حتى لا تذهب بنا هموم السياسة بعيداً

بقلم: الإمام الشهيد حسن البنا

يقول الإمام الشهيد حسن البنا: ” نحب أن نصارح الناس بغايتنا، وأن نجلى أمامهم منهاجنا، وأن نوجه إليهم دعوتنا، في غير لبس ولا غموض، أضوأ من الشمس، وأوضح من فلق الصبح، وآبين من غرة النهار .

ونحب مع هذا أن يعلم قومنا – وكل المسلمين قومنا – أن دعوة الأخوان المسلمين دعوة بريئة نزيهة، قد تسامت في نزاهتها حتى جاوزت المطامح الشخصية، واحتقرت المنافع المادية، وخلفت وراءها الأهواء والاغراض، ومضت قدما في الطريق التى رسمها الحق تبارك وتعالى للداعين اليه: ( قل هذه سبيلى ادعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله وما أنا من المثركين ) يوسف .

فلسنا نسأل الناس شيئا، ولا نقتضيهم مالا ولا نطالبهم بأجر، ولا نتزيد بهم وجاهة، ولا نريد منهم جزاء ولا شكورا، ان أجرنا في ذلك إلا على الذي فطرنا .

ونحب كذلك أن يعلم قومنا أنهم احب إلينا من أنفسنا، وأنه حبيب إلى هذه النفوس ان تذهب فداء لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمنا لمجدهم وكرامتهم ودينمم وآمالهم إن كان فيها الغناء .

وما اوقفنا هذا الموقف منهم الا هذه العاطفة التى استبدت بقلوبنا، وملكت علينا مشاعرنا، فاقضت مضاجعنا، وأسالت مدامعنا .

وإنه لعزيز علينا جد عزيز أن نرى ما يحيط بقومنا ثم نستسلم للذل أو نرضى بالهوان أونستكين لليأس، فنحن نعمل للناس في سبيل الله اكثر مما نعمل لأنفسنا فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب، ولن نكون عليكم يوما من الآيام .

لله الفضل والمنة

ولسنا نمتن بشئ، ولا نرى لأنفسنا في ذلك فضلا، وإنما نعتقد قول الله تبارك وتعالى: ( بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين ) الحجرات .

ولكم نتمنى – لو تنفع المنى – أن تتفتح هذه القلوب على مرأى ومسمع من أمتنا، فينظر اخواننا هل يرون فيها إلا حب الخير لهم والاشفاق عليهم والتفانى في صالحهم ؟ .

وهل يجدون إلا ألما مضنيا من هذه الحال التى وصلنا اليها ؟

ولكن حسبنا أن الله يعلم ذلك كله، وهو وحده الكفيل بالتأييد الموفق للتسديد، بيده أزمة القلوب ومفاتيحها.

من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

أليس الله بكاف عبده ؟ .

كيف تنجح الدعوات؟!

كلما وجدت الإخوان في حفل شعرت بخاطر ليس بجديد عليَّ، ولكنه يتحرك بعاطفة الحب لكم والثقة فيكم؛ هذا الخاطر هو المقارنة بين عهدين لدعوتنا:

عهدها الأول: حين قام الرسول صلوات الله عليه وحده يجاهد منفردًا بعزيمة وقوة وثبات، حتى اجتمع حوله قليل من الرجال الصادقين المؤمنين فصابروا معه حتى أذن الله لهم بالجهاد (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) (الحج: من الآية 39)، ثم هيَّأ الله لهم أسباب النصر ومكَّنهم في الأرض حتى سادوا الدنيا ونشروا نورهم وعدلهم بين الناس.

وعهدها الثاني: عهد انبعاثها على أيديكم أنتم أيها الإخوان، فقمتم تجددون العهد وتحشدون القوى وتبذلون الجهود حتى يرجع للدعوة شبابها وتكتمل قوتها.

وإذا تأملنا حقيقة الدعوات وجدناها تقوم على دعائم وترتكز على أسس، إذا تحققت كاملة يتهيَّأ للدعوة النصر ومكن الله لها في الأرض وتمَّ لها الغلب والنصر، ولا تختلف في هذه الدعائم الدعوات الربانية والدنيوية، فكل واحدة منهما لا بد لها من تحقيق ما يأتي:

أولاً: وضوح الغاية وظهورها وانطباقها على حاجات الناس.

فما أسرع الفقراء إلى تلبية نداء يدعوهم إلى اقتسام أموال الأغنياء!

وكذلك ما أسرع الأمة المغلوبة المستذلة إلى تلبية نداء يدعوها لرفع الظلم واسترداد العزة وتحطيم القيود!.

هذه روسيا الشيوعية استغلَّ دعاتها فقر الناس في تحطيم النظم الرأسمالية والقضاء على فروق الطبقات.

وهذا هتلر قد نجح في حشد الشعب الألماني حوله ليرجع لألمانيا عزها وكرامتها وليحررها من قيود معاهدة فرساي بعد الحرب الماضية (الحرب العالمية الثانية)؛ لأن دعوته مست وترًا حساسًا في الشعب وهو الكرامة والعزة.

وإذا كانت الشيوعية والنازية- وهما دعوتان دنيويتان- توفر فيهما هذا الشرط فقد توفر بصورة أوضح في دعوتنا الإسلامية الكبرى، جاء الإسلام واضحًا سهلاً لا تعقيد فيه ولا التواء، تتقبله الفطرة السليمة وتسارع إليه القلوب الطيبة، حقق للناس العدالة بعد الظلم والعلم بعد الجهل، ومنحهم الحرية والمساواة بعد التسلط والاستعباد، وفرض للفقير حقه من أموال الغني وأزال الفروق بين الطبقات، ولذلك سارع إليه العربي في بداوته والفارسي في حضارته والهندي في فلسفته والزنجي في جهالته، سارعوا إليه فوجدوا فيه المجتمع المثالي والحياة الكريمة السعيدة.

ثانيا: يجب أن تجد الدعوة أنصارًا حولها يلتفون ولها يعملون وفي سبيلها يضحون!.

فالمال لأجلها مبذول، والدماء لتغذيتها رخيصة، وإذا كان أهل الدعوات الدنيوية ضحوا وبذلوا وجاهدوا، فدعوتنا الإسلامية الربانية كان الفداء فيها أعظم والتضحية أكرم وأنبل، إن المسلمين بذلوا المال والدماء وبنوا من أشلائهم قواعد يرفعون عليها رايتهم عالية تظلل عالمًا تملؤه السعادة ويعمُّه الرخاء ويسوده العدل.

ثالثًا: وتمتاز الدعوة الربانية بشرط ثالث، وهو تأييد الله سبحانه وتعالى للقائمين بها ووعده الحق بحسن الثواب في الدنيا والآخرة خير وأبقى (وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين) (الروم: 47) (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) (النور: من الآية 55).

تحقق كل ذلك في دعوتنا في عهدها الأول وسيتحقق إن شاء الله في عهدها الثاني، فكتاب الله سبحانه قائم فينا يرسم لنا الطريق، وسنة رسوله الكريم تضيء لنا السبيل، واجتماعكم على الحب في الله والجهاد في سبيله؛ كل ذلك يجعلنا نستبشر بالعز والنصر

ويسعدني أن الإخوان يفهمون الإسلام فهمًا واسعَ الأفق بعيد النظر، يرونه على حقيقته نظامًا شاملاً يحقق السعادة لكل مجتمع، لا تشديد ولا تفريط، وإنما توسط وأخذ بأسباب الحضارة، وتيسير كل شيء ما لم يتعارض وقواعد الدين وصلب التشريع، يفهمون الإسلام على أنه دين حافل بالجد مليء بالنشاط مع اليسر والسهولة.

وكذلك يسرني أن يكون للإخوان طابع خاص يعرفون به (سيماهم في وجوههم) (الفتح: 29)

فإذا رأى الناس فلاحًا متنورًا أو عاملاً مجدًّا ذكيًّا أو طالبًا هادئًا رزينًا أو تاجرًا أمينًا أو موظفًا متواضعًا نشيطًا عرفوا أنه من الإخوان المسلمين؛ لأن هذه صفاتهم، مع فهم تام للدين ودراية واسعة بحال المجتمع ومعرفة لقضايا الوطن الخارجية والداخلية؛ مما لم يتوفر في غيرهم من الهيئات والأحزاب.

وإن هذه المدرسة الهائلة لم تتكون عفوًا، ولم تتهيأ صدفة، وإنما ذلك ثمرة جهاد سبعة عشر من السنين حارب فيه الإخوان رذائل النفوس وأطماع المستعمرين وشهوات النفعيين، وجابوا البلاد من أقصاها إلى أقصاها مرارًا وتكرارًا.

إنهم دخلوا كل مدينة، وذهبوا إلى كل بندر، وجاسوا خلال القرى والكفور، فليس في مصر مكان إلا وصوت الإخوان يدوي فيه بدعوة الحق والحرية والقوة، ولم يبق إنسان لم يسمع بدعوة الإخوان.

ولو كانت هذه الجهود الهائلة الضخمة بُذلت لشعب آخر لأثمرت أكثر من ذلك، ولسنا نطعن بذلك في أمتنا المصرية الكريمة؛ لأننا نقدر ما أحاط بها من ظروف وما عانته من ويلات استمرت فيها الأجيال والقرون.

وبحمد الله صار في الشعب آلاف وآلاف من الشباب المثقف الطاهر يعرفون أن الإسلام دين الحياة المتجددة والسياسة الرشيدة، وأنه يمنح المجتمع الحرية والإخاء والمساواة الحقيقية لا المزيفة التي تعرفها أوروبا، ويمحو بيد قوية الفقر والجهل والمرض، ويجعل الإنسان يحيا لغاية ويعيش لهدف(والله متم نوره ولو كره الكافرون) (الصف: 8)، وفقنا الله جميعًا لما فيه الخير في الدنيا والدين.