وصية أم

رسالة إلى ولدي الحر

بُنَيّ البطل … في البداية أبعث أشواقي وحبي، وأدعو الله تعالي لك مع كل لمحة بصر، وكل طرفة عين، وكل نفس يتردد في صدري، دعاء أم مشوقة إلى فلذة كبدها، أن يمن الله تعالي عليك وعلى إخوانك، وعلى الوطن والأمة جمعاء بالفرج القريب، وأن يجزيك أجر الصابرين المحتسبين، ويكتبك في المجاهدين الصادقين، وأن يخرجك وإخوانك من هذه المحنة موفوري الكرامة مرفوعي الجبين، وأن يعلي ذكركم ويرفع قدركم في العالمين … اللهم آمين.

بُنَيّ البطل:

إن أملي في الله تعالي لا يخبو، وثقتي فيه لا تتزعزع، ويقيني فيه لا يهتز، ورجائي فيه لا ينقطع، وقد تعلمت من كتابه الكريم وسنة نبيه العظيم أن مع العسر يسراً، وأن الأيام دول، وأن دوام الحال من المحال، فغداً بإذن الله تزول الشدة، وتنقشع الغمة، وتذهب المشقة، ويبقي الأجر إن شاء الله، وأملي في الله عز وجل، وثقتي فيك يا ولدي الحبيب، أن تنجلي عنك هذه المحنة وأنت ثابت علي مبادئك كالطود الشامخ، والجبال الراسيات، فاحذر من مكائد الشيطان، ووساوس الإنس والجان، وإياك واليأس فليس اليأس من أخلاق المؤمنين، ولا تلتفت إلي المرجفين والمثبطين، ولا يخالجك شك في صحة موقفك وسلامة طريقك، ولا تدع للندم سبيلاً يتسرب منه إلي نفسك طرفة عين؛ فإني والله فخورة بك، ولا تحدث نفسك أنك سببت لي الأذي، فمالي لا أشاركك الأجر في سبيل الله، فإني والله أحب الإسلام كما تحبه، وأحرص علي عودته لينير الدينا ويُسعد الأنام، وإني مستعدة للتضحية مثلك، وراضية بقضاء الله، فلا تكترث لمعاناتي، فإن الله تعالي قادر أن يرفع عني وعنك البلاء في طرفة عين، وما يؤخر نصره الذي يظلل الرؤوس إلا لحكمة يعلمها، ونحن نؤمن بها ونوقن بتحقق موعود الله تعالي كما نراكم رأي العين.

بُنَيّ البطل:

إنني أعلم علم اليقين أنك ما سُجنت إلا لقولك الحق، ووقوفك في وجه السلطان الجائر، ودفاعك عن كرامة شعب قد استبيحت حرماته، وكبـلت حرياته، وسرقت خيراته، فأنت الآن تسطر تاريخاً مجيداً للأمة، تتربي عليه الأجيال القادمة، وقد وضح لكل ذي عينين، أنك وإخوانك لم تقفوا موقفك هذا طلباً لدنياً، ولا تحصيلا ً لمنفعة، ولكن من أجل أجيال ستأتي من بعدك تنشدون لها الخير والعزة، فهذه سنة الله في الكون، أن العزة والكرامة والعدل والنهضة لا تُنال إلا بالتضحيات، والصبر علي البلاء، والتزود بالإيمان، والقرب من الرحمن، فأبشر يا بني؛ فإن الله تعالي قد استعملك وإخوانك في طاعته، وأوقفك وإخوانك حيث يحب ويرضي، فحققتم عملياً قوله تعالي: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾(هود: 113). 

بُنَيّ البطل:

احذر أن يتسلل الشيطان إلي فكرك؛ ليلقي في روعك أن سنوات عمرك تنفلت منك، وشبابك يضيع هباء، فهذا ما قدره الله لك، فمن يظن أن جهدك وجهادك وعمرك يضيع هباء فهو واهم، وهو يسيء الظن بالله، فكل ثانية قضيتها من عمرك خلف الأسوار تضاف إلي رصيدك عند الله، وما أعظم هذا الرصيد، فأنت ما خُلقت إلا لله، وبقدر الله أنت الآن خلف الأسوار لا بقدرهم، وخالقك قد اشتري بضاعته، والثمن الجنة،﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾(التوبة : من الآية 111). فقد ربح البيع يا ولدي، فتمسك بهذه الصفقة، ويا لها من بشارة عظيمة. واعلم أن ثباتك يغيظ الطغاه ويؤرقهم، كما ترهبهم صيحات الحق، لهذا يلجأون للضغط لتغيير الأفكار أو الانصياع لابتزازهم، فاحذر من خداعهم ومن أساليبهم الثعبانية، فحيلهم هذه تدل علي إفلاسهم وهشاشة نظامهم، والله تعالي لهم بالمرصاد يبطل كيدهم، ويحبط مكرهم ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾(إبراهيم: من الآية 46). 

بُنَيّ البطل:

أما زلت تذكر حديث لي عن أمنيتك أن تموت علي أعتاب المسجد الأقصي شهيداً، أو تدخله مع الفاتحين المحرريين، وما أعظم هذه الأمنية، وما أثقلها علي قلوب الخونة المجرمين والطغاة الظالمين، واليهود الحاقدين، ولهذا كانت هذه المعركة، ولهذا وقع الانقلاب، ولهذا أنت علي الطريق الصحيح، فلا تيأس واعلم أنك وأنت في سجنك في قلب المعركة، تقف علي ثغر من ثغور الإسلام، والتاريخ يسطر سيرتك، والله في عليائه يعلم حالك، والملائكة تدون أفعالك، فكن يا بني كما يحب الله ويرضي: عزيز النفس، صلب القامة، مرفوع الهامة، لا تستكين ولا تتهاون ولا تهادن …

كن متمسكا بكتاب الله، وحافظ علي أورادك فهي حصنك من الشيطان وزادك في وحدتك وأنسك في وحشتك، واجعل في مناجاة الله وقت السحر تفريجاً لهمك، وتضرع إليه فهو وحده يعلم حالك، وأَشّهِد الله أنك راض عن قدره فيك، غير ساخط ولا متبرم، والتمس رحماته ورضوانه بكثرة الذكر والدعاء والاستغفار والصلاة علي النبي المختار، والتضرع إلي العزيز الجبار، والاستقامة علي سنن الهدي، ولا تنسي أن تغض الطرف عن زلات إخوانك فهم خير من عرفنا في هذه الدنيا، واحفظ لسانك عنهم، واحفظ أسرارهم، وكن رفيقاً بهم، صبوراً عليهم، هاشاً باشاً في وجوههم، متعاوناً معهم، مبادراً إلي خدمتهم، حريصاً علي تقديرهم واحترامهم، وخاصة العلماء منهم وأهل السبق والسن والمسئولية، فليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه كما قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.

بُنَيّ البطل:

أما تعلم أن الدنيا كلها اختبار وابتلاء وأنها لا تصفو لأحد أبدا، وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم وألهمهم الرضا، فكن راضياً عن الله حتي يرضي الله تعالي عنك ويرضيك، حتما ستزول الشدة وينكشف الكرب ويسود الحق والعدل. ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾(الإسراء: من الآية 51). 

هذه رسالتي بني الحبيب