عبد الله بن المبارك

نحن اليوم أمام عالم جليل ورع تقي ، كريم جواد ، مجاهد شجاع ، قضى حياته بين العلم و القرآن و الحج و الجهاد .

مولده ونسبه :

ولد رضي الله عنه في سنة ثمان عشرة ومائة من الهجرة ، أما نسبه فهو عبد الله بن المبارك شيخ الإسلام عالم زمانه ، أبوه عبد الرحمن الحنظلي ، قال العباس بن مُصعب في ” تاريخ مرو ” كانت أم عبد الله خوارزمية وأبوه تركي وكان مملوكاً لرجل تاجر من بني حنظلة ، قال عن نفسه : نظر أبو حنيفة إلى أبي وقال ” أدت أمه الأمانة إليك ” وكان أشبه الناس بوالده .

طلبه للعلم :

طلب العلم وهو ابن عشرين سنة ، وأقدم شيخ لقيه هو الربيع بن أنس وكان في السجن فتحيّل عبد الله بن المبارك ودخل إليه السجن ليسمع منه الحديث والعلم ، كما سمع من شيوخ كثير منهم سُليمان التميمي وهشام بن عروة والأعمش والأوزعي وعاصم الأحول وأبي حنيفة وابن جريج والثوري ومالك والليث .. .. وغيرهم كثير .
 وقد حدّث عنه خلق كثير منهم الثوري وأبو إسحاق وطائفة من شيوخه ، وارتحل ابن المبارك في طلب العلم إلى الحرمين ومصر والشام و العراق و الجزيرة وخُرسان .

صور من حياته :

المجاهد الشجاع :

عن عبده بن سليمان قال : كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان ، خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فقتله ، ثم خرج إليه آخر فقتله ، فخرج إليه رجل فطارده ساعة ثم قتله فازدحم إليه الناس ، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك ، وإذا هو يكتم وجهه بكمه ، فأخذت بطرف كمه فمددته ، فإذا هو هو .. فقال ” وأنت يا أبا عمرو ممن يُشنع علينا ”
 وعن عبد الله بن سنان قال : كنت مع عبد الله بن المبارك ، وابن سُليمان بطرسوس فصاح الناس النفير النفير ، فخرج ابن المبارك والناس ، فلما اصطف الجمعان ، خرج رومي فطلب البراز فخرج إليه رجل فشد العلج عليه فقتله ، حتى قتل سته من المسلمين ، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ولا يخرج إليه أحد فالتفت إليّ ابن المبارك فقال ” يا فلان إن قُتلت فافعل كذا وكذا ، ثم حرك دابته وبرز للعلج فعالج معه ساعة فقتل العلج ، وطلب المبارزة فبرز له علج آخر فقتله حتى قتل ستة علوج من من الروم ، وطلب المبارزة فخافوه فضرب دابته وطرد بين الصفين ثم غاب فلم نشعر بشئ ، وإذا أنا به في الموضع الذي كان فيه ، فقال يا أبا عبد الله لئن حدّثت بهذا أحداً وأنا حي … فذكر كلمة ”

الكريم الجواد :

قال الخطيب البغدادي : بلغنا عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال :سمعت أبي قال : كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون نصحبك فيقول ، هاتوا نفقاتكم ، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها ، ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد فلا يزال يُنفق عليهم ويُطعمهم أطيب الطعام ثم يُخرجهم من بغداد بأجمل زي وأكمل مروءة حتى يصلوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لكل واحد : ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرفها ؟ فيقول كذا وكذا .. ثم يُخرجهم من إلى مكة فإذا قضوا حجهم يشتري لكل واحد منهم ما يحتاجه ، ثم يعود بهم فلا يزال يُنفق عليهم إلى أن يصلوا إلى مرو فيُجصص بيوتهم وأبوابهم ، فإذا كان اليوم الثالث عمل وليمة لهم وكساهم فإذا أكلوا وسُروا ، دعا بالصندوق ففتحه ودفع لكل واحد منهم صُُرته وعليها أسمه كما هي .

وكان ابن المبارك غنياً شاكراً ، رأس ماله نحو الأربعمائة ألف ، وكان كثير الإنفاق على أهل العلم في كل مكان ، وعُتب فيما يُفرق من المال في البلدان دون بلده ، فقال : إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدور ، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه ، لحاجة الناس إليهم احتاجوا ، فإن تركناهم ضاع علمهم ، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم .

التقي الورع :

عن الحسن بن عرفة قال : قال لي ابن المبارك : استعرت قلماً من أرض الشام فذهبت على أن أرده ، فلما قدمت مرو في خُرسان نظرت فذا هو معي فرجعت إلى الشام فرددته إلى صاحبه .

وعن عبد الله بن عمرو قال : لما حضرت ابن المبارك الوفاة قال : انظروا إلى رجل من قريش فإني كنت قلت له في أبنتي قولاً كشبيه العدة ” أي الوعد بزواجها منه ” وما أحب أن ألقى الله تعالى بثلث النفاق و أُشهدكم أني قد زوجته .

وعن أبو وهب قال : مر ابن المبارك برجل أعمى فقال له : أسألك أن تدعو الله أن يرد عليّ بصري ، فدعا الله له ، فرد الله عليه بصره وأنا أنظر .

العالم المحبوب :

قال عمر بن مدرك : حدثنا القاسم بن عبد الرحمن حدّثنا أشعث بن شُعبة قال : قدم الرشيد الرقة فانجعل الناس خلف ابن المبارك وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة فأشرقت أم ولد لأمير المؤمنين من برج القصر فقالت : ما هذا ؟ قالوا : عالم أهل خُرسان قدم ، فقالت : هذا والله الملك لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلا بشُرطٍ وأعوان .

بعض أقوال العلماء فيه :

قال أحمد العجلي : ابن المبارك ثقة ثبت في الحديث رجلٌ صالح يقول الشعر وكان جامعاً للعلم .

قال إسماعيل بن عياش : ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك ، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله ابن المبارك.

قال العباس بن مُصعب : جمع عبد الله الحديث والفقه و العربية وأيام الناس والشجاعة والسخاء والتجارة و المحبة عند الفرقة .

كان الفُضيل وسُفيان الثوري ومشيخة جلوساً في المسجد الحرام ، فطلع ابن المبارك من الثنية ، فقال سفيان الثوري : هذا رجل أهل المشرق ، فقال الفضيل : رجل أهل المشرق و المغرب وما بينهما .
قال أسود بن سالم : كان ابن المبارك إماماً يُقتدى به ، كان من أثبت الناس في السنة ، وإذا رأيت رجُلاً يغمز ابن المبارك فاتهمه على الإسلام .
قال سفيان الثوري : إني لأشتهي من عمري أن أكون سنة واحدة مثل عبد الله بن المبارك فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام .

من أقواله :

– إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم توافيهم على الخير عفواً وإن أنفسنا لا تكاد توافينا عليه إلا على كره فينبغي لنا أن نكرهها .

– لو أن رجلاً اتقى مائة شئ ولم يتقي شيئاً واحداً لم يكن من المتقين ، ولو أن رجلاً تورع عن مائة شئ ولم يتورع عن شئ واحد لم يكن ورعاً ، ومن كان فيه خلّة من الجهل كان من الجاهلين .

– سئل ابن المبارك من الناس ؟ قال : العلماء ، قيل : فمن الملوك ؟ قال : الزهاد ، قيل فمن السفلة ؟ قال : الذي يأكل بدينه .

– أهل الدنيا خرجوا من الدنيا قبل أن يتطعموا أفضل ما فيها ، قيل : وما أطيب ما فيها ؟ قال : المعرفة بالله عز وجل .

– لا يقع موقع الكسب على العيال شئ ، ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل .

وفاته :

عن الحسن بن الربيع قال سمعت أبن المبارك حين حضرته الوفاة وأقبل نُصير يقول له : يا أبا عبد الرحمن ، قل لا إله إلا الله فقال له يا نُصير : قد ترى شدة الكلام عليّ فإذا سمعتني قلتها فلا تُرددها عليّ حتى تسمعني قد أحدثت بعدها كلاماً فإنما كانوا يستحبون أن يكون آخر كلام العبد ذلك .

بُشرياته بعد مماته :

عن محمد بن فضيل بن عياض قال : رأيت عبد الله بن المبارك في المنام فقلت : أي الأعمال وجدت أفضل ؟ قال : الأمر الذي كنت فيه ، قلت : الرباط والجهاد ؟ قال : نعم ، قلت : فأي شئ صنع بك ربك ؟ قال : غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة وكلمتني أمرأة من أهل الجنة أو أمرأة من الحور العين .

رحم الله هذا العالم الجليل رحمة واسعة وألحقنا به في الصالحين غير مُبدلين ولا مُضيعين ولا مُقصرين ،،