نظرات في تراث الامام البنا

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، سيدنا محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه واقتفى أثره إلى يوم الدين ، ثم أما بعد

إن المتأمل في كتابات الإمام الشهيد حسن البنا – رحمه الله – يجد نفسه أمام رجل موفق من ربه ، بدليل ما تتركه هذه الكتابات من أثر في نفس قارئا ، فضلا عن عمق وثراء معانيها ، وبساطة أسلوبها ومبانيها ، وواقعية مراميها .

فتجده يؤصل القضايا ، ويحلل عناصرها ، ويشخص الداء ، ويحدد الدواء ، يبث في النفوس الأمل ، ويحثها على الجهد والعمل . وتلحظ فيما كتب وسطر ، أنك أمام داعية ومرب وفقيه ومجرب ، أمام عالم أحسن النظر في كتاب الله وسنة رسوله وسيرة صحابته والتابعين ، وملم بتجارب التاريخ والأمم .

خلاصة القول في هذا المدخل ، أن كل ما سبق من فضل هو توفيق من الله لهذا القائد الرباني ودليل على إخلاصه وتضحيته من أجل دعوته وفكرته ، ولذلك كانت كلماته وكتاباته تنفذ إلى قلوب وعقول من يعمل فيها النظر .

ولذلك كانت هذه السلسلة من النظرات في مختارات من تراث الإمام المجدد (رحمه الله) .

أركان النجاح للأمة الناهضة ثلاثة

يقول الإمام البنا : (أعتقد أن أركان النجاح للأمة الناهضة ثلاثة ، لابد منها :

1- طبيب حاذق ماهر يتعرف العلة ويصف الدواء

2- دواء نافع يستأصل شأفة الداء

3- وإقبال من الأمة على التعاطي وإن كان الدواء مرا ؛ حتى يتم الشفاء

وإن فضل الله على الأمة الإسلامية أن طبيبها لايزال خالداً ماثلاً في قوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء 107 ، وأن دواهما سيظل محفوظا في قارورة قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر 9 ، ولم يبق إلا أن يقبل الناس على التعاطي (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد 11 ).

المصدر : خطبة لفضيلة الأستاذ المرشد ، نشرت في جريدة النادي ، العدد (32) بتاريخ 2 شعبان 1354 هـ – الموافق 27 ديسمبر 1936 م .

الفوائد والدروس :

1- أن مقومات عودة الأمة إلى عزها ومجدها موجودة محفوظة ، ولا ينقصنا إلا الإرادة القوية نحو الأخذ بها .

2- أن هدي النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – وسيرته العطرة كقدوة وأسوة في قوله وفعله ، عقيدته وعبادته وخلقه ومعاملاته ، هو معلم الأمة ومربيها وقدوتها في بناء المسلم الصحيح ، وتكوين الجيل الذى يستطيع – إن اقتدى بنبيه – أن يعود بالأمة إلى سابق عهدها من التمكين والسؤدد . وأن سيرة من اتبع هديه واقتفى أثره من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان هي معين للتربية ، واتصال أمين بهدي النبي القدوة .

3- أن المربي القدوة الذى يقتدى بنبيه ، ويسلك سبيله في الدعوة والتربية هو من دعائم نهضة الأمة ، وحجر الزاوية في بناءها التربوي ، وبقدر الاهتمام به وتأهيله ورعايته وإعداده ورفع كفاءته ؛ يكون دوره في نهضة أمته ونجاح دعوته .

4- أن الأمة التي حفظ الله لها قدوتها الأول بهديه وسيرته القولية والعملية ، قد حباها الله أيضا بحفظ المعين الصافي لمنهج حياتها ومصدر عزها وهو القرآن الكريم ، والعجيب أن أمة تمتلك هذه المقومات نراها تعيش حالة من الانقسام والتبعية والضعف والتخلف . (إِنِّى قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِى وَلَنْ تَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ) صححه الألباني في صحيح الجامع

5- أن أصل مشكلة أمتنا ، أنها بعيدة عن منهج ربها ، وهدي نبيها ، وهو ما حرص عليه المتربصين بها ، أن يبعدوها عن مصدر عزها وقوتها .

6- أن القرآن الكريم هو دستور أمتنا ، فيه علاج أمراضنا ، وشفاء أسقامنا ، وبالتالي أي منهج للتربية والتغيير لا يكتب له النجاح بعيدا عن هذا المنهج الرباني ، الذى فيه صلاح الدنيا ونعيم الآخرة ، والذى به تتحقق السعادة للبشرية جمعاء ؛ إن عاشت فى ظله ونهلت من معينه العذب الصافي .

7- أن التغيير وإن توفر المنهج (الدواء) ، والقائد القدوة ( الطبيب) ، لابد له من إرادة الفعل ، هذه الإرادة التي تتحطم في سبيلها الحواجز والعقبات ، إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ، فإرادة الفعل من أجل التغيير تحتاج إلى تضحيات ، وصبر وثبات ، لأن طريق الدعوة والتغيير طويل وشاق ، لكن للعاملين الصابرين عليه الأجر القريب فى الدنيا (نصر وتمكين) ، وفى الآخرة (رضا الله والجنة) .

8- أن دور الفرد في نهوض الأمة لا يقل عن دور المربي أو المنهج ، فلابد للفرد أن يمتلك الإرادة ، وتتحقق لديه الرغبة لتغيير نفسه في جوانبها المختلفة ، وما الفرد في الأمة إلا قاعدة أساس وقاسم مشترك ، فبتغير الفرد يتغير البيت ثم المجتمع ثم الحكومة ثم الدولة ، وهكذا . وهذا هو السر فى أن الإمام البنا ركز على بناء الفرد ، واعتبره أول مرتبة من مراتب العمل ، ثم حدد للفرد صفات عشر ،ليصبح بها قادرا على تغيير ما حوله .

هكذا وصف الإمام الشهيد حسن البنا الحالة ، وحدد أركان النجاح للأمة وهي (القائد – المنهج – إرادة فعل وتغيير لدى أفراد الأمة) .