الإحباط أسبابه وتداعياته وآليات تجاوزه (تجربة الأرجنتين )
تعيش مصر هذه الأيام فترة من أسوأ فترات التاريخ، ليس فقط بسبب القمع، وكبت الحريات، وحجب الرأي الآخر، والقتل والاعتقال والإخفاء القسري، ووأد التجربة الديمقراطية الأولي في تاريخ مصر الحديث، والتى جاءت بعد ثورة شهد لها العالم وضحى من أجلها العشرات، وإنما كذلك للارتفاع الجنوني في الأسعار، لدرجة باتت تؤرق كاهل المواطن العادي الذي اعتقد – مثلما روج له الإعلام الحكومي والموالي لرجال الأعمال الداعمين لجنرالات الجيش – أن الانقلاب يحمل الخير لمصر، الأمر الذي أدى لإحباط الجميع خاصة ابناء التيارات الإسلامية، الذين يحزنهم ليس تردى الأوضاع وحسب، وإنما كذلك الحصار الشديد المفروض عليهم، والزج بذويهم وأحبابهم في السجون لأجل غير معروف، والتنكيل بهم دون وزاع من ضمير أو دين أو قانون.
وفي هذا الإطار يعتقد البعض منا أننا نعيش في ليل مظلم لا أمل في الخروج منه، محملاً الشعب تبعات هذا الظلام وهذه الأزمات التى بتنا نعيش فيها، وأنه لذلك لا يستحق التعايش ولا التعامل معه، وأن أفضل الطرق حتى نستعيد دورنا وكرامتنا هي تركه يعاني الأمرين، وهنا يثور التساؤل هل نحن بذلك نعاقب الشعب أم نعاقب أنفسنا، وما هو الأفضل بالنسبة لنا الانعزال عنه ام عودة التلاحم معه من اجل توعيته وتجنيبه عمليات الغسيل المستمرة التي يقوم بها اعلام النظام من اجل تسكينه ومنعه من الحركة، وكسر إرادته، وتحويله إلي جسد لا حياة ولا روح فيه؟
إن الناظر في التاريخ يجد تجارب أشد مرارة مما مررنا به في مصر، ورغم ذلك نجحت الشعوب بتكاتفها ووعيها في تجاوز تلك المحن وبناء ديموقراطيات ناجحة، فقد شهدت الأرجنتين 6 انقلابات عسكرية، تم خلالها قتل عشرات الآلاف من الضحايا بين قتلى وضحايا تعذيب واعتقال واختفاء قسري، بعضهم كان من المجموعات الماركسية المسلحة، وأكثرهم من المدنيين المعارضين والمتعاطفين مع المعارضة، إلى أن نجحت المعارضة في النهاية، ربما للمرة الأولى في تاريخها الحديث، في كسر الانقلاب وترتيب هياكل السلطة الديمقراطية المدنية.
وبدأ رئيسها المنتخب ديمقراطيًا في ذلك الوقت «راؤول ألفونسين» حكمه بعدة إجراءات ضمنت انتقالاً ناجحًا إلى الديمقراطية في الأرجنتين، رغم العقبات التي واجهته والتى تمثلت في: إصلاحات اقتصادية واسعة، منحازة إلى الذين تضرروا من الانهيار الاقتصادي في أواخر حكم العسكريين؛ وإعادة ترتيب قطاع الأمن(الشرطة، والقوات المسلحة، والاستخبارات)، بالإضافة إلي قيامه بإقالة أكثر من 70 جنرالاً مؤيدًا للحكم السابق، وتعيين وزير دفاع مدني لأول مرة، ووضع الاستخبارات تحت الإدارة المدنية بعد أن كانت تابعة للجيش، وتعزيز سلطة الحكم المحلي غير المركزي والمجتمع المدني في الإدارة.
ولم يكن الجيش البرازيلي بعيدًا عن السياسة والحكم بأية حال؛ فالجمهورية البرازيلية نفسها تأسست عبر انقلاب عسكري على الملك في عام 1889؛ وتدخلت قيادات المؤسسة العسكرية عدة مرات في الحكم، قبل الانقلاب الأخير على الرئيس اليساري «جولارت»، الذي اتهمه معارضوه بقيادة البلاد إلى الشيوعية.
ومر الحكم العسكري بعدة مراحل، اشتدت في أوسطها بين عامي 1968 و1974، التي بلغ فيها القمع أقصاه، من اغتيال، وتعذيب، واعتقال، ومنع للمعارضة من ممارسة حقوقها السياسية في التعبير عن الرأي.
ولكن تكاتف وتعاضد الحركات المعارضة مع الشعب، فضح طريقة إدارة رجال الجيش للبلاد، خاصةً بعد نمو الأزمات الاقتصادية وإثبات كذب «المعجزة البرازيلية» التي اعتمدت على حماية مصالح متبادلة بين قادة الجيش والشركات الأجنبية والطبقات الغنية.
وانتهى هذا الصراع بتولِّي التيار «الإصلاحي» زمام الأمور من عام 1974؛ وبدأ الرئيس الجديد آنذاك «إرنستو جايسل» بتخفيف القيود على حرية التعبير، واتخاذ إجراءات أكثر ديمقراطية في سياسة البلاد الداخلية والخارجية.
وقد وصلت رحلة نهاية الحكم العسكري للبرازيل إلى آخر محطاتها بين عامي 1985 و1989، بعد عدة سنوات من الحراك الديمقراطي والعمالي المعارض للنظام، وفوز المعارضة بكل انتخابات أجريت في البرازيل، بدايةً من الانتخابات البرلمانية، مرورًا بانتخابات حكام الولايات، ثم انتخابات الرئاسة في عام 1985.
وقد حققت البرازيل نموًا اقتصاديًا كبيرًا، خاصةً في عهد الرئيس لولا دي سيلفا، وعُزل العسكريون عن السياسة دستوريًا وشعبيًا،وشُكلت عدة لجان لتقصي الحقائق، كان هدفها حصر ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم السياسية في فترة الحكم العسكري.
ويعتبر ما حدث بتركيا خير مثال علي أهمية التواصل مع الشعوب، فقد شهدت البلاد عدة أنواع من تدخل المؤسسة العسكرية أو كبار ضباطها في الحُكم، من انقلابات عسكرية صريحة وإعلان دساتير للدولة، إلى دور ووضع خاص في الدستور، ومزايا اقتصادية كثيرة، وعملت علي إقصاء الإسلاميين وأجبرت رئيس الوزراء الإسلامي السابق نجم الدين أربكان على الاستقالة وحل حزبه، ولكن اندماج الإسلاميين في المجتمع وتوحد الجميع حول هدف إقامة نظام ديموقراطي يحمي الجميع أدي لإسقاط الحكم العسكري وعودة الإسلاميين للحكم مرة أخرى.
إن تحميل الشعب أو الإخوان أو الرئيس مرسي مسئولية ما حدث، وترك الأمور تجري علي هوى النظام لن يسهم في تصحيح الأخطاء ولا رفع الظلم، ولا إقامة نظام ديمقراطي مثلما كان يحلم الجميع، وإنما التمهل قليلاً والتفكير فيما يتعين علي الجميع القيام به، من شأنه أن يعيد اللحمة ما بين القوى المعارضة للنظام وبعضها البعض وبينها وبين مختلف طوائف الشعب التى باتت تعاني من ظلم النظام، وتتمني اليوم الذي يزول فيه، بعد أن كبد الجميع خسائر فادحة، وحرم الجميع من أن يحيا أمنا مطمئنا مستقرا في وطنه.
إن خيار العزلة والخوف لن يزيد الأمور إلا سوءاً، لأن هذا ما يعمل عليه النظام الحالي، الذي يسعى لكسر إرادة الجميع، وبث الرعب في قلوبهم، حتى لا يقوى أحدا علي معارضته الآن أو في المستقبل، وهذا ما لعب عليه الفترة الماضية ونجح فيه، وهذا ما يعمل عليه في المستقبل، لذلك نجده يتخذ القرارات التى كانت تمثل في السابق كوارث يثور للأجلها الشعب، وهو مطمئن بل ويدعي أن الشعب يستجيب لهذه القرارات تعبيرا عن رضاه عنها وموافقته عليها.
لذلك علي المعارضة وفي القلب منها التيار الإسلامي من أجل استعادة الثقة والعودة للانخراط في الحياة السياسية من جديد القيام بعدة أمورها أهمها :
– عدم التباكي علي ما حدث وتحميل أي طرف المسئولية فالكل مسئول والكل مطالب بالعمل علي قدر الاستطاع ووفق قدراته الخاصة وإمكانياته المادية والمعنوية.
– عدم اليأس لأنه طريق الهلاك وضياع الحقوق والمكتسبات، والتفريط نهائيا في التجربة الديموقراطية التى ولدتها ثورة الخامس والعشرين من يناير.
– عدم الخوف أو الانكسار لأن هذا ما يعمل عليه النظام ليل نهار، لإيمانه بأن بقاءه واستمراره رهين بث الخوف والانكسار في قلوب المصريين.
– استلهام روح الخامس والعشرين من يناير، والعمل من أجل مستقبل هذا الوطن ومستقبل الاجيال القادمة، ,تفويت الفرصة علي هذا النظام الذي يعمل لصالح العدو الصهيوني ويستهدف كسر ارادة الوطن وتقديمه لقمة سائغة لصالح هذا العدو.
– التواصل المستمر مع الجماهير وعدم الانقطاع أو لانعزال عنها، وعدم تحميلها مالا تطيق، واضعين في الاعتبار ضعف الثقافة والاهتمام بالأمور المعيشية بأكثر من الاهتمام بالأمور السياسية، وذلك علي اعتبار أن هذا ما ربي عليه الشعب من قبل الانظمة السابقة، وأن تغيير ذلك يتاج لجهود جبارة علي الجميع أن يساهم فيها علي قدر استطاعته.
– أن يبدع كل فرد في مجاله وأن يبتكر من الوسائل والآليات التى تساهم في فضح هذا النظام وفضح مخططاته وتعريته أمام الشعب.