الأمة بين اليأس والأمل
الحمد لله والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، والقائمين بالقسط من الناس. أما بعد:
الناظر لواقع حال المسلمين يجد بلا شك ما يؤلمه ويؤرقه، فالمسلمون يعانون في جملة ما يعانونه هزائم كثيرة وفتن كبيرة، فهناك أرض محتلة، وهناك فتن داخلية تهدر فيها مقدرات الأمة، والتي تستغل خارجياً، كل ذلك لتحقيق هيمنة تسعى إليها قوى عظمى بهدف جعل قيمهم أو ما يطلق عليه مفهوم العولمة، هو الثابت الذي تنطلق منه تصورات مجتمعاتنا، مفهوم يهدف إلى الاستسلام التام لقيم الغرب وثقافته.
ظلمات بعضها فوق بعض، والمسلم يجد نفسه في خضم هذه المحن عاجز لا يدري ما يفعل، لكن أليس هناك مخرج مما نحن فيه، أليس هناك بارقة أمل، أم أن اليأس والقنوط قدر لا بد من الاستسلام له.
كيف ينظر الإسلام لحالة اليأس وحالة الأمل، وما دورنا نحن في التعامل مع طرفي هذه المعادلة.
إن هذا اللقاء – المبارك إن شاء الله – يشتمل على محورين نتعرض لهما بمزيد بحث بمنظار وحكم الإسلام عليهما وهما: مفهوم اليأس، ومفهوم الأمل، لعل ذلك يكون من الأسباب التي تساعد على بث روح الثقة والطمأنينة وأن الفرج قادم وأن النصر قريب.
وسأبدأ إخوتي بالمفهوم الأول، وبعده أعرج على الثاني.
♦♦♦♦
إخوتي الأفاضل:
حين تضعف الإرادة، وتلين العزيمة، فإن النفس تنهار عند مواجهة أحداث الحياة ومشاكلها التي لا تكاد تنتهي.
وحين يفشل مثل هذا الإنسان في موقف أو مجموعة مواقف، فإنه يصاب باليأس الذي يكون بمثابة قيد ثقيل يمنع صاحبه من حرية الحركة، فيقبع في مكانه غير قادر على العمل والاجتهاد؛ لتغيير واقعه؛ بسبب سيطرة اليأس على نفسه، وتشاؤمه من كل ما هو قادم، قد ساء ظنه بربه، وضعف توكله عليه، وانقطع رجاؤه من تحقيق مراده.
إنه عنصرٌ نفسي سيء؛ لأنه يقعد بالهمم عن العمل، ويشتت القلب بالقلق والألم ويقتل فيه روح الأمل.
إن قصة اليأس والأمل ليست مجرد قصة تتصل بالحالة النفسية للإنسان من خلال نتائجها الإيجابية والسلبية، بل تتصل من خلال كلام الله لتتعلق بالعقيدة، فأن تكون الإنسان الذي يعيش الأمل في عقلك وقلبك يساوي أن تكون مؤمناً، وأن تكون الإنسان اليائس يساوي أن تكون كافراً، وليس من الضروري أن يكون الإيمان والكفر بشكل مباشر فقد يكون بشكل غير مباشر، واليأس والأمل قد ينطلقان بالنسبة للإنسان الذي عاش المعاصي وأحاطت به ذنوبه، وقد تحصل للإنسان الذي يعيش حركة حياته بكل طموحاته وبكل حركتها وفي كل مشاكلها في المرحلة الأولى.
ولنا أن نتساءل: لماذا ربط الله بين الكفر وبين اليأس؟ والجواب بكل بساطة: لأن اليأس يعني عدم الإيمان بقدرة الله مطلقاً، وبالتالي يؤدي إلى الكفر؛ لأن من أسس الإيمان أن نؤمن بالقدرة المطلقة لله سبحانه وتعالى، كما يتعلق بركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالقدر خيره وشره، فأن نكون مؤمنين يعني أن لا يتسلل اليأس إلى نفوسنا ولا يدخل قلوبنا.
ما هو اليأس؟!!
اليأس في اللغة: قطع الرجاء، قال ابن حجر –رحمه الله -: (اليأس ضد الرجاء )[فتح الباري: 8/367] ويأتي بمعنى القنوط أيضاً [انظر: ابن فارس مقاييس اللغة:( 6/153) و الجوهري: الصحاح: (3/992)].
واصطلاحاً: قال المناوي: (اليأس: القطع بأن الشيء لا يكون وهو ضد الرجاء ).
وقال العز بن عبد السلام: (اليأس من رحمة الله: هو استصغار سعة رحمته عز وجل ومغفرته وذلك ذنب عظيم ).
وقال الراغب: (هو انتفاء الطمع)
وقال ابن الجوزي:( القطع على أن المطلوب لا يتحصل؛ لتحقق فواته).
والمراد به هنا: قطع الأمل في انتصار الإسلام وأهله، وظهور الدين، واهتداء الناس أو قطع الأمل في ارتفاع ما أصاب المسلمين من فتن ومصائب مزلزلة.
ومن الكلمات ذات الصلة باليأس:
القنوط: هو أشد من اليأس يقول ابن حجر الهيثمي -رحمه الله- (وقد اتفقوا على أن الشخص الذي يئس من وقوع شيء من الرحمة له قد ينضم إليه حالة هي أشد منه وهي التصميم على عدم وقوع الرحمة له وهو القنوط) والظاهر أن القنوط أبلغ من اليأس؛ للترقي إليه في قوله تعالى (وان مسه الشر فيئوس قنوط ).
سوء الظن بالله: وهو أشد من سابقيه من اليأس والقنوط كما قال ابن حجر (وتارة ينضم إليه انه مع عدم وقوع رحمته له يشدد عذابه كالكفار وهذا هو المراد بسوء الظن هنا).
الإحباط: والإحباط في اللغة يشير إلى إبطال مفعول الشيء فيقال – حبط عمله – أي: بطل ثوابه.
والإحباط في علم النفس يشير إلى نفس المعنى تقريباً، فالفرد يحبط عندما تعاق إشباع حاجاته، أو عندما لا يؤدي سلوكه إلى النتائج المطلوبة، أو حتى يؤجل إشباع الرغبات فعلى هذا، فالإحباط: هي المشاعر التي يشعر بها الفرد نتيجة للإعاقة أو الفشل أو الإرجاء وهي مشاعر سلبية تتضمن الضيق والتوسل والقلق وخيبة الأمل.
حكم اليأس:
عدَّ كثير من العلماء القنوط واليأس من روح الله كبيرة من الكبائر، منهم: القرطبي والذهبي، والسيوطي، وابن حجر الهيثمي حيث يقول: (عد هذا كبيرة هو ما أطبقوا عليه، وهو ظاهر، لما فيه من الوعيد الشديد ).
وقد جاءت أحاديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم تؤكد بأن اليأس من الكبائر منها:
عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رجلا قال يا رسول الله: ما الكبائر؟ قال: “الإشراك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله” [رواه الهيثمي وقال: (رجاله موثقون) مجمع الزوائد: (1/104)].
عن فضالة بن عبيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “.. ثلاثة لا يسأل عنهم: رجل نازع الله رداءه، فإن رداءه الكبرياء وإزاره العز، ورجل كان في شك من أمر الله، والقنوط من رحمة الله”[ رواه الهيثمي وقال: (رجاله ثقات) مجمع الزوائد: (1/105)].
وعن ابن مسعود – رضي الله عنه- قال: (الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله – وفي رواية – أكبر الكبائر) [رواه الهيثمي وقال: (إسناده صحيح) مجمع الزوائد: (1/104)].
لهذا جاء التحذير من الوقوع في اليأس: سواء على الصعيد الفردي، أو على الصعيد الجماعي:
فعلى الصعيد الفردي يقول تعالى:﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
وعلى الصعيد الجماعي يقول تعالى:﴿ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين ﴾ [آل عمران: 139-141].
ثم يذكرهم بقوم أصابهم من قبل ما أصابهم، فلم يكن ذلك سبباً لدخول اليأس وقطع الأمل إلى نفوسهم، حيث قال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران:146].
كما يرد التحذير من اليأس، ببيان أنه من صفات غير المؤمنين بالله تعالى المقرين بكمال علمه وكمال حكمته وقدرته.
يقول تعالى حكاية لقول يعقوب – عليه الصلاة والسلام-:﴿ يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87] ذلك أن الكافرين (لكفرهم يستبعدون رحمته، ورحمته بعيدة منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين، ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه) [السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (4/27)].
ولقد نهى الله تعالى وحذر من القنوط الذي هو من معاني اليأس فقال: ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ ﴾[الحجر:56].
فلا يقنط إلا هؤلاء (الذين لا علم لهم بربهم وكمال اقتداره، وأما من أنعم الله عليه بالهداية والعلم العظيم، فلا سبيل إلى القنوط إليه؛ لأنه يعرف من كثرة الأسباب والوسائل والطرق لرحمة الله شيئاً كثيراً) [السعدي: تيسير الكريم الرحمن: (4/27)].
ذلك أن الإيمان يدفع بالمؤمن إلى العلم بقرب الفرج من الله وأن رحمته بعباده آتية فهو الولي الحميد المسيطر على الأقدار كلها ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى:28].
واليأس يعد من الطبائع البشرية التي ابتلي بها الناس؛ ليجدّوا في دفعها، فيصبروا على ما أصابهم من تغير الحال والنعم، ويجتهدوا في دفع هذا القدر بقدر آخر ينزع عنهم هذا المرض الخطير الذي يدمر حيوية الإنسان والأمة في أكثر الأحيان، وفي أحسنها تصاب الأمة وأفرادها بالعجز والشلل الجزئي إن لم تتخلص من هذه الجرثومة.
يقول تعالى: ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [هود: 9-11].
فهذا إخبار من الله تعالى: (عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة إلى من رحم الله من عباده المؤمنين، أنه إذا أصابته شدة بعد نعمة حصل له يأس وقنوط من الخير بالنسبة إلى المستقبل، وكفر وجحود لماضي الحال) [تفسير ابن كثير: (3/540)].
ويقول سبحانه ﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾[الروم: 36 – 37].
( يخبر تعالى عن طبيعة أكثر الناس في حالي الرخاء والشدة، أنهم إذا أذاقهم الله منه رحمة من صحة وغنى ونصر ونحو ذلك فرحوا بذلك، فرح بطر لا فرح شكر.. ﴿ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَة ﴾ أي حال تسوؤهم وذلك ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ من المعاصي ﴿ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴾ ييأسون من زوال ذلك الفقر والمرض ونحوه، وهذا جهل منهم وعدم معرفة ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ﴾ فالقنوط بعدما علم أن الخير والشر من الله، والرزق سعته وضيقه من تقديره ضائع ليس له محل) [تفسير السعدي: (6/65-66)].
علاج اليأس إجمالاً:
إن اليأس مرض من الأمراض التي تصيب النفوس فتقف عاجزة عن إدراك المعالي ومن هنا فإننا نضع خطوطًا عريضة ونقترح بعض الوسائل التي نرجو أن تكون نافعة في علاج هذه الآفة، ومنها:
1- تعميق الإيمان بالقضاء والقدر بمفهومه الصحيح، وتربية النفس على التوكل على الله، ونعني بذلك أن يعتمد القلب في تحقيق النتائج على الله مع الأخذ بالأسباب المشروعة، وبذل الجهد الممكن للوصول إلى الأهداف المنشودة.
2- تنمية الثقة بالنفس، والاعتماد على الذات في القيام بالأعمال، وتحمل المسؤولية عن نتائجها بغير تردد ولا وجل.
3- اليقين بالقدرة على التغيير إلى الأفضل في كل جوانب الحياة ومطالعة تجارب الناجحين في شتى الميادين.
4- قراءة قصص الأنبياء والصالحين الذين غير الله بهم وجه الحياة والتعرف على الصعاب والمشاق التي واجهوها بعزم صادق وقلب ثابت، حتى أدركوا مناهم بحول الله وقوته.
5- اليقين بأن الاستسلام لحالة اليأس لن يجني صاحبها من ورائها إلا مزيدًا من الفشل والتعب والمرض، وأن البديل هو السعي والجد وتلمُّحُ الأمل.
إذا اشتملت على اليأس القلوب
وضاق لما به الصدر الرحيبُ
وأوطأت المكاره واطمأنت
وأرست في أمكانها الخطوبُ
ولم تر لانكشاف الضر وجهًا
ولا أغنى بحيلته الأريبُ
أتاك على قنوط منك غوثٌ
يمن به اللطيف المستجيبُ
وكل الحادثات إذا تناهت
فموصول بها الفرج القريب
أما أسباب اليأس، فهي عديدة أذكر منها:
السبب الأول: قلة الأتباع وكثرة الأعداء:
فرؤية الناس وقد أعرضوا عن طريق الحق الذي يعتقده الإنسان، والوحشة التي يجدها لانفراده مع قلة الناس، والغربة التي يعاني منها في مجتمعه مع كثرة المخالفين له المناهضين لمنهجه قد تسمح لليأس بأن يتغلغل في داخله.
وهذا السبب إنما ينتج عن أمور منها:
♦ الجهل بحقيقة أن الهادي هو الله تعالى وحده، الذي لو شاء لهدى الناس جميعاً، إذ الكافرون لا يزالون على غيهم وإعراضهم مع نوالي الآيات، قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [ الرعد:31].
قال الشيخ السعدي – رحمه الله – عند تفسيره لهذه الآية: (فليعلموا أنه قادر على هدايتهم جميعاً، ولكنه لا يشاء ذلك، بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء (ولا يزال الذين كفروا) على كفرهم لا يعتبرون ولا يتعظون، والله تعالى يوالي عليهم القوارع التي تصيبهم في ديارهم، أو تحل قريباً منهم وهم مصرون على كفرهم) [تفسير الكريم الرحمن: (4/55) ].
♦ عدم التصور الواضح لطبيعة السير إلى الله تعالى، وهو أن شأن طريق الحق قلة أهله، وأن شأن طريق الباطل كثرة أهله، وشواهد ذلك من القرآن والسنة وسير الرسل غير منحصرة ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام:116].
السبب الثاني: استمرار المحنة، وتأخر النصر:
حيث يرى المسلم المسلمين وقد اشتدت بهم المحن والأرزاء، فلا يكادون يخرجون من محنة إلا ويدخلون محنة أعظم وأخطر، بل ربما كان المرء نفسه يعاني من محنة خاصة في نفسه وأهله وخاصته، يقول الله تعالى:﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف:110].
( يخبر تعالى أنه يرسل الرسل الكرام، فيكذبهم القوم المجرمون اللئام، وأن الله تعالى يمهلهم ليرجعوا إلى الحق، ولا يزال الله يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل، حتى إن الرسل – على كمال يقينهم وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده – ربما أنه يخطر بقلوبهم نوع من الإياس، ونوع من ضعف العلم والتصديق، فإذا بلغ الأمر هذه الحال ﴿ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ﴾ وهم الرسل وأتباعهم ﴿ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ أي: ولا يرد عذابنا عمن اجترم، وتجرأ على الله) [تفسير السعدي: (4/32) ].
إن الرسل قد استأخر عنهم النصر، ولكنه جاءهم بعد جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة من قبلهم﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام:34] فلم يستسلموا لليأس والقنوط لعلمهم بأن والامتحان والابتلاء سنة من سنن هذا الدين قال تعالى: ﴿ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [العنكبوت:1-4].
السبب الثالث: التوهم:
إن التوهم لحجم قوة الأعداء وأنهم يملكون من القوة والقدرة ما لا يملكها أهل الإسلام، وما قبل لهم به، وأن سطوتهم تصل إلى كل أحد، كل هذا يكون سبباً في بث روح اليأس والوهن والقنوط لدى كثير من الناس.
إنه عند وقوع هذا التوهم في النفوس، يجب أن نستحضر الحقائق الآتية:
الأولى: أن القوة والعزة بيد لله جميعاً، قال تعالى:
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ﴾[فاطر:10].
﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ﴾ [النساء:139].
﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون:8].
الثانية: أن النصر منه سبحانه وبيده وحده، ولكن النصر من الله تعالى موقوف على عمل العباد، قال تعالى:
﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران:126].
﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج:40].
﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران:160].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾[محمد: 7].
الثالثة: أنه لا يصح الاغترار بقوة الأعداء، فإنهم وإن كانوا مجتمعين في ظاهر الأمر، فحقيقتهم غير ذلك، قال تعالى: ﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحشر: 14].
الرابعة: أن الأعداء لا يقع لهم كل ما يخططون، فهم كما قال الله تعالى: ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [ الأنفال:30]. وهذا المكر الكبَّار من الكافرين يجب ألا يكون موقعاً في الحزن واليأس والضيق: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾[ النحل: 127] لـ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].
إن مكر الكافرين وما يضعونه من خطط واستراتيجيات عسكرية وثقافية واقتصادية هو بلا شك صائر إلى خسارة وبوار: ﴿ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾[فاطر:10].
وليس مكر الكفار اليوم بدعاً من الفعل، فقد مكر الذين من قبلهم، فرد الله مكرهم وكيدهم وجعله في نحورهم، قال تعالى: ﴿ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾[ الرعد:42].
نعم إن مكر الكافرين عظيم، ولكن مكر الله بهم أعظم فهو العليم بهم القادر عليهم:﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾[الرعد:46].
إن مكر الكافرين فيه علو وخطر واستكبار كبير، لكنه بلا شك راجع عليهم، سنة الله، ولن تجد لسنته تبديلاً ولا تحويلاً. قال تعالى: ﴿ اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ﴾[ فاطر:43-44].
وقال تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النمل:50-51].
إن اليأس والقنوط كما تقدم يفعل فعله في النفوس، فيحطم حيويتها ونشاطها، ويدخل الوهن والخوف، فيصاب الإنسان بالشلل والعجز وقد يصل الأمر إلى عجز تام، وقل ذلك أيضاً في حال الأمة.
أو قد يدفع البعض وقد اعتراه يأس من حاله أو حال أمته – فهو مشتت الذهن مضطرب الفكر والسلوك – إلى فعلٍ لا يقره شرع ولا عقل، فيعيث فساداً في الأرض، فيقتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق، فيجترئ على نفسه فيقتلها، فكان حكمه حكم المنتحر، أو على الأنفس المعصومة قتلاً فيكون حكمه حكم الباغي أو المحارب أو الخارجي كل بحسب حاله وصفه.
♦♦♦♦♦
لكل ما تقدم كان الشرع موجهاً لنقيض اليأس، ألا وهو الأمل الذي من خلاله تنهض الهمم، وتزاح عن الكواهل مظاهر الضعف والعجز والشلل، تثبت النفوس عند الفتن، ولا تستسلم لواقعها، بل تغالب القدر بالقدر فالكل أقدار الله تعالى.
ما هو الأمل؟!!
الأمل في اللغة يعني الرجاء، يقال: أَمَّلَ خيره يأمُلُ، وهو ظن حصول ما فيه مسرة وفرح. [انظر: المعجم الوسيط: (27) و الأصفهاني: (المفردات: 2/190) ].
واصطلاحاً: (توقع حصول التمكين لهذه الأمة، والنصر لها على أعدائها، والجبر لكسرها، على الرغم مما ألم به من ملمات وخطوب ومصائب، أثقلت كاهلها توقعاً أكيداً يزيد على الظن بمقدار زيادة اليقين في النفوس) [محمد أبو صعيليك: الأمل: (9) ].
إن للأمل مكانة لدى الإنسان، فهي تتعلق به طول حياته، ملازمة له، لا تنفك عنه، وإن طال عمره وكبرت سنه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يقول لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل) [البخاري 5/2360].
ولهذا سنجد أن الإسلام قد اهتم بهذا الجانب وأعطاه مزيد اهتمام، ولهذا أيضاً سأركز على هذا المحور في هذه المحاضرة.
تنبيه:
يجدر هنا التنبيه ابتداءً على أن الأمل قد يكون مذموماً في نظر الشرع؛ إذا تعلقت النفس بالدنيا واغترت بزينتها وشهواتها بما ينسي الآخرة وسعيها وفي هذا النوع من الأمل المذموم ورد قوله تعالى: ﴿ ذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلههم الأمل فسوف يعلمون ﴾[الحجر: 3 ].
فمن سلم من ذلك لم يكن أمله مذموماً مطالباً بإزالته، يقول ابن حجر– رحمه الله -:( وفي الأمل سر لطيف؛ لأنه لولا الأمل ما تهنى أحد بعيش، ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه، وعدم الاستعداد لأمر الآخرة فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته) [فتح الباري (11/237) ].
وهذا الأمل المذموم هو ما كان يخاف منه النبي ويحذر منه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: ” هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا، نهشه هذا وأن أخطأه هذا نهشه هذا ” [البخاري 5/2359 ].
وفي هذا إشارة إلى أن الأجل والأعراض قد يحولان دون الأمل، وهو يلفت أصحاب العقول إلى ما ينبغي أن تنصرف إليه الهمة في الدنيا، وما ينبغي عليهم في حد الاعتدال فيما يجدونه في النفس من الأمل.
وقد حذر الصحابة أيضاً من الأمل الفاسد المذموم، فعن عن علي رضي الله عنه قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم إتباع الهوى، وطول الأمل، فأما إتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل، فينسى الآخرة )[ابن حجر: فتح الباري (11/ 236) ].
علاج الأمل المذموم:
فإذا عرفت أسباب الأمل المذموم أمكن علاجه، وذلك بتهذيب النفس الراغبة بطبعها في المتاع الزائل، وعدم الاسترسال بالأمل، وكبح وساوس النفس والشيطان باستجماع الطاقة والجهد في مكافحتها، واستحضار المعاني الحقيقية للدنيا وما فيها وأنها وسيلة لبلوغ دار المقامة.
اقتران الأمل بالأسباب:
لا بد من اقتران الأمل بالله تعالى بالعمل والجد والأخذ بالأسباب، لا بالكسل والتمني، قال تعالى:﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾ [الكهف:110].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[ البقرة:218].
وقد أوضح الإمام ابن القيم –رحمه الله – الفرق بين الرجاء والأمل وبين التمني فقال: (الفرق بينه – أي الرجاء – وبين التمني، أن التمني يكون مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد، والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل.
فالأول: كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويرجو طلوع الزرع، ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل…
والرجاء ثلاثة أنواع: نوعان محمودان، ونوع غرور مذموم.
فالأولان: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، ورجل أذنب ذنوباً ثم تاب منها، فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه.
والثالث: رجل متماد في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني، والرجاء الكاذب) [مدارج السالكين: (2/217-218) ].
إذاً لا بد في الأمل والرجاء من الأخذ بالأسباب، وإلا كان هذا الأمل حمق وغرور، وسفاهة وعجز، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني ” [الترمذي: برقم: (2461) وابن ماجة برقم: (4260) ].
قال يحيى بن معاذ: (من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله عز وجل مع الإفراط ).
ترجوا النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس
فالأمل الحقيقي المحمود لا بد من اقترانه بالعمل والأخذ بالأسباب؛ حتى يصير باعثاُ على الجد والمجاهدة، وإلا صار غروراً وتمنياً وحمقاً.[ انظر: رضا المصري: الأمل: (17 – 18 )].
♦♦♦♦♦
إخوتي الأفاضل: إن القرآن يغرس الأمل والثقة في النفوس من خلال آياته، ومن تلك الآيات، قوله تعالى:
1- ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة:32].
2-﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ﴾[النور:55].
3- ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[ لقمان:47].
4- ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾[الحج:38].
5- ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[يونس:103]
6- ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾[آل عمران:12].
7- ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال:36].
وآيات القرآن الكريم في ذلك كثيرة.
كما أن شقيقة القرآن الكريم، السنة المطهرة فيها الكثير من الأحاديث التي تغرس وتعزز الأمل في النفوس، وتدعوها إلى عدم اليأس من الواقع والتمسك بالأمل والثقة بنصر الله ورحمته، ومن تلك النصوص:
1- بعث الأمل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم لما مر على آل ياسر وهم يعذبون أشد العذاب من كفار قريش فقال لهم: ” صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة ” لقد فعلت هذه الكلمة فعلها في تصبير آل ياسر، وتحملهم أشد العذاب فأملهم بالجنة قد تحقق بوعد الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بذلك إن صبروا، وقد كان فاستشهد الأم والأب- رضي الله عنهما-.
2- وعن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه- قال: كنت مع النبي في الغار، فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا، قال:” ما ظنك باثنين، الله ثالثهما “[البخاري:(4663)]. لقد زرع الرسول صلى الله عليه وسلم الأمل في نفس صاحبه وخليله، وفي نفس كل مؤمن ضاقت به نفس، وتلبدت في عينيه غيوم اليأس، ورأى تكالب الأعداء وكثرة الخطوب، بأن النصر قادم والفرج قريب، لأن الله قريب من عباده.
3- بث النبي صلى الله عليه وسلم الأمل في نفوسنا نحن خاصة أهل هذا العصر الذين شاهدوا كبير خطر اليهود وعظيم علوهم في الأرض، بأن معركتنا معهم ستنتهي بنصر لنا لا محالة حيث قال: ” تقاتلكم يهود، فتسلَّطون عليهم، حتى يقول الحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي، فقتله ” [متفق عليه].
4- التأكيد على بقاء أمر هذا الدين وظهوره، رغم تكالب الأعداء عليه، واشتداد المحن، حيث قال صلى الله عليه وسلم ” لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس ”
5- التأكيد على خيرية الأمة المسلمة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: ” مثل أمتي كالمطر، لا يدري أوله خير أم آخره ” فالخير مستمر في سائر أجيال الأمة، رغم الضغوط ورغم الخطط ورغم كل شيء.
♦♦♦♦♦
فضل الأمل:
للأمل فضائل كثيرة ، متشعبة ومتناثرة ، أذكر منها ما يلي:
1- الأمل إذا كان رجاء في تحصيل الخير والنفع، مشفوعاً بالعمل والسعي، فهو أمر مرغوب فيه لدى الشارع، بل حضّ عليه، يقول تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر:29].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ” لا يموتن أحدكم، إلا وهو يحسن الظن بالله “[مسلم: برقم( 2877)].
ويقول أيضاً: ” يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي” [البخاري:(7405) ومسلم: (2675)].
2- يعد الأمل من مصادر الأمن والسكينة والثقة، فهو الشعاع الذي يلوح للإنسان في ظلمات اليأس والقنوط، فيدفعه إلى الطمأنينة بنصر الله وأن الفرج قريب، ويزيل ما علق بنفسه من القلق واليأس والهزيمة.
3- الأمل يدفع الإنسان إلى العمل الجاد والسعي، فلولا الأمل لامتنع الإنسان عن مواصلة الحياة ومجابهة مصاعبها وشدائدها، ولسيطر عليه اليأس والهزيمة، ولذلك قيل: اليأس سلم القبر، والأمل نور الحياة.
4- الأمل لا بد منه في الحياة؛ لتقدمها ورقيها في كل مجالاتها، فلو وقف العلماء عند ما قررته علوم زمانهم مثلاً لما تقدم العلم، ولما عرفت كثير من الحقائق والمعارف، ولما خطا العلم خطواته الرائعة إلى الأمام.
5- الأمل يدفع إلى عمارة الكون والقيام بواجب الاستخلاف على أكمل وجه، فهي طاقة عمارة الكون، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” إن قامت الساعة، وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليفعل”[ أحمد:(3/191)].
6- 6- لا تنجح الرسالات والدعوات وحركات الإصلاح بلا أمل، فلا بد من الأمل عند التغيير، لا بد من الأمل لتحقيق النصر، لا بد من الأمل لرفع الظلم والبغي والفساد.
أعلل النفس بالآمال أرقبها *** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
7- الأمل يمنع المسلم العاصي من الوقوع في براثين اليأس والقنوط من رحمة وغفران الله تعالى؛ لأن الأمل في عفو الله تعالى هو الذي يدفع إلى التوبة والإصلاح، وإتباع الصراط السوي.
8- الأمل مصدر تحريك ودفع للعمل، فالأمل قوة محرضة دافعة تشرح الصدر للعمل، وتقوي دواعي الكفاح والنضال وتبعث النشاط، والواقع يقول: إن من فقد الأمل أصابه الخمول والكسل والجمود والاستسلام.
9- الأمل يعني التفاؤل والبشر في النفوس والقلوب، وذلك لأن الآمل متفائل مستبشر بأيامه القادمات، يحمل ما يراه على محمل الحسن، وهذا يؤدي به إلى مزيد عطاء، وانطلاقة خير، أما اليائس فهو عنوان التشاؤم الذي يؤدي إلى توقف العطاء وانعدام الخير، والنظرة السلبية إلى الحياة ومجرياتها.
10- الأمل عنوان قوة، واليأس عنوان عجز وكسل، والمسلم مطالب بعدم العجز، مطالب بالاستعاذة من العجز والكسل كما ثبت ذلك في السنة. [انظر: محمد أبو صعيليك: الأمل: (24-27)]
♦♦♦♦
مشروعية الأمل:
الأمل المحمود هو وصف ملازم لكل مسلم في جميع حالاته، مأمور به، مرتبط بإيمانه. دل على ذلك:
أولاً: الكتاب: فقد دل القرآن الكريم على ضرورة اتصاف المؤمن بالأمل، وعدم انقطاع رجاءه بفرج الله ورحمته، فمن تلك الآيات:
1- قوله تعالى على لسان نبيه يعقوب- عليه الصلاة والسلام-: ﴿ يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾[ يوسف:87].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عند هذه الآية: (فيمتنع أن يكون للأنبياء يأس من روح الله، وأن يقعوا في الاستيئاس، بل المؤمنون ما داموا مؤمنين لا ييئسوا من روح الله) [دقائق التفسير(3/305)].
ويقول شخ الإسلام أبو زكريا الأنصاري – رحمه الله -: (إنما ييئس من روح الله الكافر لا المؤمن، عملاً بظاهر الآية، فكل من أيس من روح الله فهو كافر حتى يعود إلى الإيمان )[ فتح الرحمن: (281)].
ويقول ابن كثير – رحمه الله -: (وأمرهم أن لا ييئسوا من روح الله، أي: لا يقطعوا رجائهم وأملهم من الله، فيما يرمونه ويقصدونه، فإنه لا يقطع الرجاء، ولا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون )[تفسيره: (2/488)].
ويقول ابن سعدي – رحمه الله -: (ودلّ هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه) [تيسير الكريم الرحمن: (4/54)].
ويمكن أن نقول: أن مفهوم الآية ينهانا عن اليأس، ويجعله من صفات الكافرين، وبمفهوم المخالفة: يأمرنا بالأمل ويجعله من صفات المؤمنين.[ محمد أبو صعيليك: الأمل: (24-27)].
2- قوله تعالى حكاية عن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-:﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر:56] والقنوط هو اليأس من الخير ولقد دلت الآية على حقيقة كلية وهي: (أنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون عن طريق الله، لا يستروحون روحه، ولا يُحسون رحمته، ولا يستشعرون رأفته وبره ورعايته، فأما القلب الندي بالإيمان، المتصل بالرحمن فلا ييئس ولا يقنط مهما أحاطت به الشدائد، ومهما ادلهمت حوله الخطوب ومهما غام الجو وتلبد، وغاب وجه الأمل في ظلام الحاضر، فإن رحمة الله قريب من قلوب المؤمنين المهتدين) [سيد قطب: الظلال:(5/312)].
3- قوله تعالى:﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [ الصف: 8]. في هذه الآية بشارة عظيمة وأمل كبير لأهل الإسلام في عصرنا خاصة وفي كل العصور عامة، حيث نرى أن مراد الكفر وأهله إطفاء نور الله بسعيهم الحثيث الظاهر على دفع شعوب الأرض عامة والإسلامية خاصة على السير وفق مناهجهم ونظمهم، لكن حين يتعارض مرادان: مراد الخالق، ومراد المخلوق، فلاشك أن إرادة الخالق هي النافذة، وإرادة الله تعالى أتمام نوره على رغم أنف الكارهين، فالمستقبل لهذا الدين.
إن هذه الآيات وغيرها ستظل تبعث في نفوسنا ونفوس الأجيال القادمة، الأمل بانتصار إرادة الخالق جل وعلا، فلا بد أن يتحقق وعد الله في واقع الحياة بجعل الإسلام منهج حياة لكل البشرية.
ثانياً: من السنة: فقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على نصرة الإسلام وتمكين أهله، وهي بذلك تؤكد على حتمية الاتصاف بالأمل، فمن تلك النصوص والتي ذكرت بعضها فيما تقدم:
1- عن ثوبان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، أو قال من بين أقطارها؛ حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً” [مسلم:( 2889)].
2- عن تميم الداري رضي الله عنه قال سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: ” ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يُذل الله به الكفر ” وكان تميم الداري يقول:( قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغار والجزية) [أحمد: (4/103) والحاكم في المستدرك: (4/477) وقال:( صحيح على شرط الشيخين)].
3- عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بشر هذه الأمة: بالسناء والتمكين في البلاد، والنصر والرفعة في الدين، ومن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة نصيب” [المقدسي: الأحاديث المختارة: (3/358) وقال: إسناده صحيح ].
♦♦♦♦
الأمل عند الأنبياء:
القارئ لسير الأنبياء والرسل – عليهم أفضل الصلاة والسلام- لا بد وأن تسترعيه ملاحظة، وهي تحليهم بخلق الأمل والرجاء، وأنه متجذر في شتى شؤون حياتهم، فلا تجد لليأس والقنوط مكاناً، ومن تلك النماذج أذكر:
نوح عليه الصلاة والسلام: فقد ظل يدعو قومه إلى الإيمان وتوحيد الخالق ألف سنة إلا خمسين عاماً، دون كللٍ أو ملل، ودون أن يدخل اليأس إلى قلبه، مع ما تعرض له خلال هذه المدة الطويلة من صنوف السخرية والضغوط المتنوعة لثنيه عن دعوته، لكنه الأمل والطمأنينة بنصر الله ووعده دفعاه للدعوة ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، قال تعالى عنه: ﴿ (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً ) ﴾[نوح:5-9].
إبراهيم عليه الصلاة والسلام: شجرة الأمل في سيرة أبي الأنبياء كثيرة متعددة الأغصان، فأمله بدعوة أبيه لم تنفك عنه رحمة به وشفقة عليه من عذاب الله إن لم يؤمن، وأملاً بأن يؤمن حتى عند إصرار أبيه لم يستسلم لهذا الوضع بل قرر أن يستغفر له، قال تعالى عنه: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾ [مريم: 45-47].
ولما قام بكسر أصنام قومه وما يعبدون من دون الله، وبعد جدالهم وإفحامهم، قرروا قتله بإحراقه، لكنه الواثق بنصر الله المتأمل لفرج الله ما زاد على أن قال:( حسبي الله ونعم الوكيل) فكانت النار برداً وسلاماً عليه.
فعن ابن عباس – رضي الله عنهما- أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد عليهما السلام حين قالوا ﴿ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ﴾ [تفسير ابن كثير (3/185)]
ولما بلغ الكبر وصار شيخاً كبيراً، وزوجته عاقر لا تلد، لم يفقد الأمل بالذرية والولد، بل دعا ربه قائلاً: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ﴾[الصافات:100-101]. فكان أن رزق بإسماعيل، ومن بعد إسماعيل إسحاق – عليهم أفضل الصلاة والسلام-.
وقصة استجابته لأمر ربه بترك زوجه وولده الوحيد إسماعيل في صحراء قاحلة حيث لا جليس ولا أنيس، وكله أمل برحمة ربه، عنوان آخر من عناوين الأمل.
موسى عليه الصلاة والسلام: يظهر الأمل لديه حين طورد وقومه من فرعون وجنوده حتى دنوا منهم، واستشعر بنو إسرائيل اليأس والخوف، خاصة مع وجود البحر أمامهم، وفرعون وجنوده خلفهم، فقالوا لموسى: ﴿(إنا لمدركون ﴾ فأجابهم بثقة واطمئنان ويقين: ﴿ كلا إن معي ربي سيهدين ﴾ وكان ما تعرفون من غرق فرعون وجنوده، ونجاة موسى – عليه الصلاة والسلام – وقومه.
أيوب عليه الصلاة والسلام: فقد ابتلي نبي الله تعالى في نفسه، وماله، وولده، لكنه لم يفقد الأمل برحمة ربه وقرب فرجه، فكان دائم الدعاء، قال تعالى عن حاله: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83].
فكان أن استجاب الله لدعائه ولم يخيب رجاءه وأمله ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 84].
محمد صلى الله عليه وسلم : المواقف التي تظهر مدى تحلي النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم بالأمل، كثيرة تحتاج لأن تكون لوحدها محاضرة أو محاضرات، لكن لا مانع من أن نقف عند بعض منها:
• ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: ” لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبدِ ياليل بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شِئتَ، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبينِ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :” بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً ” [البخاري 3/1180].
• وفي حديث خباب – رضي الله عنه – يقول: أتيت الله النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله! ألا تدعو الله، فقعد وهو محمر وجهه، فقال: لقد كان من قبلكم، ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله – زاد بيان – والذئب على غنمه ” [البخاري (3/1398)].
• وفي رحلة هجرته صلى الله عليه وسلم يحدثنا الصديق – رضي الله عنه – فيقول: (.. قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله، قال:” بلى ” فارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب، قد لحقنا يا رسول الله، فقال:” لا تحزن إن الله معنا ” [البخاري (3/1336)].
إن الأمل والثقة ظاهر لا شك فيه في حياة الأنبياء والرسل رغم كونهم أكثر الناس تعرضاً للبلاء والفتن، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال:” الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة، زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة، خفف عنه وما يزال البلاء بالعبد؛ حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة” [المقدسي: الأحاديث المختارة (3/252) وقال: إسناده صحيح] ورغم ذلك لم ولن يدخل اليأس والقنوط إلى حياتهم البته، وقد قال تعالى:﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام:90].
♦♦♦♦
آثار ترك الأمل:
من المعروف أن فعل الشيء تترتب عليه آثار، وكذلك ترك الشيء له آثار، لذلك فإن ترك الأمل لا شك أن يوجد آثاراً، وهي آثار سلبية بلا شك، أذكر منها:
1- التسخط لقضاء الله وقدره: فتارك الأمل محبط متبرم، متسخط، لسان حاله ومقاله يدل على التأفف من القضاء، معترض على الأقدار والأحوال، وفي هذا هدم لركن من أركان الإيمان وهو: (الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره ).
2- الإحباط: ففاقد الأمل محبط النفس، خائب العزيمة، لا يأمل بخير، مترقب للشر منتظر له، مستسلم لواقعه، معطل لقواه، وفي هذا خطر ظاهر على الفرد والأمة، فالفرد والأمة المحبطة، لا خير فيها؛ لأنها مشلولة مسلوبة الإرادة، خائرة العزيمة، مستسلمة لأطماع الطامعين، وهي باستسلامها للإحباط مسلمة لزمام أمورها لغيرها، كأنها بعير يقاد.
3- ضعف العزيمة والإرادة: ففاقد الأمل لا عزيمة له ولا همة ولا إرادة، فلا قابلية لديه للتغير والإصلاح والتطور، لأن وقود هذه الأمور الإرادة، وفاقد الشيء لا يعطيه، وفاقد الأمل لا إرادة له فكيف يغير ويجدد، لقد أصاب اليأس من إرادته فجعله إما عاجزاً أو مشلولاً.
4- الاستسلام للواقع: ففاقد الأمل يستسلم لواقعه، وإن كان مراً، وإن كان مهيناً، فلا يعمل على تغيره وإبداله بواقع آخر أفضل، لقد أصبح مطية لغيره عاجز عاطل عن أي عمل بنّاء، وإن كان يصب في مصلحته، منتظر لما يقرره غيره، وإن كان ذلك فيما يتعلق بقضاياه المصيرية الهامة.
إخوتي:
إن اليأس جرثومة فتاكة تنخر في الأفراد والأمم، لتقوم بإسقاطها، وتدميرها، وجعلها عاجزة عن أي دور، مسلوبة الإرادة، مُتَحَكمة بها، يفعل الآخرون بها ما يردون دون الرجوع إليها، وأمتنا ليست بدعاً من الأمم، فآثار اليأس المدمرة ستصيبها إن أصيبت باليأس، والذي لا يتفق بحال كما قررناه، مع ما قررته الشريعة من تحريم اليأس والقنوط وعده كبيرة من الكبائر.
فالحذر الحذر من اليأس والقنوط.
هذا ما تيسر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين