الابِتِدَاء
وهو قدم الهول
حرص رجال التربية على أن تكون أول خطوة للسالك : خطوة هّول ، كخطوة السبعين من قدماء الأنصار ساعة بيعة العقبة حين أخذوا على أنفسهم أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يمنعون منه نسائهم وأبنائهم وأموالهم
والهمّة قرينة النية ، فلا شيء بعد النية قبلها ، وكل الاتِقان بعدها ، ومن أكسبها من المربين تلاميذه عند خطواتهم الأولى فقد ضمن لهم الاستمرار إن شاء الله , و قد قيل : ” همتِك احفظها ، فإن الهمة مقدمة الأشياء ، فمن صلحت له همته وصدق فيها : صلح له ما وراء ذلك من الأعمال ” .
ويمثل لها ابن القيم بمثل لطيف ، فيقول : ” مثل القلب مثل الطائر ، كلما علا : بعد عن الآفات ، وكلما نزل : احتوشته الآفات ” 44 .
فكما أن الاستعلاء بالهمة يبقي القِلب نظيفاً بريئاً من المعنى الخسيس مشغولاً بالعظام ، فإنه أيضاً يقي القلب الآفات والأمراض وسهام الشيطان ، كما تِقي نهضة الجناحين الطائر سهام الصياد ، و مهمة المربي المسلم : أن يعلم الناشئ هذه النهضة العالية في مبادئ محاولاته .
و نهضة الجناحين هي بدورها كناية عن النفس التي احتوت تصميماً على حمل أثقال الدعوة إلى الله ، فإن الجديد في سلك الدعوة إن فهم الدعوة في الأول مجرد تِزكية نفس ، و صحبة أخيار ، وبث أشواق ، وفرصة تكافل ، فإنه يحجم عن إنكار المنكر على الظالم ، و يستعِصي عليه فهم معادلة ابن يزدانيار في الفراسة ، والتي فهمها من قبله الرجال ، ويِرجع عن الزحف يوم الزحف و قائمة أعذاره تحت أحد إبطيه ، أولها : أنه لم يُنذر بمثل هذا من قبل ، ولا يحتوي هذا الشرط عقده ، ولذلك حرص رجال التربية على أن تكون أول خطوة للسالك : خطوة هّول ، كخطوة السبعين من قدماء الأنصار ساعة بيعة العقبة حين أخذوا على أنفسهم أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يمنعون منه نسائهم وأبنائهم وأموالهم .
فهو هول الجهاد ، أو هول الإنكار ، وليس ما في التجافي عن دار الغرور ذات الشهوات و التِقليِل من الأموال و الملذات بأقِل من هذين الهولين .
فإن أحب الدنيا فإنما يحبها كحب محمد بن أحمد المعروف بابن رزقويه ، ذلك الحب الذي يكشف عن همة عالية وراءه ، والذي ترجمه مخاطباً تلامذته :
” والله ما أحب الحياة في الدنيا لكسب ولا تجارة ، ولكن لذكر الله ، ولقراءتي عليكم الحديث ”
وإنما ذكر الحديث كمثل لجنس الصالحات التي يجب على الداعية أن يحب الدنيا لأجلها لا لغيرها .
وعن أجيال السلف أخذ جيل المجددين في هذا القرن فِقه الهمة ففهم الإمام حسن البنا أن الداعية الهمام : ” يبذل كل ماله ، وكل دمه ، وكل نفسه ، في سبيل عقيدتِه التي آمن بها وعاش من أجلها “