خرجت من المنزل تنوي السير بلا هدف، فقط كانت تدفعها رغبة التفكير في اللاشيء، والهروب بعيدا عن تلك الملاحقة والتتبع من الآخرين يربتون علي كتفيها في دهشة، ويلاحقونها بأسئلة عن سبب بكائها المستمر وعينيها تلك التي باتت تائهة أحيانا وواجمة في أغلب الأحايين، وفي كل أوقاتها تحدق وكأنها لا تري ما حولها، فقط يعلوها هذا اللون الأحمر القاني، وتتابع فيها القطرات وكأنها من منبع يفيض ولا يعرف للغيض سبيلا..
في الطريق يمكنها بكل سهولة أن تفسح لأدمعها المجال فلا أحد يعتني بالآخر أو يسأله عما به، بل يسير الجميع في تأهب وسرعة وكأن قطارا حان موعده قد تأخروا عليه جميعا..
استقلت أول مركبة قابلتها، وبدأت تنظر من الشرفة المجاورة تفر فيها من الصخب المجاور وتحاول أن تعلو بناظريها لتتأمل في الأفق بدلا من متابعة حالة المرور المتكدسة المثيرة للأعصاب دائما..
وأثناء تلك المحاولة لغض السمع عن أي داعٍ؛ إذا بها تلحظ إلي جوارها فتاة صغيرة بسيطة الثياب منفرجة الملامح والأسارير وقد كانت من ملامح الفاقة تبدو وكأنها ممن يستقلون تلك الحافلات للتسول، ومن ثم فلم تحظي بترحيب أو إقبال من السائق أو تابعه بل تجهم الجميع في وجهها وكأنهم خافوا أن تشاركهم شيئا من حصادهم للعملات “الفكة” التي يسعون في تحصيلها من الركاب دونما أزمات، ورغم أن حالة الفرار منها والعبوس لمرآها قد تفشت في الجميع، إلا أن الفتاة لم تغادرها تلك الإبتسامة التي تعلو وجهها، كما أنها قد خيبت ظن الجميع حيث بعثت لتابع السيارة بأجرته كاملة وقد كانت تمسك بها بإحكام بين أصابعها خشية فقدها وكأنها لا تملك مثلهم الكثير، أو كأنها ثروة طائلة خافت عليها من التفلت، الحقيقة أنها كانت بالفعل كذلك، حيث عافتها تلك الثروة من أن يلقيها السائق من شرفة الحافلة في المحطة القادمة كما تبدّي من شدة حنقه وغيظه منها.
لم يبد أن الفتاة قد أعارت كل ما حولها شيئا من الاهتمام، بل ظلت واقفة في جانب من الحافلة رغم وفرة المقاعد الفارغة وكأنها تعرف بفطرة نقية بداخلها أنها ليست محل ترحاب أو تقدير من أحد وأن عليها أن تحافظ علي حيز من الابتعاد الدائم بينها وبين الآخرين هؤلاء الذين اعتادوا أن ينفروا منها وأن يبخلوا عليها حتي بالابتسام، في حين كان يبدو علي محياها أنها لا تعرف سوي البشاشة وبسط الوجه.
ارتاحت قليلا بعد دفع الأجرة، ثم انشغلت بفتح كيس من “المقرمشات” التي يفرح بتناولها الأطفال في مثل عمرها، وبعد أن تمكنت من فتح الكيس وقبل أن تضع قطعة واحدة في فمها، أخذت من فورها بعرض بعض شرائحه علي المجاورين لها في سعادة وبساطة وفرح، وقد كانت دهشة من حولها من الوضوح بحيث تفصح عن نفسها بسهولة وسرعة، فالفتاة لم تخيب فقط ظن أعضاء الحافلة في تعففها عن السؤال ودفعها للأجرة، بل زادت علي ذلك بمقابلة وجومهم كرما وإحسانا وبشاشة، لكن الحقيقة أن البعض كانت دهشته في تعجبه أن تظن فتاة رثة الحال مثلها أن يدهم سوف تتواضع و تمتد لتشاركها حلوتها ببساطة وكأن في ذلك نزولا بهم من مقام رفيع إلي مرتبة أقل في الوجاهة والمكانة الاجتماعية..!
استمرت الفتاة في محاولتها تقديم ما معها إلي أي راكب في السيارة في حين رفض الجميع، كانت تفعل ذلك ليس لترتفع إلي مكانتهم بإثبات أن لها عليهم يدا، بل كانت تفعله بكرم وطيب أصل لا يخفي، لكن نفور الجميع كان ظاهرا بما يكفي حتي تترك ما تفعله، في حين لم تدع بشاشة وجهها تلك التي لقيت بها الجميع، وها هي تودعهم بها وتغادر الحافلة في محطة وصولها..


أخذ تأمل تلك الحادثة الشيء الكثير من تفكير صاحبتنا وباعد بينها وبين هذا اللاشيء التي كانت تُمني نفسها به قبل الخروج، تركت السيارة وغادرتها إلي السير علي جانب الطريق وقد خالج نفسها بعض السكون مبثعه بسمات تلك الفتاة الصغيرة التي وشت بأن فطرة طيبة نقية مازالت تلوح بقوة، بل ويبرق لها ضياء حتي يفرض نفسه علي تلك القسوة والغلظة التي ملأت الآخرين وتمكنت منهم..


أخذت مخيلتها في رسم بعض السمات والمعاني الجديدة التي تفتحت في قلبها بعد ملاحظة تلك الفتاة فتسرت بذلك عما يجيش في نفسها من حزن وألم، أدي هذا بها إلي أن استجابت لفكرة فتح الفكر والقلب لملاحظة وقراءة شيء من ملامح هذا الشارع وما به، وقد كان الطريق مليئا بالطبع بما يمكن أن يشغل الخاطر، وقادتها إثر ذلك عادة القراءة إلي تصفح بعض عناوين الكتب القديمة المعروضة للبيع علي أحد الأرصفة، وقد نجحت تلك العناوين بالفعل في لفت إنتباهها، ولكن وعلي مهل وترقب لفتت انتباهها أكثر بائعة تلك الكتب، فقد كانت مما يبدو أنها من سكان هذا الرصيف نفسه الذي تفترشه لتبيع عليه، حيث كان يحمل متاعها كله، تظلل عليه ببعض أغطية مرقعة مرفوعة علي أعمدة خشبية متهاوية تحمل طرفا من ملامح الخيام، وإن كانت أقل بكثير من أن توصف بذلك، خاصة مع وجود تلك الأوراق المقواة من بقايا “كراتين” الحلوي التي حاولت سيدة الخيمة أن تصنع بهم بابا وسقفا يستر تلك الأغطية الممزقة، وإن كان الفشل في ذلك يؤكده ذلك الماء الذي يعلو أرض الخيمة والذي يشيء بزيارة قريبة من ماء المطر لهم ليلة الأمس علي أغلب الظن، كما أغرق كذلك هذا المقعد المتكسر الذي يجلس وحيدا في الطرف هناك.
راق لصاحبتنا الوقوف مليا بجوار صاحبة الخيمة وقد كان تصفح عناوين الكتب حجة كافية لهذا البقاء، فإذا بتلك السيدة كبيرة السن، تتخذ من جلستها علي الرصيف محضنا لقطة قد وضعت صغارها من قريب، فإذا بها تمسح علي رأسها، وتلاعب صغارها، وتضع للجميع طعاما وماء بالقرب منها، وتتابعهم بنفسها لتتأكد من أنهم تناولوه ثم تنشغل بملاعبتهم والفرح معهم..حتي أنها لا تكترث كثيرا بهؤلاء الذين جاءوا لمطالعة بضاعتها..ولا تنكب عليهم بالاهتمام والشغف كي تبيع لهم أو تقبض الثمن..بل تنتظر في مكانها من يأتيها طالبا الشراء، مثلما فعلت صاحبتنا حين أخذت بعض الكتب من فوق الرصيف وذهبت إلي صاحبة الخيمة لتسألها عن الثمن، فإذا بالسيدة تقول لها:”ادفعي ما يحلو لك، وإن لم يكن معكِ فلا بأس، اقبليهم هدية طيبة من سيدة في عمر والدتك..”…أنقدتها صاحبتنا الثمن المناسب وانصرفت وصوت دعاء السيدة يلاحقها ويتابعها ويأمل لها بالخير والفلاح والنجاح..


عادت إلي المنزل بوجه اختلف كثيرا عن الذي ذهبت به، وهناك تركت لها جارتها ابنتها الصغيرة التي لم تتجاوز العامين لتهتم بها ريثما تذهب الجارة إلي بعض حاجاتها وتعود، كانت الكآبة قد تبددت عن قلبها بعض الشيء فأخذت تبتسم وتراقب تلك الطفلة التي تبادرها بالضحكات والقبلات بلا حساب، وكأنها مستودع للسعادة جاء لينفجر بين يديها فيهبها أجزاء من نفسه الصافية الرائقة.
وفي أثناء مرح الطفلة ولعبها إذا بها تعبث بأوراق صاحبتنا ومكتبها، فما كان منها إلا أن اندفعت تصرخ في وجه الطفلة المسكينة محذرة إياها من الاقتراب من هذا المكان مرة أخري، فإذا بالطفلة تنظر في وجهها غير واعية كثيرا لما يحدث، ولكنها لا تجد سوي أن تجيب بخفض رأسها إعلانا عن الاستجابة وقد تحولت ابتسامتها إلي شحوب وخوف مكتوم…نظرت صاحبتنا إلي وجه الطفلة الذي تبدل، فوقع في قلبها ندم شديد مفاجيء لما فعلته بتلك المسكينة وقد أبدلت فرحتها ألما، وأحالت ابتسامتها إلي ترقب وحذر..فاندفعت عينيها بالبكاء واحتضنت الطفلة بين ذراعيها معتذرة لها بذلك ومحاولة تعوضيها بقليل من الأمان والحب..


..في أثناء بكائها الأخير وهي تحاول الاعتذار للطفلة، مرّ شريط الحزن بطيئا بين ناظريها، فلم تكن تلك الصرخة التي أطلقتها في وجه الطفلة البريئة سوي إيقاذ لمعاني روحها هي والتي كاد الحزن علي دماء الأبرياء التي يزهقها الانقلاب المجرم بشكل متوالٍ في كل يوم أن تودي بها، كادت سمات الرحمة واللين والحب للجميع أن تنزوي في قاع بعيد في حنايا قلبها، لتحل مكانها معانٍ أخري قوامها القسوة والغلظة والإحباط واليأس، تلك القسوة التي يحاول الانقلاب بإجرامه المتتالي أن يزرعها في النفوس فلا تحن أو ترفق بمن حولها، بل يريدهم أن يتابعوا سيول الدم الجاري المتدفق فلا يتغير علي شفاهها طعم الحياة، يريدهم أن أن ينحازوا مطنئنين إلي سطوة الظلم وأن يرو منصة العدالة المنقلبة فلا تطرف لهم عين، فكيف بمن كانت نفسه تتغذي علي تلك المشاعر الفياضة بداخله فيغدق منها علي من حوله، فإذا بالأحداث الجسام ترمي به إلي قاع سحيق مظلم ليس به سوي عواصف هائجة تصفعه يمنة ويسرة في كل يوم بأقسي من اليوم السابق، وكلما حاول الصعود أعلي تلك الهوة، إذا بالفواجع الجسام تطيح به فيها من جديد، حتي استراح لللُبث في المنحدر، ولم يعد يحلم بالصعود أو الحياة أعلي القاع..
وهكذا فقد كان لصاحبتنا من رقة الطبع..وحداثة خبرة.. ما جعلها تقف أمام الفواجع رافعة درع من ستار رقيق فإذا به ينثقب ويصيبها من ورائه حاد السهام..
ولكن قدر الله كان أكبر من كل هم وغم لها، فقد كانت أحداث يومها كفيلة بما هو أكثر من ترقيع الدرع، بل تحوّل علي حين غرة إلي معدن صُلب لا تقوي علي اختراقه أعتي السهام..
أرتها حكايا البسطاء أن يد الخير مازالت ممدوة وباقية، فهي وإن كانت قليلة أو تعمل في الخفاء وببطء، إلا أنها مازالت هناك كما الزهور التي تنبت بخفة في أكماماها تنبيء بحدائق غنّاء مورقة حتي وإن لم يكن بعضنا يراها الآن، إلا أنها تتقدم نحو هدفها وتسير نحو إنجازه وإتمامه..
في البداية تحدث عطاء الفتاة وبشاشتها رغم رقة حالها ونفور الناس منها، فقال أن الفطرة النقية واليد البيضاء الممدوة بالخير والتي تعلو رغم الصعاب مازالت حية ولم يتمكن منها قاتل أو يسفك دمها جبان، بل هي وإن كانت في مأزق وضيق، إلا أن نقاءها كفيل بأن يروي بذرة خير مثيلة في القلوب القاسية..
وتلك السيدة ساكنة الرصيف بائعة الكتب سخية اليد والشعور، خير دليل علي أن هذا الخير ينبت ويزهو بل وعلي مقربة من كل منا، وهو وإن كان يزور الجميع لماما إلا أنه وفي قلوب البسطاء يطيل المكوث ويظل هناك منتظرا إشارة البدء حتي يتحالف مع غيره فيهدم الطغيان ويعلن لحظة انتصار الأمل وتجدده في الوطن بأكمله..


الأمل.نعم..الأمل..إنه المعني الحقيقي الذي تفجر أمامها مرتدا عليها من بسمة الطفلة الصغيرة التي واجهتها بها إبان صرختها في وجهها، إنه الكنه الحقيقي لهذا الذي كادت أن تفقده فخرجت باحثة عنه منذ أول اليوم، وإن كانت تجهل ماهيته، حتي اتضحت معالمه أخيرا علي صفحة وجه البراءة والنقاء، هؤلاء الذين يخبرونا دونما كلمات أن هناك غد وأن أي فاسد أو لص لا يستطيع مهما امتلك من قوة وألاعيب أن يسرق هذا الغد..أو أن يكتب هو فيه ما يريد، فالغد غيب، والغيب “أمل” وهذا الأخير هو نفسه الذي يسعي الانقلاب بتتابع وتنوع إجرامه أن يفتك به، ولكنه عصيُ علي آلة بطشه، بعيد عن مشانق إعدامه، إنه يسكن في تلك القلوب الصافية الرائقة المخلصة، ومن ثم لابد من استمرار استدعائه وازاحة ما يعلوه من أتربة وغبار، حتي يظل متربعا علي القمة فلا ينزوي، حتي إذا قتل المُستبد الجميع، يظل هو هناك بعيدا عصيا علي القتل..


اختتمت صاحبتنا يومها بمزاج مختلف، فقد ابتسمت كمن يشعر بحلاوة الانتصار تلك التي غابت عنها منذ فترة، شعرت كيف أنها الآن قد تغلبت علي المُستبد، عندما نجحت في ايقاظ معاني قلبها الصافية، تلك المعركة التي خسرها الخصم، إذ خاب مسعاه حينما ظنّ أنه قاتل لهذا “الأمل”..