بعد أن قام الفاطميون بذراعهم  المسمّى الحشاشين باغتيال والده، تولى هو مقاليد الحكم وكان قد تربى على سيرة والده الجهادية الحميدة، فكان بعد ذلك من أعظم الحكام المسلمين في  ذلك الزمان والعجب  العجاب أن كثيرا من المسلمين لا يعرفون سيرة هذا البطل المغوار إنّه الملك العادل نور الدين زنكي .

نور الدين محمود زنكي

سميّ «باني  الوحدة الإسلامية» في الوقت الذي كانت فيه الأمة متشرذمة أكثر من تشردمها اليوم  وهو أبو القاسم محمود بن عماد الدين بن آق سنقر الزنكي، وهو تركماني وليس عربي، فالإسلام ينصره التركماني والعربي والكردي والأمازيغي والفارسي و الرومي، يُلقَّب بالملك العادل، ومن ألقابه الأخرى ناصر أمير المؤمنين، تقيّ الملوك، ليث الإسلام، كما لُقَّب بنور الدين الشهيد رغم وفاته بسبب المرض.

وهو الابن الثاني لعماد الدين الزنكي، كان نور الدين عالما وفقيها راويا للحديث، ألَّف كتابا عن الجهاد في سبيل الله، لم تسمع منه كلمة فحش قط لا في غضب ولا في رضا، كان صموتا وقورا رحيما بالمسلمين وبغيرهم، حسن الخلق  زاهدًا في  أمور الدنيا  عُرف بالورع والتقوى وأداء  النوافل والسنن، وكان مداوما على قيام ليله وصيام نهاره.

نشأته

وُلد رحمة الله عليه في السابع عشر من شوال من عام 511 للهجرة، وتوفي  في ال 11 من شوال عام 569 للهجرة، عن عمر  ناهز ال59 سنة، لكن بعد أن غيّر الدنيا. ظهر  محمود زنكي في ساحة الأحداث  في  النصف الأول من القرن السادس للهجرة، في  وقت كان فيه المسلمون بأمسّ الحاجة إلي بطل من مثله ليأخذ بأيديهم من عتمة الظلام الدامس المتمثل في الحروب الصليبية والتكالب  الصليبي على المسلمين و تدنيسهم لبلاد المقدس كما نعيشه اليوم، وتمزقٍ للأمة وتشتت لا يستطيع المرء تشبيهه  بعصر غير عصرنا الحالي.

فمن يتأمل الوقت الذي  خرج فيه نور  الدين زِنكي  إلى الوجود يرى أن الأوضاع في  تلك الفترة أسوء  من أوضاع المسلمين اليوم، ومع ذلك استطاع نور الدين أن  يغيّر وأن يوحّد الأمة وأن يبعث  الأمل، في  فترة لم يكن للأمل منبع إشراق إطلاقا فالفوضى كانت تعمّ بلاد المسلمين وبالأخص  بلاد الشام “كما يحدث  اليوم”، الأمراء  والحكام مشغولين بأنفسهم وأطماعهم ومؤامراتهم، الصليبيين المحتلين ارتفع شأنهم وعلت قامتهم على خلافات المسلمين بسبب تطاحن المسلمين، ولولا بقية الأمل بقيت تعمل في صمت في قلوب  بعض المخلصين لحدث  ما لم يحمد عقباه.

بصيص  الأمل

جاء مع ظهور البطل الذي استطاع بحنكته وكفاءته أن يحكم الموصل، وأن يثبت أقدامه فيها كان ذلك البطل هو عماد الدين زِنكي والد محمود زنكي، نجح عماد في أن يبني  دولته من شمال العراق  إلى نصيبين و حوران، وهيّأ جيشه ليقوم بالجهاد ضد الصليبين وأدرك أن ذلك لن يتحقق  ما لم تتحد القوى الإسلامية جميعا، فتطلع إلى حلب.

حلب  في  تلك الفترة كانت غارقة إلى الرقبة في الفوضى بعد وفاة قائدها السابق عز الدين مسعود البرزقي، وتنازع عن حكم حلب  السلاجقة الأتراك من جهة والصليبيون من جهة أخرى فتحرّك عماد الدين من الموصل إلى حلب  ووضع يده عليها سنة 522هـ.

ثم لم يلبث عماد الدين تعثرت خطاه بفعل الصراعات القوية الداخلية في  المنطقة التي  أشعلها بعض الأمراء ضده خوفا من أن يسيطر عماد الدين على حكمهم، حيث  كانت حمص  دولة، ودمشق  دولة، وهكذا مثلما يحدث  اليوم مع مخطط سايكس بيكو، ما أخَّر من عزم ومُضيّ عماد الدين نحو هدفه، إذ أستغرق وقتا طويلا في  تثبيت أقدامه: دام سبعة سنوات كاملة ليبدأ في معاركه ضد الصليبيين.

مستهلا ذلك بفتح الرها، بملحمة أباد بها ثلاثة أرباع الجيش  الصليبي  المهاجم للرها، هذه المدينة الأخيرة كانت أوّل إمارة صليبية يشيدها الصليبيون في  الشرق  الأوسط، فأراد عماد الدين أن يبدأ حربه ضد الصليبيين من أول خطوة خطوها في بلاد المسلمين، هذه الملاحم لعماد الدين لم تسلم من غدر الحاقدين.

اغتيال عماد الدين زنكي

فجاء  الغدر في  السادس من ربيع الثاني سنة 541 هـ واغتيل عماد الدين زنكي هذا البطل العظيم في  تاريخ الإسلام، اغتيل على يد فرقة باطنيّة تسمى الحشاشون، تلك الفرقة التي عملت على قتل كلّ قائد مسلم قوي يظهر  ليضعفوا ويتركوا المسلمين في  هوان. كما تفعل ميليشيات الفرس ببلاد المسلمين، يعيثون في بلاد المسلمين الفساد، ويقتلون من علماء الأمة وقادتها كل من أمر أو بادر في قتال الصليبيين، رحم الله القائد عماد الدين زنكي، الذي  خلّف  بطلنا محمود الدين زنكي.

فكيف يقتلُ بطلٌ مسلم كعماد الدين الزنكي بعد أشهر قليلة من اكبر انتصار للمسلمين منذ فترة طويلة وهم في هوان وذلة، كان ذلك النصر في الرها، فهذا الحدث يشير أن الإرهاب ليس وليد عصرنا هذا فقد سبق أن أغتال الإرهاب علي بن أبي طالب وعماد الدين زنكي هؤلاء المجرمون الذين سفكوا دماء قادتنا هم من دمرونا من داخلنا كما تفعل ميليشيات اليوم.

الابن يكمل المسير

توفي الوالد وكأنما ما مات، فظهر إلى الوجود البطل والإمام العادل نور الدين زنكي، هذا البطل الذي ننتظر أن يخرج في عصرنا الحالي من يحمل صفاته وشجاعته وورعه وتقواه كي يأخذ بيدنا نحو الوحدة ونحو جهاد الصليبين، كان نور الدين محمود ثاني أولاد عماد الدين بعد سيف الدين غازي.

تأثر نور الدين وأخوه بما كان لأبيهم من خلال وفضائل وصفات عظيمة فكانوا جميعا من رجال الجهاد والرباط في سبيل لله، بعد وفاة عماد الدين زنكي، اقتسم ولداه سيف الدين غازي ونور الدين دولته، وهذا للحكم الوراثي التي كان يعمل به في ذلك الوقت، الذي كان من مساوئه أن يتقاتل الورثة على الدولة، ومن حسن الحظّ أن هذا لم يحدث مع سيف الدين غازي ونور الدين زنكي.

وأستقر سيف الدين غازي في الموصل وتبثّ أقدامه فيها أما نور الدين محمود فأنفرد بحكم حلب وبينهما نهر الخابور يفصل بين الأخوين، كان سيف الدين مرجحا للسياسة في تعامله مع الحكم، بينما كان نور الدين يحبّ الجهاد ويعشقه، فكان تواقا إلى توحيد المسلمين وإخراج الصليبين من أرض المسلمين .

الصفات التي اتسم بها نور الدين زنكي من جهادٍ وعمل على وحدة المسلمين هي التي جعلته واحدًا من أعظم القادة المسلمين، وأعظم الحكام المسلمين بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز، وجعلته محبوبا من المسلمين في دولته وفي سائر الأمة، كانت تلك الصفات من ملازمة نور الدين محمود لأبيه في جهاده للصليبين.

توحيد المسلمين وإخراج الخونة، هذه هي السبيل

كانت حلب خط النار بين المسلمين والصليبيين بسبب قربها منهم، كما اليوم خط نار بين المسلمين والصليبيين الروس المدعومين من عملاء ايران وميليشيات الأسد. هذا ما جعل نور الدين محمود أكثر الحكام شعورا بالخطر الصليبي ويوجب جهاده لهم؛ استهل نور دين جهاده بالقيام ببعض الهجمات على إمارة أنطاكيا شمال الشام فهجم عليها واستطاع أن يأخذ بعض القلاع منها، ثم أحبط وقضى على محاولة جوستين الثاني لاستعادة مدينة الرها، التي كانت منطلق أبيه في حربه ضد الصليبين، فكبّد جيش الصليبيين خسائر فادحة وأباد جيشهم.

فأنتشر الخبر في الأمة الإسلامية، ما زاد من أملها في النصر على الصليبين، بعد هذه الانتصارات تزهر في عقل نور دين فكرة توحيد المسلمين لتحرير فلسطين التي كان يحتلها الصليبيون، فعقد نور دين معاهدة مع حاكم دمشق معين الدين أنر سنة 541هـ،  وتزوج ابنة أنر لتوثيق العلاقة بين الدولتين، هذه المعاهدة ردّ عليها الصليبيون بالهجوم على دمشق، لكن نور الدين وقف في طريقهم وفتح بورصا وبعض مدن الشام .

جعلت الانتصارات هذه من نور الدين فزّاعة مخيفة للصليبيين وأدركوا أنهم أمام رجلٍ لا يقل قدرة وكفاءة عن أبيه عماد الدين، فكان الصليبيون يظنون أن بموت عماد الدين قد استراحوا لكن أمالهم سرعان ما بددها نور الدين بانتصارات كاسحة وتحرير عدة مدن من الصليبين ومزال نور الدين في سنّ التاسعة والعشرين من عمره.

الحملة الصليبية الثانية تجتاح فلسطين

في سنة 542هـ وصلت إلى فلسطين والشام الحملة الصليبية الثانية وهي من أخطر الحملات تحت قيادة ملك فرنسا لويس السابع وملك ألمانيا كونراد الثالث، ملوكُ تركوا عروشهم من أجل احتلال الأمة العربية واستعمارها، لكنّ نور الدين زنكي وقف لها بالمرصاد مفشلا إياها وبخسائر كبيرة بعد أن وحد دمشق والموصل وحلب، ما دبّ في قلوب المسلمين أمل في المبادرة في الهجوم، قرر نور الدين فك الحصار عن حارم والتوجه إلى قرية ارتاح مفضلا أن تكون معركة سهلية، وهذا ما يغفل عنه الثوار في الشام اليوم، أن يفتحوا جميع الجبهات، فمعركة دمشق كي تنجح، لابد أن تكون نار درعا وحماة قويّة .

ظن بهيموند الثالث أن جيش نور الدين لاذ بالفرار فاستعجل الخطأ للحاق بجيوش نور الدين، حتى ابتعد عن بقية جيوشه وجد نفسه محاصرا بقوات نور الدين وهُزِم ووقع في الأسر. كرّ نور الدين على بقية جيوش الصليبيين فهزموهم ووقع في الأسر معظم القادة مثل ريموند الثالث وقسطنطينوس كالمنوس وبعد ذلك توجه إلى حارم وتمكن من السيطرة عليها.

الطريق إلى مصر وإسقاط الفاطميين

بعد هذه الانتصارات التفت نور الدين نحو مصر بعد أن أشغل الصليبين بالشام فأرسل أسد الدين شيركوه والناصر صلاح الدين الأيوبي وبعد عدة حملات تمكن أسد الدين وصلاح الدين من الدخول إلى مصر وضمها، وعيّن محمود نور الدين الناصر صلاح الدين الأيوبي واليّا على مصر وأمرّه بالتثبيت المذهب السنّي في مصر وإسقاط الفاط

.

وفاة نور الدين محمود

وقع نور الدين في أوائل شوال من سنة569هـ بالذبحة الصدرية وبقي على فراش المرض أحد عشر يوما ليُتوفَّى في 11 من شوال569هـ وهو في التاسعة والخمسين من عمره. ودُفن في البيت الذي كان ملازما فيه في قلعة دمشق، ثم نقل جثمانه إلى المدرسة النورية الواقعة في سوق الخواصين بدمشق، وقد رثاه العماد الأصفهاني بقصيدة مطلعها:

بالعودة إلى ما يجري اليوم في أمتنا الإسلامية فهذه الأمة تعيش نفس ما عاش أسلافها في زمن نور الدين زنكي بل كان زمان نور الدين محمود زنكي أسوء من زمننا، تكالب صليبي هائل، تمزق إسلامي كبير بحيث أن في ذلك الزمن كانت دمشق دولة، حلب دولة، بورصا دولة، قرى صغيرة كانت تعتبر دولة، وللنهوض واسترجاع الأمجاد لابد لهذه الأمة من نور الدين الزنكي جديد.