الركود المتراكم على الأمة ويزيلون عنها حالة التأسُّن، فتخرج الحياة كل يوم بوجه جديد من آثار جِدهم وجهدهم، ولذا استحقوا حديثاً يزيد من دافعيتهم.

ونعـنـي بالمـبـادرة: «المسارعـة بإدراك الـشـيء قـبل فواته، أو بدفعه قبل وقوعه»، ففي حين تنشط النفْس مع المبادَرة فتكون حية فاعلة نشيطة؛ فإنها مع الركود والتواني تأسن وتتأخر، فتفقد من لياقتها ما يعجِّل لها الهموم ويقضي على عناصر القوة فيها، وتفوِّت معه الفرص، وتتضاعف معه الواجبات.

وقد قيل: (لكل يوم عمله الخاص به)؛ فبادر قبل أن تصبح الخطوط مشغولة.

الفرص فوّاتة، وما مضى لا يستدرك ولا ينفع معه نـدمٌ ولا استـعـتاب، فهـذا ذو الجـوشـن الضـبـابـي دعـاه النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الإسلام بعد بدر وقال له: «يا ذا الجوشن! ألا تُسلِم فتكون من أول هذه الأمة؟ » فامتنع وقال: إن تغلب على الكعبة وتقطنها، قال – صلى الله عليه وسلم -: «لعل إن عشتَ أن تــرى ذلــك». قــال: فو الله إني بأهلي بالغور إذ أقبل راكب، فقلت: من أين؟ قال: من مكة، قلت: ما الخبر؟ قال: غلب عليها محمد وقطنها. قال: قلت: هَبِلَتني أمي! لو أسلمتُ يومئذٍ ثم سألته الحيرةَ لأقطعنيها.

لقد أسلم عكرمة وخالد وأبو سفيان وغيرهم، لكن ذلك كان منهم متأخراً، ففاتهم وصف السبق إلى الإسلام، فليسوا معدودين في أهل بيعة العقبة، ولا ممن شهد بدراً، ولا ممن حضر بيعة الرضوان..ومن وُفِّق للاستدراك فهو على خير، لكن المغبون من انقطعت أنفاسه، وأغلقت دونه الفرصة.

وإذا أراد اللهُ خيراً بالفتى *** سارت خطاه إلى الأمام سِراعَا

لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يوجه إلى استغلال الفرص قبل فواتها أو تعذُّر استغلالها فيقول: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً؛ أو يمسي مؤمناً ويصـبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا»[3].وعن الترمذي – بسند فيه ضعف – إشارة إلى بعض العوائق العارضة المانعة: «بادروا بالأعمال سبعاً! هل تنتظرون إلا فقراً مُنْسِياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال؛ فشرُّ غائبٍ يُنتَظر! أو الساعة؟ والساعة أدهى وأمر! ».

وصدق من قال من السلف: (إذا فُتح لأحدكم باب خير فليسرع إليه؛ فإنه لا يدري متى يغلَق عنه)، فقد يغلق بالموت أو بمانع دونه، وكم من مؤملٍ لما لم يبلغه! «فبادر الأجل بالعمل، فإنه لا عمل بعد الأجل».

إن الفرص الناجحة – كما يقال – لا تتكرر، والموفّق من هُدي لها وأحسن استغلالها، انظر عكاشة بن محصن – رضي الله عنه – ماذا حصل له بالسبق لما ذكر له النبي – صلى الله عليه وسلم – السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فقال عكاشة: ادعُ اللهَ أن يجعلني منهم! فقال: «أنت منهم»، فلما قام آخر يطلب الفضل قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «سبقك بها عكاشة».

قد يكون الفرق بين النجاة والعطب، وبين الفوز والهلكة؛ خطوة، أو حسنة، أو أقل. انظر لقاتل المئة كما في الصحيحين[8] – كيف أنَّ الفارِقَ بين نجاته وهلاكه كانت خطوة واحدة، بل ربما شبراً (فوجدوه أقرب إلى الأرض الصالحة بشبر)؛ (فنأى بصدره إلى الأرض الصالحة).

مواصفات المبادر:

صاحب المبادرة شجاعٌ يُقْدِم دون تردد، فمتى بان الرشد في الإقدام لم يطلب السلامة بالقعود، فطريق المبادرة فيه وُعُورة لكونه غير مسلوك، وفيه وحشة؛ لأن السائر فيه غيرُ مسبوق.

إذا المرء لم يغشَ الكريهة أوشكتْ *** حبـالُ الهوينى بالفتى أن تقطّعا

المبادِر لا ينتظر الأوامر المشدَّدة والحروف المؤكدة، تكفيه الإشارة، بل يكفيه الحَدْس الحي الذي يعيشه؛ فحين يرى وجوه القوم شاحبة وبطونهم خاوية؛ فإنه لا ينتظر منهم طلب السقي والإطعام.

هذا أنس بن مالك – رضي الله عنه – الغلام الحدث، يأتي إلى حلقة النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسجد فيرى النبي – صلى الله عليه وسلم – قد عَصَب بطنه، فيسأل: لِمَ يعْصِبُ النبي – صلى الله عليه وسلم – بطنه؟ فيخبره الصحابة بأن ذلك من الجوع، فيذهب وهو صغير إلى البيت فيثير فيه القضية ويطلب لها الحل، فلا تجد أم سُليم وأبو طلحة في بيتهما إلا كِسَراً من خبز وتمرات، إن جاء وحده – صلى الله عليه وسلم – شبع، فيأتي النبي – صلى الله عليه وسلم – ومعه سبعون من أصحابه، ويشبعون ويبقى فضل… يا ترى ماذا سيكون الحال لو ذهب أنس – رضي الله عنه – ولم ينتبه إلى هذا الحدث ولم يبادر في إيجاد حلٍّ؟

وهذا ابن عباس – رضي الله عنه – ينام عند خالته أم المؤمنين ميمونة يوماً، فيهْدِيه حَدْسه وحُسن تفكيره إلى أن يُعِدّ وضوء النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل أن ينام، حتى إذا قام – صلى الله عليه وسلم – قال: «من وضع هذا»؟ فأُخبِر، فقال: «اللهم فقهه في الدِّين».

صاحب المبادرة النافعة يملك نوعاً من الفردية المنضبطة التي تجعله يقوم ويبادر لكن دون غرور وأنانية، ودون كبرياء وفوقية؛ فهو يبادر ومع ذلك يستشير غيره؛ لأنه يرى احتمال الخطأ في مبادرته، ويُقْدِم لكنه لا يرى نفسه وحيداً في الساحة يمتلك الفضاء وحده؛ فهو يرى نفسه مكمِّلة لغيره في جوانب غفل عنها لا غير.

إنه ليس من لازم الشخصيات المبادِرة أن تكون متمردة على الآخرين، منفلِتة من الضوابط، معفِيَّة من المحاسبة والمساءلة.

هذا أسامة يبادر في قتل الرجل من جهينة فيأتيه حساب شديد؛ «أقتلتَه بعد أن قال: لا إله إلا الله؟! »، وخالد بن الوليد لما قتل بني جذيمة؛ الذين قالوا: (صبأنا) ولم يحسنوا أن يقولوا: (أسلمنا)، فقال – صلى الله عليه وسلم -: «اللهم! إني أبرأ إليك مما فعل خالد».

إن المؤسســية – بصــورتها السليمــة – توجِّه المبــادرة ولا تواجهها، ترعاها ولا تُعَرِّيها من إمكانياتها وإبداعاتها، والمبادر بمبادرته يشكل للمؤسسة عنصر قوة وجذب تماماً كما يحصل في الجيش الواحد؛ يخرج منه فارس يشق الصفوف ويــدوِّخ العدو وهو مع ذلك في داخــل الصــف محتــاج – كغيره – إلى حماية ظهره، ومثله الطبيب في – أي مستشفى كان – فإنه بمبادرته وحُسْن أدائه يعطي للمستشفى سمعة واسعة، فيزيد من دخله، ليستحق مع ذلك مزيد عناية وإكرام.

صاحب المبادرة لا يقعد ولا تضيق به الحيلة؛ إن سُدّ عليه باب؛ بَحَث فوجد ألف باب غيره.

جاء (أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس؛ نفرت خيل المسلمين من الفِيَلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلاً من طين وأنَّسَ به فرسه حتى ألِفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل، فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: «إنه قاتلك»! فقال: لا ضير أن أُقتل ويُفتح للمسلمين)؛ فـ (الإنسان المبادر لا ينتظر معونة الآخرين، ولا يصبح في حالة من العطالة والبطالة؛ لأنه لم يجد من المؤازرة التي كان يتوقعها من الأصدقاء والزملاء؛ لأنه يعرف أنه مكلف وأن تكاليف الله – تعالى – هي دائماً ضمن الطاقة، إنه طبعاً يفرح بالمساعدة، لكنه إذا لم يحصل عليها لا ييأس ويتوقف).

صاحب المبادرة متجدد يتفنن في ابتكار الفرص: هذه زينب بنت حميد تذهب بابنها الصغير (عبد الله بن هشام) – رضي الله عنه – إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فتقول: بايعه! فيقول: «هو صغير»، ثم يمسح على رأسه ويدعو له، حتى إن ابن عمر وابن الزبير – رضي الله عنهما – إذا نزل ابن هشام للسوق يقولان له: أشركنا؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد دعا له بالبركة، فيشركهما.

ومثله ما فعلته أسماء بنت أبي بكر لما بعثت ابنها عبد الله بن الزبير إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ليحنّكه، فمضــغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تمرة ثم وضعها في حنكــه ليكــون ريقــه – صلى الله عليه وسلم – أول ما يدخل جوفه.

ألم يكن في المدينة غير هذين الطفلين؟! لكنها المبادرة التي ألحقت أهلها بالسابقين.

ويقول أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه -: لما كان يوم أُحُد، شُجّ النبي – صلى الله عليه وسلم – في جبهته، فأتاه مالك بن سنان (وهو والد أبي سعيد)، فمسح الدم عن وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم ازدرَدَه، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «من سره أن ينظر إلى من خلط دمي دمه فلينظر إلى مالك بن سنان».

وفي زيادة عند بعض أهل السِّيَر، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «من مس دمي دمَه؛ لم تصبه النار».

كم يفتــح الله بالمبــادرات الحسنة من الخير العميم الذي لم يخطر على بال المبادر! إن مبــادرة واحدة يقع أثرها على الأمة؛ فتكــون من خيــر عمل المسلم في حياته الطويلة.

فكم جرّ من خير رأيُ الوزير الصالح (رجاء بن حيوة) لما أشار على سليمان بن عبد الملك باستخلاف عمـر بن عبد العزيز قبــل أبنائه، ولم يزل به حتى عهد إليه؛ حتى قيل بعد ذلك: لو لم يأتِ سليمان ربه إلا بهذا لكفى! هذا سليمان؛ فكيف برجاء؟ ورأي سليمان ما هو إلا حسنة من حسنات رجاء.

محاذير ومخاطر:

المبادر كما أنه متفرد بجده ونشاطه لا يكاد يشق له أحد غباراً، ولا يحاذيه أحد في طريق؛ فإنه كذلك معرَّضٌ أكثر من غيره إلى نوع خللٍ غير مقصودٍ أملاه عليه الحماس وزيَّنه له التوحد، ومن ذلك:

العجلة: فالمبادرة لا تعني العَجَلة واستباق الخطوات، ولكنها مسارعة واجتهاد لفعل الشيء في أول وقته. وأما العجلة فهي فعله قبل وقته، كما أن البطء والتراخي هو تفويت الوقت دون فعل أو بفعل متأخر. والمبادر المتَّزن يجمع بين الرَّيْث والعجلة كما قال علي – رضي الله عنه -: إياكم والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التثبُّط فيها عند إمكانها[20]! فالمبادر: «ينتظر متحفّزاً مراقِباً، إذا كان الرَّيث أَوْلى. ويقتحم راكضاً مقبلاً، إذا كان العجل أَوْلى».

الغرور: إنّ تفرُّد المبادر وحيازته السبق وحده دون غيره، وكونه دائماً في المقدمة؛ مدعاة للغرور الذي قد يجعله يستهجن رأي غيره، أو يزداد ثقة برأيه زيادةً تمنعه من المراجعة والاستدراك. وما لم يكن المبادر مُحاطاً بنُصَّحٍ يمحِّضونه الرأي ويراقبون فعله بالمجهر؛ وإلا أخطأ الطريق.

الشخصنة: بأن ينسى غيره، لا غروراً بنفسه؛ وإنما حباً لنجاح فعله وما سبق إليه، فينسى أنه ليس وحده في الميدان، وإنما يشاركه أحدٌ غيره، مما يحتم عليه أن يراعي سير غيره، لا بالتأخر حتى يلحقوا، ولكن بإبقاء الجَدَدِ لهم واضحاً غير مغيّر المعالم. إن المبادر مَثَلُه كمثل الذي يسبق غيره في سيارته؛ عليه أن لا يتقصد الإضرار بمن خلْفه وإلا اتُّهم بالأنانية.

إننا لا نستطيع أن نرتفع بالأمة إذا كان همُّ كلٍّ واحدٍ منا مشروعه الخاص فحسب.

نعم! نحن نحتاج إلى نوعٍ من الهم لمشروعاتنا الخاصة؛ لكن دون أن تغيب عنَّا مشروعات غيرنا وجهودهم.

والله ولي السداد والمعونة.