قيد وحرية..!!

بقلم/ سكينة إبراهيم

تجاوز الخامسة والستين من عمره ببضع سنوات، وفشا اللون الأبيض في رأسه يعلن عن تلك العقود العدة المتتابعة التي مرت فتركت أثرها علي هيئته وقارا وعزة، وعلي عقله علما وحكمة، وكما عودتنا قوات الانقلاب لا يشفع عندها سن أو شيبة أمام حملاتها المستعرة الحمقاء للاعتقال وما هو أعلي منه في مراحل الانتهاك..وقد كان هذا الشيخ المُعلم الكبير واحدا من هؤلاء الذين طالتهم يد الغدر تلك بالملاحقة ثم الأسر..

أمضي ليلته الأولي في تحقيقات وأسئلة كثيرة دارت جميعها حول الاستفسار عن رأيه في مجريات أحداث الخمس سنوات الأخيرة في مصر؛ لم يكن يتوقع أن هذا هو ما يبحثون عنه؛ فقد كانت أقرب إلي محاولات التقصي والتغلغل إلي عمق عما ثبت في قريرة نفسه من قيم ومعانٍ كلية، وها هو يعلن لهم وبكل بساطة ووضوح أن نفسه مازالت حرة أبية تري الحق نورا يضيء للعالمين سبيل الهدي؛ فإذا بسياط التعذيب تنزل ملتهبة خلف ظهره وتتسارع الأيدي لتكتب من فمه تلك الاعترافات منتشية بها فخورة وكأنها حازت صيدا سائغا سهلا؛ فكلماته هذه يمكنها أن تودي به ويمكن معها ضمان الإدانة أمام محاكم هزلية قد تأسست علي نفس هذا المذهب الأخرق والمنوال..!

بعدها اقتادوه وعلي عينيه تلك الخرقة السوداء البالية إلي تلك الغرفة التي يجلس فيها إلي جواره أسري آخرون اعترفوا مثله باتباع الكرامة، وأدانتهم محاسن أخلاقهم وطيب معشرهم..

كان يظن أن هذا هو مبلغ الانتهاك الذي كان ينتظره وأنه سيبقي في تلك الغرفة إذن مقيد الحرية إلي أن يأذن الله تعالي له بالفرج، ولكنه لم يكن يعلم أن الجلوس في مثل تلك الأماكن له قواعد أخري لم تخطر لنفسه الرائقة الطيبة علي بال؛ فقد كان من مستلزمات الأسر في مقرات الأمن الوطني أن يتم تقييد احدي يديه في الحائط عبر هذا “الجنزير” الممتد لمسافة متر واحد وفي نهايته إسار من حديد غليظ يربط علي المعصم بقسوة وغلظة تُنبيء عما في قلوب من أعدوه من خصال وأخلاق..

وبالفعل فقد تحسس يده اليمني فإذا هي قد صارت مكبلة معقودة بالحائط، بحيث لا يمكنه التحرك في إطار تلك الغرفة أو حتي الوقوف مستقيم القامة، كل هذا مع تعصيب عينيه وفي الوقت نفسه عدم قدرتهما علي النوم أو حتي الغفلة في إطار تلك الجلسة المؤلمة فضلا عن هذا البرد القارس الذي بدأ يشعر له بلدغات ونوبات قاسية..

تجمل معلمنا بالصبر والاحتساب، وقد أسند رأسه إلي الحائط وحاول أن يسافر بخياله بعيدا عن تلك المحنة، ولكنه ما لبث أن انتبه علي عجل، فقد أدرك أنهم قيدوا يده المصابة بجرح غائر لم يندمل بعد، وأن القيد يحتك بجرحه فيزيده إيلاما وتقيحا، كذلك هو يريد أن ينام علي وضوء فربما ساعده ذلك علي قيام ليله في الصلاة والذكر والتسبيح يستأنس بهم عما يجد من مشقة وكدر، وقد كان في الساعات الماضية والتي مرت عليه كالسنوات قد فطن إلي أن هناك أكثر من شرطي يقفون علي باب غرفة الاعتقال تلك أو قريبين منها، فربما يمكنه بالفعل أن ينادي علي أحدهم ليطلب منه أن يعدل موضع قيده وأن يذهب به إلي حيث يتوضأ وينثر علي جرحه الدامي بعض المياه. وبالفعل، أخذ في النداء حتي جاءه أحدهم، والذي يبدو أن تلك المهمة موكلة إليه ليلا، وبالفعل قام بفك قيده لدقائق معدودة اصطحبه فيها لدورة المياه، ثم أعاده إلي قيده مرة أخري بعد ما يشبه طرفة العين…ولأن ساعات الليل أكثر طولا علي الأسير من غيره، فما كادت الساعة الأولي أن تمر إلا وتجددت لديه نفس المطالب، ومن ثم فقد أعاد الكَرة، وأخذ في النداء علي السجّان، فإذا بالأخير يدخل عليه محتقن الوجه مكفهرا عابسا كأنما يعاني من لدغة عقرب سام، يصرخ في وجهه وهو علي حاله تلك، ناعتا إياه بأقبح ما يمكن لأذن الكريم أن تسمعه من صفات، وتوقف سمع معلمنا الأسير عند قول السجّان:[هل تظنني هنا أعمل “داداة” لك]، حتي لم يكد ينتبه لما جاء بعدها من كلمات، فقد بلغت تلك الجملة وحدها من الإهانة في نفسه كل مبلغ، وأحاطت به تتردد في أذنيه مهولة تلك التي صدرت من هذا الذي هو في عمر أصغر أبنائه، يهين بها تلك العقود الفارقة بين عمريهما ويهيل التراب علي شامة الوقار والنضج المكبلة رغما عنها بين يديه…

لم ينتظر أن يدير الشرطي ظهره له وهو يفارقه غائظا مستمرا في التفوه بتلك الخبائث النابية التي تصدر من شفيته، بل أسند رأسه إلي الجدار يستدعي ما يضمره قلبه من معاني الصبر والأناة والحلم، يطبب بهما علي كبريائه المكسور ونفسه الجريحة، ثم تذكر محاولته السابقة في استدعاء الخيال ومصاحبته للخروج به والسفر رغم المحن، وقد بان أنه نجح في تلك المرة، فقد بدأت تلوح أمام عينيه سماء زرقاء صافية غير محدودة الأطراف والزوايا فلا تحيطها جدران، ولا يسد أفقها أبواب أو سجّان، ولكن الغيوم ملأت صفحتها علي حين غرة، حتي حجبتها بالكلية تقريبا وظهر وكأنها تداعت عليها من كل حدب وصوب، ثم ما لبثت كوة أن انبلجت من وسط تلك الغيوم، وتسللت منها أشعة الشمس المشرقة فملأت الأرض نوار وصباحا مبينا، صاحبته أذنيه كذلك في تلك الرحلة العلوية، وكأنها تسمع من يردد حولها قوله تعالي:” أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ”.[النمل: 62]، فاستجاب لسانه لهاتف أذنيه وأخذ يردد خلفه، لاهثا بالدعاء تلو الدعاء، واثقا بصدي لكلامته تنشق له القيود وتحمله النسائم في السحر وتندفع راكضة به عبر الأفق..

جاء الصباح في قلب معلمنا وإن كان لم يوقن بعد هل بدأ اليوم الجديد أم لا، لأن عيني نظره مازالتا تحت القماشة البالية، أما عين قلبه فقد أبصرت ما هوّن عليها وربط علي جرحها وزادها بأن رفع عنها الألم، حيث تسلل وانصرف وكأنه غلام بار ائتمر فلبي وأطاع..!!

لم تنقضي الضحي من هذا النهار بعد، إلا وقد صدر قرار بترحيل هذا الأسير وعرضه علي النيابة والتي أخلت سبيله من فوره؛ فانصرف إلي بيته موفور الصحة معافي، ولم يمر علي اعتقاله سوي يوم واحد وبضع ساعات وسط دهشة الجميع وتعجبهم..!