مقومات القيادة في شخصية نور الدين محمود زنكي

إن مفتاح شخصية نور الدين محمود زنكي شعوره بالمسؤولية وحرصه على تحرير البلاد من الصليبيين وخوفه من محاسبة الله له وشدة إيمانه بالله وباليوم الآخر وكان هذا الإيمان سبباً في التوازن المدهش والخلاّب في شخصيته، فقد كان على فهم صحيح لحقيقه الإسلام وتعبد الله بتعاليمه، وتميزت شخصيته بمجموعة من الصفات الرفيعة والأخلاق الحميدة والتي ساعدته على تحقيق انجازاته العظيمة والتي من أهمها:

فقهه لشمول العبادة:

                نور الدين محمود زنكي رحمه الله قائد رباني؛ عابد زاهد، كان يصلي معظمَ الليل يسأل ربَّه ويتضرع إليه، وكان صَوَّامًا، قوَّامًا، محافظًا على الجماعة، عاش العبادة بمفهومها الشامل، واهتم بواجب الوقت؛ قد جعل نور الدين شغل الدولة من أهم العبادات، ولم ينسَ حظَّ نفسه من العبادة الشخصية، فقد أيقن أنَّ الاجتهادَ في العبادة من شروط التمكين؛ قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾)النور: 55(. و قد حقق نور الدين التوازن بين عباداته الشخصية والقيام بواجباته كحاكم؛ فلم تشغله مهام الحكم ومسئوليات الدولة وجهاد الأعداء وإقامة العدل بين الرعية عن صلاة الجماعة وقيام الليل وتلاوة القرآن ومدارسة العلم.

عرف رحمه الله بقيام الليل: قال أبو شامة: ” كان يصلي أكثر الليالي و يناجي ربه، مقبلاً بوجهه عليه، ويؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، بتمام شرائطها وأركانها وركوعها وسجودها” (الروضتين لأبي شامة)، وقال ابن الأثير: “كان نور الدين يصلي فيطيل الصلاة، وله أوراد في النهار، فإذا جاء الليل وصلي العشاء نام، ثم يستيقظ نصف الليل، ويقوم إلى الوضوء والصلاة والدعاء إلى بكرة، ثم يظهر للركوب ويشتغل بمهام الدولة” (التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية لابن الأثير). وقال ابن قاضي شهبة: “كان نور الدين كثير الصيام، وله أوراد في الليل و النهار، وكان يقدم أشغال المسلمين عليها ثم يتم أوراده) (الكواكب الدرية لابن قاضي شهبة). وكان يخصص في بيته مكاناً للعبادة فقد روي أنه ألحق ببيته صُفّة يخلو فيها للعبادة، فلما ضربت الزلازل دمشق، بنى بإزاء تلك الصفة بيتاً من الأخشاب: “فهو يبيت فيه ويصبح ويخلو بعبادته ولا يبرح، ولما توفي دفن في البيت البسيط المقام من الأخشاب”(نور الدين محمود لـ د. عماد الدين خليل).

و قد كان رحمه الله مهتماً بالعلوم الشرعية، قال ابن عساكر: “كان نور الدين كثير المطالعة للعلوم الدينية، متبعاً للآثار النبوية، مواظباً على الصلوات في الجماعات، مراعياً لأدائها في الأوقات، مؤدياً لفروضها ومسنوناتها، معظماً لفقدها في جميع حالاتها، عاكفاً على تلاوة القرآن على الأيام، حريصاً على فعل الخير من الصدقة والصيام، كثير الدعاء والتسبيح، راغباً في صلاة التراويح، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق والخرج، متحرياً في المطاعم والمشارب والملابس، متبرياً من التباهي والتماري والتنافس، عرياً عن التجبر والتكبر، بريئاً من التنجم والتطير، مع ما جمع الله له من العقل المتين، والرأي الصويب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبه بالعلماء والصالحين، والاقتفاء لسيرة من سلف منهم في حسن سمتهم والاتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم” (تاريخ دمشق).

وضوح رؤيته السياسية و العسكرية:

يقول الدكتور محمد سهيل طقوش، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الإمام الأوزاعي ببيروت،”كان نور الدين وهو في الثلاثين من عمره واضح الرؤية والهدف منذ أن تسلم الحكم حتى يوم وفاته، إذ كان عليه واجب الجهاد لتحرير الأرض من الصليبيين المعتدين وعلى رأسها بيت المقدس، وتوفير الأمان للناس، وأدرك أن الانتصار على الصليبيين لا يتحقق إلا بعد جهاد طويل ومرير حافل بالتضحيات في خطوات متتابعة تقرب كل منها يوم الحسم، فالخطوة الأولى التي كان قد بدأها والده عماد الدين زنكي حين حرَّر إمارة الرها التي تشكِّل تداخلاً مع الأراضي الإسلامية، فتمكن بذلك من تطهير الأراضي الداخلية وحصر الوجود الصليبي في الشريط الساحلي، وعليه أن يخطو الخطوة الثانية، لذلك وضع أسس سياسة متكاملة تتضمن توحيد بلاد الشام أولاً، ثم توحيد بلاد الشام ومصر التي كانت تعاني من الاضطرابات وفوضى الحكم ثانيًا، وطرد الصليبيين من المنطقة ثالثًا، وكان التوحيد في نظره يتضمن توحيد الصف والهدف في آن واحد، فأما توحيد الصف فهو جمع بلاد الشام ومصر في إطار سلطة سياسية واحدة، وأما توحيد الهدف فهو جمع المسلمين تحت راية مذهب واحد هو مذهب أهل السنة، وكان كلَّما توغل في خضم الجهاد، وتقدم به الزمان يزداد اقتناعًا بصواب هذه السياسة، وكان سبيله إلى ذلك مزيجًا من العمل السياسي والمعارك العسكرية التي تخدم توحيد الصف والهدف” (د/ طقوش: تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام).

حسن صلته بالله:

كان رحمه الله حسن الصلة بالله شديد التعظيم له وكان كثير الدعاءوالتضرع له و من عمق فهمه للتوحيد ومعرفته بالله تعالى كان لا يفعل فعلاً إلا بنية حسنة (عيون الروضتين في أخبار الدولتين ج1)، وحقق في حياته مفهوم التوحيد الصحيح، وحقق الإيمان بكل معانيه والتزم بشروطه وابتعد عن نواقضه ، قال له قطب الدين النيسابوري – الفقيه الشافعي – مرة: بالله لا تخاطر بنفسك، وبالإسلام والمسلمين فإنك عمادهم (كتاب الروضتين نقلاً عن الجهاد والتجديد) – فقد نصحه بعدم الاشتراك بالقتال والمخاطرة بنفسه حتى لا يقتل فلا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف وتؤخذ البلاد (دور نور الدين في نهضة الأمة)، فقال نور الدين: يا قطب الدين اسكت فإن قولك هذا إساءة أدب على الله، ومن محمود حتى يقال له هذا، قبلي من حفظ البلاد، ذلك الله الذي لا إله إلا هو فبكى من كان حاضراً (الكواكب الدرية)، وفي ساحة الحرب، حيث الموت على بعد خطوات وحيث لقاء الله آت وراء كل لحظة .. كان نور الدين يذوب تواضعاً وإشفاقاً وتصفه تقواه العميقة في حضور مؤثر أمام الله حيث تتمزق في أعماق وعيه بقايا الستائر والحجب التي ظل يكافح من أجل تمزيقها لكي يقف نقياً .. فعندما التقت قواته في حارم بالصليبيين الذين كانوا يفوقونهم عدة وعدداً انفرد نور الدين تحت تل حارم وسجد لربه عز وجل ومّرغ وجهه وتضرع وقال: يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك. وإيشى فضول محمود في الوسط؟ يقول أبو شامة: يشير نور الدين هنا إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر”. إن نور الدين محمود اعتبر الدعاء من أمضى الأسلحة التي تسهم في تحقيق النصر، ومهما أعد المسلمون من أسلحة وعدة وعتاد، فإنهم يظلون عرضة للفشل والهزيمة والإحباط، إذا امتنعوا عن استخدام هذا السلاح، أو أساءوا استخدامه (مقومات النصر في ضوء القرآن والسنة ج1)، ولذلك استخدمه بنفسه وطلب من الزهاد والعباد والعلماء والفقراء والفقهاء كذلك وكان مستوعباً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تنصرون إلا بضعفائكم(البخاري). ﴿ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين﴾ (الأعراف: 55).وقوله تعالى: ﴿وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين﴾ (غافر، آية: 60) وقوله تعالى ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا لي لعلهم يرشدون﴾ (البقرة، آية: 186).

تجرده وزهده :

لقد كان رحمه الله عابداً زاهداً في المظاهر والألقاب؛ يرفض التزلف والنفاق؛ فقد تلقى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسية، ومعها قائمة طويلة بألقابه التي كان يعي له بها على منابر بغداد فأبطلها جميعاً واستبدلها بدعاء واحد: “اللهم أصلح عبدك الفقير محمود زنكي” (الكواكب الدرية لابن قاضي شهبة). وقد كان رحمه الله مقتصداً في النفقة زاهداً في متع الحياة: يقول ابن كثير رحمه الله: “كان نور الدين عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على أهله و عياله في المطعم والملبس حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه، من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا” (البداية و النهاية لابن كثير). قال ابن الأثير: «أحضر نور الدين الفقهاء، واستفتاهم في أخذ ما يحل له، فأخذ ما أفتوه بحله، ولم يتعده إلى غيره البتة، ولم يلبس قط ما حرمه الشرع من حرير أو ذهب أو فضة”، وأما ما يهدي إليه من الثياب وهدايا الملوك، وكل دقيق وجليل لا يتصرف في شيء منه بل يعرض نظره عنه وإذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ليحصّل أثمانها الموفورة ويصرفها في عمارة المساجد المهجورة (نور الدين محمود الرجل والتجربة)، ويقول سبط ابن الجوزي: “كان نور الدين إذا أقام الولائم العظيمة لا يمد يده إليها إنما يأكل من طبق خاص فيه طعام بسيط” (مرآة الزمان في تاريخ الأعيان لسبط ابن الجوزي). قال ابن الأثير: “حَكَى لنا الأميرُ بهاء الدين علي بن الشكري قال: كنت معه في الميدان بالرُّها والشمس في ظهورنا، فكلَّما سرنا تقدَّمَنا الظل، فلما عُدنا، صار ظلُّنا وراء ظهورنا، فأجرى فرسَه وهو يلتفت وراءه، وقال لي: أتدري لأي شيء أُجري فرسي وألتفت ورائي؟ قلت: لا، قال: قد شبهت ما نحن فيه بالدُّنيا، تهرب ممن يطلبها وتطلب من يهرب منها، قلت: رضي الله عن مَلِكٍ يفكر في مثل هذا”.

حبه للسنة:

كان رحمه الله محباً للسنة عارفاً بفضلها عاملاً علي إقامتها، فأقام دولته على السنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال عنه ابنُ كثير رحمه الله: “أظهرَ نورُ الدين ببلاده السنةَ، وأمات البدعةَ، وأمر بالتأذين بحيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، ولم يكن يؤذَّن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنَّما كان يؤذَّن بحي على خير العمل؛ لأن شعار الرَّفض كان ظاهرًا”. كان نور الدين محباً للسنة حريصاً على اتباعها، قال عنه ابن عساكر: “لقد حكى عنه من صحبه في حضره وسفره أنه لم يكن يسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وإن أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها” (تأريخ دمشق لابن عساكر). حكى الشيخ أبو البركات أنه حضر مع عمه الحافظ أبي القاسم مجلس نور الدين لسماع شئ من الحديث، فمر أثناء الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متقلداً سيفاً، فاستفاد نور الدين رحمه الله أمراً لم يكن يعرفه، وقال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلد السيف!! ” يشير إلى التعجب من عادة الجند إذ هم على خلاف ذلك لأنهم يربطونه بأوساطهم، فلما كان من الغد مرّ وأنا تحت القلعة والناس مجتمعون ينتظرون ركوب السلطان، فوقفنا ننظر إليه، فخرج من القلعة وهو متقلد السيف و جميع عسكره كذلك، و يعلق ابن قاضي شهبة على هذه الحادثة فيقول: “رحم الله هذا الملك الذي لم يفرط في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الحالة، بل لما بلغته رجع بنفسه ورد جنده عن عوائدهم اتباعاً لما بلغه عن نبيه صلى الله عليه سلم فما الظن بغير ذلك من السنن” (نور الدين محمود لـ د. عماد الدين خليل ، والكواكب الدرية).

عدله ورحمته:

قال ابن الأثير: “طالعت تواريخَ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أرَ بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أحسنَ سيرةً من الملك العادل نورِ الدين، ولا أكثر تحرِّيًا للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدلٍ ينشُره، وجهادٍ يتجهز له، ومظلمةٍ يزيلها، وعبادةٍ يقوم بها، وإحسانٍ يوليه، وإنعامٍ يسديه” ( كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية)ويقول ابن الأثير عنه أيضا: “كان يتحرى العدل وينصف المظلوم من الظالم كائناً من كان، القوي والضعيف عنده في الحق سواء، فكان يسمع شكوى المظلوم ويتولى كشف ذلك بنفسه، ولا يكل ذلك إلى حاجب ولا أمير، فلا جرم أن سار ذكره في شرق الأرض وغربها ( ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج11)كان رفيقًا بالضعفاء والمساكين ويقول: “هؤلاء جندُ الله، وبدُعائهم ننتصر على الأعداء، ولهم في بيت الله حقٌّ أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقِّهم، فلهم المنة علينا”، كان محبوبًا من الرعية، مُعظَّمًا عندهم؛ قال ابنُ كثير : ” لما مرض نورُ الدين، مرض الشامُ بمرضه، ثم عوفي ففرح المسلمون بذلك فرحًا شديدًا”

شجاعته وحسن تدبيره:

كان رحمه الله شجاعاً مقداماً، وكان ذا حكمة وتدبير، يقول ابن الأثير رحمه الله: “وأما شجاعته وحُسن رأيه فقد كانت النهاية إليه فيهما، فإنه كان أصبر الناس في الحرب، وأحسنهم مكيدة ورأياً، وأجودهم معرفة بأمور الأجناد وأحوالهم، وبه كان يضرب المثل في ذلك، سمعت جمعاً كثيراً من الناس لا أحصيهم يقولون: “إنهم لم يروا على ظهر الفرس أحسن منه، كأنه خلق منه لا يتحرك و لا يتزلزل” (التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية). ويقول ابن عساكر رحمه الله: “بلغني أنه في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، شديد الانكماش، حسن الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدُم أصحابه عند الكرة، ويحمي منهزمهم عند الفرة، ويتعرض بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة” (تاريخ دمشق لابن عساكر). ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وأما شجاعته فيقال: إنه لم ير على ظهر فرس أشجع ولا أثبت منه»، وقال كذلك: «وكان شجاعاً صبوراً في الحرب، يضرب المثل به في ذلك، وكان يقول: قد تعرضت للشهادة غير مرة، فلم يتفق لي ذلك، ولو كان فيّ خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها، والأعمال بالنيات.(البداية والنهاية لابن كثير). وكان نور الدين رحمه الله إذا حضر الحرب أخذ قوسين وجعبتين، وباشر القتال بنفسه (نور الدين محمود وتجربته الإسلامية د. عماد الدين خليل).

وعند حصن الأكراد عام 558هـ هاجم الصليبيون معسكر نور الدين رحمه الله على حين غفلة وهو في قلة من أصحابه؛ فانسحب بسرعة إلى حمص وأخذ ما يحتاجه من خيام وتجهيزات عسكرية، وعاد فعسكر على بحيرة (قدس) على بعد أربعة فراسخ فحسب من مكان الهجوم، يقول ابن الأثير: «فكان الناس لا يظنون أنه يقف دون حلب، فكان رحمه الله أشجع من ذلك وأقوى عزماً»، وعلى بحيرة (قدس) اجتمع إليه كل ناجٍ من المعركة فقال له بعض أصحابه: ليس من الرأي أن تقيم هاهنا، فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا ونحن على هذه الحال؛ فوبخه واسكته وقال: «إذا كان معي ألف فارس لا أبالي بأعدائي قلّوا أم كثروا، والله لا أستظل بجدار حتى آخذ بثأر الإسلام و ثأري»، وأرسل إلى حلب يطلب مزيداً من الأموال و العدد. وكان في نية الصليبيين الهجوم على حمص باعتبارها أقرب المواقع إليهم، فلما بلغهم مقام نور الدين رحمه الله قريباً منها قالوا: إنه لم يفعل هذا إلا وعنده من القوة ما يمنعنا به” (نور الدين محمود و تجربته الإسلامية د. عماد الدين خليل).

لياقته البدنية العالية:

تطلبت حياة نور الدين محمود الحافلة بالعمل المتواصل والجهاد المضنى جسداً قوياً قادراً على تحمل الأعباء والمشقات ولا يتم بناء الجسم القوي إلا بممارسة الرياضة ولذلك كان نور الدين مواظباً على ممارسة الألعاب الرياضية المعروفة في زمانه بما يتعلق بالفروسية وأعمال القتال، (دور نور الدين في نهضة الأمة)، يقول ابن الأثير: «عندما احتجّ عليه أحد الزاهدين من أصحابه لأنه يلهو ويُعذب الخيل لغير فائدة دينية: قال والله ما حملني على اللعب اللهو والبطر، وإنما نحن في ثغر، والعدو قريب منا، وبينما نحن جلوس إذ يقع صوت فنركب في الطلب، ولا يمكننا أيضاً ملازمة الجهاد ليلاً ونهاراً شتاء وصيفاً إذ لابد من الراحة للجند، ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت جماماً لا قدرة لها على إدمان السير في الطلب، ولا معرفة لها أيضاً بسرعة الانعطاف في الكر والفر في المعركة فنحن نركبها ونروضها بهذا اللعب فيذهب جمامها وتتعود سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها في الحرب فهذا والله الذي يبعثني على اللعب، وقد فسر نور الدين بكلامه هذا الممارسة الرياضية تفسير إسلامياً رائعاً في جوابه على اعتراض أحد إخوانه الزهاد عندما كتب له (نورالدين محمود الرجل والتجربة). وهكذا كان نور الدين محمود لا يغيب عنه مفهوم العبادة الشامل في لهوه ولعبه وجده، وكانت رحلات الصيد الممتعة من رياضته الأخرى، تحمل من الجّد جنب متعتها البريئة، ما يجعلها من بين المهارات الفروسية التي يتقنها ويتعشقها يومذاك الفارس والمجاهد ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة﴾ ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي (مسلم). قال: من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا (مسلم). وليس مهارات الصيد في نظر نور الدين محمود زنكي سوى محاولة، من بين عديد من المحاولات لتركيز القدرة على الرمي وحمايتها من التبدد والنسيان، وحكى أسامة بن مُنقذ في كتابه الاعتبار عن ممارسة نور الدين لرياضة الصيد “وظل نور الدين يمارس رياضة الصيد، ويتعشق لعب الكرة والرماية حتى مرضه الأخير”.