أبيض وأسود
بقلم/ سكينة إبراهيم
توسطت الشمس كبد السماء، وبدأت في إرسال أشعتها المتوهجة علي الرؤوس المتراصة خلف بعضها البعض، كل منهم يُمني نفسه بزيارة عزيز لديه ويتحمل في ذلك تلك الحرارة الملتهبة التي تبدو كما لو كانت شُهبا متسلطة، وبعد لأي يترك النظر تقلبه في الوقوف وتفحصهم كما العادة في أي بصر حائرة يجد أمامه متسع من الوقت فيتجول بصاحبه يمنة ويسرة علّه يجد فيما حوله ما يساعده علي قضاء تلك الأوقات الطويلة والمقلقة والرتيبة، وعندما يصل النظر إليها يرفض أن يتحول من هناك، يضع أحماله ويقرر البقاء، كانت سيدة من أهل الريف الكرام، يبدو علي قسمات وجهها تلك العقود الطويلة التي مرت عليها فرسمت بتجاربها وآهاتها خطوطا وندوبا علي تلك الملامح الطيبة الأصيلة، كذلك فقد وشت قامتها المنحنية بما كابده ظهرها من أكوام الهموم وأثقل الأحمال..
بين كل هذا لا يملك النظر إلا أن يلحظ علي هذا الثغر تلك الابتسامة الراضية واللسان الذي يلهج بالذكر والتسبيح والحمد..كان يبدو علي ملابسها أنها آتية من سفر استمر بها لمدة طويلة، فعلّها من أقاصي الصعيد فحملت معها عينة من أتربة كل بلد زارتها أو مرت عليها في رحلتها حتي محطة الوصول..لم يبدو عليها أن افتراش الأرض قد أراحها من وعثاء السفر، فقد أخذت تتقلب يمنة ويسرة وتُكثر الإلتفات حولها، وكأنها تبحث عن شيء لا تعرف كنهه أو ماهيته، لكنها كانت ممتلئة بعلامات استفهام وملامح تعجب ودهشة يمكن لأي عابر أن يقرأهم في حركاتها بسهولة..
وبعد طول انتظار ظهر “أمين الشرطة” المسؤول عن إعلان أسماء المعتلقين المقبلين للزيارة، وبشكل عفوي اندفعت تلك السيدة العجوز باتجاهه مبتسمة حاملة في يديها بعض الرقائق من الخبز الفلاحي عبثا حاولت حمايته من التهشم وإبعاده تحت حجابها الأسود المتدلي من أشعة الشمس؛ أحكمت غلق يديها محتضنة تلك الرقائق وكأنها شيء ثمين تجشمت مشقة حمله طوال هذا الطريق؛ لتطعم به أعز من لها في هذا الكون؛ هذا الشاب الواعد الذي انتظرت أن تُرزق به سنوات عدة من عمرها المكابد للمصاعب والآلام، وما إن شبّ وتخرج في الجامعة ومنت نفسها بأنه سيعمل ويريحها من التنقل اليومي بين الحقول والمزارع التي تعمل فيها لقاء الأجر الزهيد، ما إن أمسك بين يديه بعقد أول وظيفة وشت لها بالراحة في محطة نهاية العمر، وبدأت تشعر بأن زرعها وريها وفلاحتها قد أثمرتا نبتا يانعا مشرقا يجدر بها أن تفاخر به ونزهو علي كل أصحاب المزارع والحقول؛ فإذا كان غيرها قد غرس بذور البرتقال والليمون والرمان، فقد غرست بذور الخلق والعلم والمعرفة وها هي قد حصدت شابا مستقيا واعيا يَسُر بمرآه عين القريب والبعيد..
ولكن هيهات أن يترك الظلم لمساعي الخير والفلاح والنجاح أن تسعد أو تستقر علي حال؛ بل إن عهده في البلدان هو التدمير والخراب، واشعال مواقد الحرق وآلات الهدم بعد أن كانت ملامح العمران وقباب النصر وأعلام النهضة تلوح في الأفق القريب، وبعد أن كان ضياء مشاعل الأفراح ومباهجه تغري العيون بابتلاع دمع الحزن والحسرة، واستدعاء مكامن السعادة والطمأنينة والأمان..
اختطفت يد الغدر ابنها الشاب الواعد، ولم يكن في قلوبهم أدني معاني الرحمة حتي ليبلغوها إلي أي مكان ساقوه، ومن ثم فقد بدأت في سني عمرها المتقدم هذا رحلة البحث في الأقسام والسجون من أقاصي الصعيد وحتي وصلت إلي القاهرة، يصحبها في رحلتها تلك الرقائق من الخبز الجاف، التي كان يتكسر جلها قبل كل محطة للوصول حتي بات ما معها ليس إلا أقل من ربع ما طحنته وخبزته وأعدته وجبة لفلذة كبدها حين تلقاه، تطعمه به مثلما كانت تطعمه في مهده، متغافلة عن حلمها هي وحقها بأن يرعاها هو في عمرها هذا..
ومن سجن إلي آخر حتي وصلت إلي “مجمع سجون طرة” حيث أكد لها الجميع أن تلك هي المحطة الخاتمة التي ستسعد فيها برؤية وحيدها، افترشت الشارع الجانبي في محيط السجن، وسمحت ليعينيها أن تغفو قليلا علي الرصيف حتي يؤذن لصلاة الفجر، فتأخذ دورها في طابور الدخول، فقد صار لديها خبرة كافية في آليات العمل و لوائح الزيارة، وما أن ارتفع صوت الآذان إلا وقد انتبهت من غفوتها وكأنها في انتظار يوم العيد، توضأت ببقايا زجاجة المياه التي تصحبها للشراب والوضوء معا، وأدت صلاتها ولم يفتها أن تدعو الله تعالي بالفرج لولدها ولكل من معه، ناسية تماما الدعاء علي من ظلمه وكبّدها مرارة الفراق، وقساوة تلك الرحلة الوعرة المؤلمة؛ انتظرت علي عجل لحظة الإعلان عن بدء الدخول وقد كانت تبتسم وتشد يدها علي رقائقها القليلة، فالحق أنها ستطعم بهم قلبها هي القلق المتوجل، بأكثر منه تغذية لشاب صار له ما يقرب من الشهر لا يقتات إلا الفتات وبأيدي سجانيه فيتأذي بطعامهم بأكثر مما يقوي ويشتد..
وأخيرا وصلت إلي ساحة الانتظار الأخيرة، ولم يعد يفصلها عن ابنها سوي تلك اللحيظات التي يقرأ فيها الشرطي قائمة الأسماء؛ وما إن انتهي وبدأ المعتقلون في الزيارة، حتي تفحصت العجوز كل الوجوه ولم تجد من تبحث عنه، وكان ثغرها مازال يحمل تلك الابتسامة الراضية، وعلامات الأمل ما انفكت تلوح علي جبهتها مطمئنة بأنها ستجد-بإذن الله- ما تقصده وتتغياه؛ ومن ثم فقد اتجهت في براءة من لا يعرف أن في وجوه الناس وجها غليظا خشنا يقسو علي الضعيف ولا يرحم الكبير، وبغفلة من لم تجبره تجارب الحياة علي أن يري غير وجه ولده البار المنكفيء علي كتبه ودروسه، ولون الخضرة المورق اليانع في المزارع والحقول؛ من ثم فقد أقبلت علي “أمين الشرطة” بهذا القلب شديد الصفاء تستوضحه عن اسم ابنها وتسأله متي سيخرج للزيارة، أشاح “الشرطي” بيده بما يعني أن عليها الابتعاد عن هذا المحيط، ناطقا بكلمة واحدة ليضع بها حدا نهائيا للحديث، ويقطع علي العجوز أي رغبة في الاسترسال أو السؤال، فقال:”ابنك ليس هنا”، ثم انشغل بأوراقه ومعها تنبيه المعتقلين بأن زيارتهم كادت أن تنتهي؛ ليقطع عليهم بهذا القلق لحيظات الود والأنس مع ذويهم، وكأنه يعمل في هذا المكان حاجز مرور يوقف أي تمدد أو اتصال بين المعاني الطيبة والقلوب النقية علّه يظن أنه بذلك يضع حدا لتلك التمددات الخيرة من أن تتسع وتنمو؛ في حين أن وجوده ومن مثله شديد الاتصال ببذور النقمة التي ترويها ينابيع الكراهية والأحقاد والأثرة..
لم تقتنع العجوز بالإجابة أو علّها لم تصدقها، كما أن الكلمات القليلة كانت بالفعل تحتاج إلي الكثير من الشرح والإسهاب؛ خاصة أن تلك كانت محطة الوصول الأخيرة بعد رحلة عناء وبحث شملت البلاد من جنوبها لشمالها، فكيف إذن يكون ابنها غير موجود بالداخل؟، وأين إذن يمكنها أن تجده؟، ولماذا أكدّ لها الجميع وصوله إلي هنا؟، وهل يمكن لها أن تخاطب أيا من المسؤولين بالداخل لتحكي لهم قصتها فربما أفادوها أكثر؟، كل تلك التساؤلات وأكثر أطلقتها المرأة تباعا في أدب جم، وصوت خفيض مهذب لا يكاد يُسمع، وهي في هذا كله كانت تنادي “الشرطي” وتنعته بـ “يا بني”..وهو يتظاهر بالانشغال عنها ويتجاهل الاستماع إلي كلماتها؛ وكأنه يلقنها درسا بأن اشاحته الأولي قاطعة وباتة ولا يجب عليها أن تسأل بعدها، في حين أن براءتها ونقاء قلبها كانا كفيلين بإذابة الجليد المتراكم من قمة الجبال القطبية في الشتاء القارس، أو إطفاء نيران المجوس إذا ما كانت باقية متوقدة حتي اليوم، لكن أني لهما أن يلينا تلك القسوة المتحجرة في قلب ران عليه الكبرياء والغلظة منذ زمن..فصارا له مؤهلات عمل، ودليل صلاحية علي الاستمرار والمواصلة..!
*****
بدا الموقف من بعيد كمأساة لمن تابعها منذ البداية، يزيدها ألما غفلة تلك الأم العجوز عن إدارك تلك الحالة الرثة التي وصلت إليها ما بين فقر شديد تشي به تلك اللقيمات التي تحرص عليها كل الحرص لتقدمها لفلذة كبدها ما يؤكد أنها كانت أثمن وأنفس ما استطاعت يديها أن تمتلكه في توقيت كهذا، أما شقاء الرحلة ومصاعبها فمن اليسير قراءتهم علي تلك الملابس البالية الكالحة، هذا فضلا عن أن رحلة شقائها لم تنتهي بعد بل ستبدأ من جديد لهثا وراء أي أمل يسير بها إلي مكان محتمل لابنها الوحيد الذي من المؤكد أنه يحيا الآن ويلات التعذيب والاخفاء القسري كغيره من الشباب الواعد مستقبل تلك البلاد الذي تحاول تلك العصابة وأده وسد منافذ الأفق المتسع الرحب أمامه..ومع كل هذا يتحدث لسان المرأة باللطف واللين، ويسأل في أدب جم وصوت خفيض، وهنا تبحث العين عن آية إشارات أخري يمكن لها أن تكون مختبئة أوساكنة خلف مشهد كهذا فتعطي بإداركها بشارات أمل ولطف للمتتبع فتخرجه من حالة التعاسة والقلق، إلي فضاء من المرام العريضة والطموحات الوارفة..
إن المشهد كان أقرب إلي المرآة التي ننظر فيها عن قرب فتفصح لنا عن حقيقة الأشياء، حيث تقرأ في أدب العجوز ونقائها مع ما هي فيه من هم، ما يمكن أن تصل له قسوة السجّان حين يكون حارسا علي مقاصد أخري بخلاف الحق والعدل، وتتعرف عن كثب عن الفارق الشاسع بين خيرية الحياة ومحاسنها التي تجاهد وتكافح كي تبقي وتستمر لتعم الجميع، وبين شرورها وآثامها التي تحارب هذا البقاء الخيري وكأنها تثق في أن بقاءه ازاحة لها، وإبعاد لغاياتها النكدة ومقاصدها الخبيثة..
مثلهم كان كـ”الأبيض” و”الأسود”، وعلي العين المتابعة والمتأملة أن تختار لأي صفحة من ألوان الحياة سيكون انتماءها وانحيازها، لحيظات قاسية تلك التي يعيشها “أبي قردان” بلونه المنعش الوهّاج الذي يضاهي قرص الشمس، حين يضطر إلي الوقوف أعلي الخرائب وبين الأطلال يبحث عما يلتقطه ليسد جوعه، وذلك في أزمان المجاعات والحروب، فيفضح بوقوفه هذا عما وصلت إليه بلاده الجميلة من تراجع وتصحر.. مثل ذلك النهر الجاري الذي يكفي أن يترقرق ماؤه بين الضفتين لترتوي به القلوب قبل الشفاه الظامئة، ثم ما تلبث يد الفساد أن تعبث به وتلقي فيه ببقايا جيف الدواب النافقة، فيتعكر الجدول الرائق وتتأذي به العيون والقلوب وتظل الشفاه جافة متلوية..
كان المشهد كمن يسير بمركبة وسط طريق علي جانبه الأيمن مروج خضراء يانعة تغرد فوقها الكناري والعصافير فتُطرب من يقترب منها وتُرغبه في قيم الجلد والصبر والعمل الدؤوب المتواصل، وعلي الشمال يبدو لون الجدب الأصفر مترامٍ بين القفار والصحاري والتلال ينبيء عن كنه ذاك الشيء الساكن أعلي تلك الصخور الجرداء من برودة وظمأ ولهث دائم لإستقرار واهم كالسراب، وبين الجانبين يرتاح ذو البال المضطرب لأن رحلته قد أبانت له بيقين معني العمران والنماء بما لا يحتاج معه إلي شرح أكثر أو ملاحق إيضاح..
حملت لنا الأم الرءوم تلك الدلالات قبل أن تترك المكان وتنسحب في صمت وهدوء وهي تزيح بيديها تلك الدمعات التي تترقرق في عينيها؛ حين تأكدت أن الحجر قد يلين وينطق ويجيبها في حين أن هذا القلب وذاك اللسان لن يجبرا خاطرها ولو ببنت شفة، وقبل أن ترحل كانت قد قدمت لنا درسا غاليا وفهما سائغا لكل قلب وعقل مازال حائرا يريد أن يستقر باله علي اختيار وموقف، فعلّه الآن قد عرف وتأكد وأدرك لمن ستكون كلمته وانحيازه..