ماذا تبقي من الدماء؟!

بقلم/ سكينة إبراهيم

نسعي في تلك الأسطر إلي استخدام مدخلا منهجيا نطلق عليه “الإستبقاء للفحص”، ويعني النظر إلي الوقائع التاريخية نظرة غير المتعجل؛ بل المتأمل المتدبر الساعي إلي تجاوز منهجية السرد بماذا كان وكيف كان، وإنما الباحث عن إجابة لسؤال وماذا تبقي..؟

الأمر الذي يكمن الرد عليه في الحدث نفسه بتداعياته التي مازالت تصنع أثرا، كما تكمن أيضا في المعني والفكرة، اللّتين ربما تحولتان إلي قبس من هدي ننظر بهما حين تدلهم علينا وتختلط طرق النجاة..

ومذبحة “رابعة” لم تكن حدثا عاديا يمكن لنا أن نستعيدها كأية مرثية درامية احتفظ بها التاريخ، وإنما كانت نقطة شديدة الخصوصية علي مسرح ثورات الربيع العربي بأكمله. فمن ناحية كانت باعتصامها الرباني المبدع تطورا شديد الإيجابية في إستراتيجيات “اليد الفارغة من السلاح” التي تميزت بها ثورات تونس ومصر علي وجه الخصوص، فقد امتدّت بها الثورة من التحرير إلي “رابعة” مرورا “بالنهضة” وغيرها من الميادين لتعيد إنتاج الثمانية عشر يوما التي قضاها المعتصمون في ميدان التحرير عام 2011 حتي يتحولوا إلي ثمانية وأربعين يوما فيتطور بهم ومعهم شكل الفكرة الرمزية للاعتصامات والأدوار التي تؤديها، بل ومساحة الجلد والصبر التي يمكن للمصريين أن يتحلوا بها في ظروف كانت أقسي وأشد بكثير من التحرير، بل وتحت تهديدات وشت بنفسها شيئا فشيئا بسيل من الدماء في مذابح مصغرة في كل من الحرس الجمهوري، والمنصورة، والمنصة.

حيث كشفت الاعتصامات عن مساحات كبيرة من الإبتكار والتميز سواء من حيث المؤسسات الإجتماعية والخدمية التي أسستها، أو من حيث الطاقات النفسية الكبيرة لتقبل التحدي وإقرار مواجهته بالحسني إلي أبعد حد..إنه نموذج يثبت أن الكوامن الإيجابية في النفس البشرية ربما تكون أكبر مما يتوقعه كل علماء النفس والإجتماع علي مر العصور..

أما الأمر الثاني الذي يجعل ذكري “رابعة” نقطة تحول، فهو كونها كانت طاقة الضوء التي أفشت هذا الحجم الهائل من المؤامرات المحلية والدولية التي تترصد الوطن العربي بأكمله، وفتحت الأعين علي تلك الخيوط المتشابكة التي ينسجها المتآمرون حول بلادنا منذ عقود، وفضحت بجلاء قدرا غير قليل من المتعاونين معهم البائعين مصالح بلادهم وأهليهم لأعتي الأعداء..

ولأن ما سبق يؤكد أننا هنا في ذكري غير تقليدية، فإن ما تبقي منها في الفكر والوجدان لابد أن يكون غير مألوف مثلها، فماذا عسانا الآن أن نستبقي من تلك الأوقات، ليستمر معنا في حياتنا الحاضرة ومستقبلنا؟!

إن أجل ما يمثل إطارا حاضنا للألم يهونه علينا ويرطب بمعانيه السامية من لظي القلوب المحترقة كمدا؛ حين نعرف أن الدماء الغالية مايزال عبق مسكها يعطر الأجواء..

نقطة إرتكاز…

و أول ما يمكن أن نستبقيه ونلحظه من “اعتصام رابعة” هو توقيته الإضطراري في شهر رمضان المبارك، وما يستتبع ذلك من شعائر معينة في هذا التوقيت بالذات، ما بين الفرائض والواجات والسنن والنوافل، كل هذا في خضم الجو شديد الحرارة والذي من المؤكد أنه يزيد من مشقة الصوم خصوصا، والشعائر التعبدية بوجه عام، وهنا كان الإختيار الغير نمطي؛ حيث لم يستغني المعتصمون عن أي من الهدفين، فقد استطاعوا بجدارة الجمع ما بين مناسك الصيام والقرآن والقيام، وفي الوقت نفسه أبدعوا في آليتهم الإحتجاجية والتي لم يظهر أنها بنت ليوم أو بضعة أيام وتنتهي.

إن الأمر بتأمله لا يتوقف عند حد الصبر في الجو شديد الحرارة، وفي الوقت نفسه الإتيان بالشعائر، وإنما هي تلك الإشارات الغير خافية علي هذا الجهر بالجمع بين متطلبات الدنيا، وشعائر الدين، بل إن التعبير الصحيح لن يفرق إذن بين هذا وذاك، لأنه سيفهم أن كلا من الحرية والحفاظ علي الأوطان مقاصد إسلامية، كما في ذلك تلك المطلوبات الشعائرية النسكية..إنه التطبيق المباشر للمنهج، والذي يلفظ عن كاهله بجلاء هذا الفصل التعسفي بين الدنيا والدين، ويعلن بوضوح: أن هناك دينا قويما لن ننفر منه، ولن نطويه مختبئا في عباءة أو مسبحة وثوب صلاة..

أفصح هذا الفهم عن نفسه بشكل أكبر بكثير؛ بحيث صارت “الربانية” و”التكافل” والحديث عن “الشهادة” وتذكرها من المعاني الأصيلة التي تميز بها الإعتصام، والتي أعلنت عن نفسها بكل طلاقة وبلا مواراة وأكدت عمليا كونها جزءا أصيلا من هذا الدين الحنيف وأنها كمساحات قيمية وأخلاقية يُتعبد بها لله عزوجل..

إن التأكيد علي هذا المكون التعبدي في الممسارات السياسية وخاصة تلك التي تمثل نمطا تغييريا جذريا مباشرا، ربما يعد هو في حد ذاته نقطة فاصلة في عالمنا العربي بعد أن ظل لسنوات طويلة يتخفف أو ربما يتنصل من هويته الإسلامية الحقيقية خاصة في خطابه أو فعله السياسي، وسوف يمثل هذا نقطة إرتكاز للإتكاء عليها في تطوير هذا المسار وتحويله من مجرد نقطة إلي خطة عمل متكاملة تستكمل التنظير الحديث لممارسات سياسية ذات مرجعية إسلامية واضحة؛ ليس فقط في الحكم أو في المعارضة، وإنما في إنتاج وتطوير نظرية للمقاومة المبدعة بشكل عام، تلك التي تخضع الآن في العالم كله لتطورات هائلة، ولابد أن يكون للمرجعية الإسلامية منتجها الخاص في هذا الإطار..

الإرث العظيم

حين يتوفي أحدهم ورغم مرارة الألم لفراقه؛ إلا أن هذا لا يمنع مستحقوا إرثه أن يأخذوه خالصا مباركا، فرغم أن تلك الأموال لا تنسيهم مصابهم في فقيدهم، إلا أنها قد تطيب خاطرهم بل وتزيد من وشائج العلاقة بالمتوفي رغم الموت؛ فيتذكروه بالمزيد من الدعوات والصدقات والبر ..

إن الأحداث العظيمة “كرابعة” وغيرها ورغم ما لها من مشقة وكدر، إلا أنها بمثابة سجل حافل بقصص الصمود والتضحية والشجاعة، إنه الميراث الهائل من النماذج والقدوات في التطبيق العملي للأفكار والمناهج، فيمكن لقصة واحدة من بطولات “رابعة” أن تكون أنفع وأجدي من ألف مقال، ومئات الدروس من الوعظ..

إن الكثير من الأمم الحديثة لتحاول بشتي الطرق أن تصنع لنفسها تاريخا تليدا تفخر به، أو تربط به الأجيال لديها فتدعم في قلوبهم دواعي الإنتماء وبواعث الأصالة، كما أن البلدان ذات العراقة التاريخية التي انتكس قطار شأنها وسيادتها، لتعيد علي أبنائها قصص ماضيها المنقضي رغم انفصال تأثيره في حاضرهم وحياتهم الراهنة..

أما “رابعة” فهي ذلك الماضي القريب الذي حق لكل من إنتمي إليه أن يفخر، بما حمله من عزة السعي والبحث عن حرية الوطن، في وقت سَمته العام هو الإنغماس في الفردية والإنكفاء حول الذات بمتطلباته المادية..إنها قصة بحيرة المياه الدافئة وسط جبال الثلوج العاتية، وقطرات الندي المتساقطة علي جذع النخلة المنكسرة في صحراء زمن القيظ..

فلسفة العلاج ..بما هو أمر..!

ربما يلجأ المريض إلي تناول دواء شديد المرارة ليتغلب علي مرض أشد وأفتك، وعليه فقد يكون بالفعل علاج داء الوطن مما أصابه علي مر العقود يحتاج إلي كل التضحيات التي تهون وتصغر أمام حرية وكرامة أجيال قادمة..
وفي الوقت نفسه قد يكون هذا التشبيه هنا غير متناسب ما بين “رابعة” وبعض القطرات من الدواء المُر، وعلي هذا يكون الأكثر مناسبة أن نقول أن “رابعة” هنا بما تمثله من وابل من الألم الكثيف، إنما هي علاج لما هو أقل منها وأهون..!

فعندما تتحدث الآن للكثير ممن عاصروا المذبحة ورأوا الجثامين والأشلاء بأعينهم، وتسألهم عن أية مشكلة أو ململة من ملمات الحياة الراهنة، فرغم كل المستجدات في حياتهم العامة والخاصة من خطوب ومحن، فستكون إجابتهم بأن :”الكثير مما بعد رابعة يهون”، والأمر ليس إجترار للعذابات والمآسي ليشد بعضها من أزر بعض، وإنما هي فلسفة الوجع الذي يصلب العود ويقوي البنيان، فيهون البلاء بالبلاء الأكبر، ومعه تطمئن القلوب وترضي، فلا تجزع لمُصاب ولا يتزلزل كيانها من حادث فيُغلق عن قلبها مفاتيح الأمل..

عندما نقرأ مما يُنسب مرويا عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: “ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى عليّ فيه أربع نعم: إذ لم يكن في ديني، وإذ لم يكن أعظم منه، وإذ لم أحرم الرضا به، وإذ أرجو الثواب عليه”..فربما كانت “رابعة” هي بالنسبة لبعضنا الآن ذلك “الأعظم منه” الذي تهون بالمقارنة به الأمور الجسام، لكن الحقيقة أن ما يعنينا هنا هو لفت الإنتباه إلي تلك الآلية الخاصة في التطبيب الذاتي، والإنشغال بتخفيف وقع المصائب علي النفس بوسائل شتي وليس الإنغماس في النواح والإنزلاق والإستسلام إلي الكآبة والأحزان، فليشمر كل منا عن يد ملطفة تربت علي كتفها وكتف غيرها حتي تمر المحن بسلام، ولتكن “رابعة” هي كما يراها البعض الذكري التي تحضر ليهون إلي جوارها عظيم الخطب والألم..