أزمة قيادة
د. محمد العبدة
كان شعار مجلة الفتح التي كان يصدرها محب الدين الخطيب -رحمه الله- هو: الأمة الإسلامية إلى خير ولكن المشكلة في القيادة. ويبدو أن هذه المشكلة التي كانت تؤرق صاحب الفتح أصبحت تؤرق أهل الفكر في الغرب، فقد جاء في التقرير السنوي للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية لعام 1995م أن العالم يفتقد إلى القيادة، وهناك فقر في القيادات.
ترى هل تحقق حلم محب الدين الخطيب اليوم، ووجدت القيادات المناسبة عند المسلمين، أم ما زلنا نعاني من المشكلة نفسها؟ وهل نحن في هذا العصر بحاجة إلى زعماء وقيادات متميزة (كاريزمية) أم أن طرق الإدارة الحديثة والتحولات الاجتماعية والثقافية توحي بأن (فريق العمل) هو البديل عن القائد الوحيد والزعيم الملهم؟ وهل القيادة موهبة أم يمكن أن تأتي بالتعلم والتدريب والممارسة؟
الحقيقة أنه لا بد لكل جماعة إنسانية من صفوةٍ قائدة هي خميرة النهوض، نخبة ذوي ملكات شتى واختصاصات شتى؛ في العلم والإدارة والسياسة والحرب. لا بد من نفر من أهل الجرأة والنظر البعيد والقدرة على تصور المستقبل، لها صلة عميقة وقوية بالأمة.
ليس من الضروري أن تكون هذه الصفوة الرائدة متميزة بذكاء يفوق ذكاء غيرها، ولكنها من النوع المرهف الإحساس القلق على الأوضاع التي وصل إليها المسلمون، تتطلع إلى المستقبل ولا ترضى بالواقع. “وقد نبه القرآن الكريم وأرشد عباده أن يستعدوا لكل أمر من أمورهم الدينية والدنيوية بعُدَّةٍ من القادة متقاربين في قوة القيادة والدربة والحنكة، وأن يكونوا بحالة من الحكمة واستقامة الأمور بحيث لا يزعزعهم فقد رئيس مهما كان عظيمًا، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]”[1]. ويذهب المؤرخ (توينبي) إلى أن العامل الرئيسي في انهيار الحضارة هو فقدان الأقلية للطاقة المبدعة.
أين الخلل؟
أزمة القيادة أين الخلل لا شك في أهمية القيادة وارتباطها بجماهير الأمة، والذي يبدو لي أن المشكلة ما تزال قائمة.
لماذا لم تظهر قيادات شابة واعدة متمسكة بالثوابت واعية للعصر وظروفه، مع أن الأمة فيها الخير الكثير وفيها القدرات العلمية والإدارية والاستعداد للتضحية؟
هل السبب هو إعجاب الحركات والجماعات الإسلامية بأنفسها وانتهت إلى الإخلاد لبعض نجاحاتها وابتعدت القيادة عن سماع رأي الآخرين؟
وهذا بدوره يؤدي إلى الخمول والجمود، ويولد النفسية التي تخشى التغيير بحجة ما تحقق من نجاح، وكأن الشاعر يقصدهم حين قال:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة *** قصيدة قالهـا عمرو بن كلثوم
لقد فشل نموذج (القيادة والسيطرة) حيث ينفذ الفرد الأوامر من القيادة العليا التي تمتلك كل الذكاء وكل الحكمة، وأما البقية فهم (حاملو رماح) للتنفيذ فقط، إنه نموذج يفترض أن الناس محدودون بسطاء، وهذا يعني أن نضع لهم مهمات بسيطة أيضًا.
هذا النموذج من القيادة لا يستطيع أحدهم تقديم الجديد فلا يجد أمامه إلا أن يستعيد ويردد مواقفه السابقة، ولكن الظروف تتجدد والاحتياجات تزداد وهو غير قادر على الاستمرار، عندئذٍ يقاوم ظهور قيادات جديدة من الجيل الثاني. ثم إن الاتجاه الهرمي الضيق في أمثال هذه المؤسسات لا يسمح بوجود المقتدرين من المثقفين في قمة القيادة مع أنهم كُثُر، وهناك نموذج من القيادات لا يحبون أن يبرز من حولهم قيادات شابة، كالشيخ الذي يغار من تلامذته أن يصبح أحدهم مشهورًا أكثر من أستاذه.
وما هكذا كانت تربية الرسول r لأصحابه، فقد كان كثير المشاورة لهم ويرسلهم في المهمات الكبيرة، وظهر منهم القائد العسكري والإداري والعالم والفقيه، وقد اطمأن الرسول r إلى وجود قيادات تستمر من بعده مثل أبي بكر وعمر فقال: “ما أدري ما بقائي فيكم وفيكم أبو بكر وعمر”.
إن الناظر إلى الساحة لا يجدها تسير في اتجاه واحد بناء، وإنما جيوب منفصلة كل جيب قد استأثر بعددٍ من الشباب، وهذا يؤدي إلى المشاكل التي تعيق نشوء أفراد أقوياء أسوياء.
التربية والإنشاء
إن الناس ليسوا كالآلات تصلحها متى تشاء وفي وقت قصير، بل لا بد من تنشئتهم وتربيتهم مع الزمن وإيجاد المناخ الملائم للنمو، مثل المزارع الذي يختار أفضل البذور، ثم يتولى الاهتمام بالتربية ودرجات الحرارة والماء والسماد، ثم إزالة الأعشاب الضارة.
إيجاد القيادات يأتي من التفويض الفعال للآخرين عندما يعطون الحرية في اختيار الوسائل وهم مسئولون عن النتائج، هكذا كانت طريقة أبي بكر t وقد تعلمها من الرسول r، كان خالد بن الوليد t مفوضًا من قبل أبي بكر يتصرف، ولكن ضمن خطة عامة مدروسة. والذين يرفضون تفويض الآخرين يشعرون أن ذلك يحتاج إلى كثير من الجهد والوقت، وأنهم يستطيعون بأنفسهم إنجاز العمل بسرعة وبشكل أفضل، ولكن طريقة التفويض الفعال هي الأقوى والأحكم.
القيادة الحكيمة التي تريد إفراز قيادات جديدة لا بد أن تجهز الأرض وتهتم بنوع (البذر) والغراس. إن شجرة الخيزران الصينية تزرع بعد تجهيز الأرض جيدًا، وأثناء السنوات الأربع الأولى يكون كل النمو الذي تحققه موجود تحت الأرض، والشيء الوحيد المرئي منها طوال تلك المدة هو كسرة صغيرة يخرج منها نبتة صغيرة، وفي السنة الخامسة تنمو هذه الشجرة ثمانين قدمًا دفعة واحدة.
وهنا يأتي السؤال: هل يمكن تعلم القيادة؟ “والجواب نعم، إلا أنها نعم مقيدة؛ لأن تلك العناصر التي لا يمكن تعلمها قد تكون مهمة جدًّا”[2].
إذن هي موهبة وتدريب وتعليم، وإذا لم تكن كذلك فكيف نفسر ظهور القيادات المتميزة التي تخرجت من مدرسة الرسول r، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة} [آل عمران: 164]. وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وهي صواب الأمر ولطف التناول العملي وحسن التقدير.
لقد اكتشف الرسول r المواهب وأعطى فسحة للعمل والتعلم من خلال الخطأ والصواب. أخطأ خالد بن الوليد عندما بعثه الرسول r إلى بني جذيمة وقال الرسول r: “اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد”، ولكنه لم يعزله لعلمه بكفاءته وأنه ذخر للإسلام.
من صفات القيادة الناجحة
لن تتقدم القيادة ما لم تتعلم من كل تجربة وأن توفر حولها أناسًا قادرين على قول الحقيقة، يشاركون في القرار ويلتقطون الرؤى ويسارعون إلى تحقيقها. هذه الرؤى الكل يعرفها، والكل يساهم فيها بقدر ما، وإن عدم المشاركة هو الذي يحدُّ من الإبداع؛ لأن معظم الناس عندهم من القدرات أكثر مما يطلب منهم. وقد طلب الرسول r من أهل بدر قبل المعركة المشاركة في اتخاذ القرار، وصارحهم بالمعركة القادمة.
القيادة السبّاقة القوية هي التي تراقب تغير الظروف وتضع الخطط المناسبة، وعندها القدرة على اقتناص الفرص الجديدة، وعندها القدرة على تصور المستقبل، قال الشيخ ابن باديس تعليقًا على قوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]: “هذه نملة هي كبيرة النمل لم تهتم بنفسها فتنجو بمفردها، إذ كانت تدرك ألا حياة لها بدونهم، وكان عندها من قوة الإحساس ما أدركت به الخطر قبل غيرها فبادرت بالإنذار، فلا يصلح لقيادة الأمم وزعامتها إلا من كان عنده من بُعد النظر وصائب الفراسة وقوة الإدراك للأمور قبل وقوعها”[3].
هناك فرق بين القيادة والإدارة، فالقيادة تعني أن تفعل الأشياء الصحيحة، والإدارة تعني أن تفعل الأشياء بطريقة صحيحة. القادة لهم رؤى يعبرون عنها بوضوح، ويستطيعون إيصال هذه الرؤى إلى كل فرد، سواء كان في مؤسسة أو جماعة أو مجتمع، لا بد من إيصال الرسالة إلى الجميع وتذكيرهم بها على نحو مستمر. وفي زمن الرسول r وصحابته وصلت الرسالة إلى كل فرد واضحة قوية، فهذا جندي من جند القادسية يقول لقائد جيش الفرس: “جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”.
ووضوح الهدف عند الأفراد يزيد من طاقتهم أضعاف مضاعفة، فقد تم حفر الخندق في السنة الخامسة من الهجرة بمدة زمنية قياسية مع أن طوله لا يقل عن 2 كم، ويتراوح عرضه ما بين ثلاثة إلى أربعة أمتار وبعمق ثلاثة أمتار.
إنه فقه دقيق للإسلام، بينما نلاحظ في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم أن الهوة كبيرة بين النخبة والجماهير، وهذا تقصير شديد من الذين يتصدون للقيادة والريادة.