الإمام الحسن البصري
امتازت الأمة الإسلامية على غيرها من الأمم بوجود طائفة من العلماء في الدين ، تحمله وتنفي عنه كل تحريف ومغالاة ، منذ خير القرون وحتى يأتي أمر الله فقال رسول الله ” لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ” ( البخاري )
ومن هؤلاء الأعلام الذين انتفعت بهم الأمة الإسلامية أكبر انتفاع ذلك التابعي الذي تربى في بيت من بيوت أمهات المؤمنين ، و التقى بسبعين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم .
مولده ونسبه ونشأته
• ميلاده : ولد الحسن رحمه الله عام 21 هـ .
• أبيـه : هو يسار وهو من أسرى ميسان ثم أُعتق .
• أمـه : هي خيرة مولاة أم سلمى زوج النبي صلى الله عليه وسلم .
• رضاعته : كانت السيدة أم سلمى رضي الله عنها ترسل أم الحسن في بعض شأنها فإذا بكى أرضعته ، فغدت له أماً من جهتين ، أم المؤمنين وأمه في الرضاعة .
• نشأة ودعاء : نشأ الحسن في بيت أم سلمى وكانت تُخرجه لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فيدعون له وكان دُعاء عمر بن الخطاب له ” اللهم فقه في الدين وحببه إلى الناس ” .
• رؤيته لجمع من الصحابة : يذكر ابن سعد في طبقاته أن الحسن رأى سبعين من الصحابة وتعلم منهم ونقل عنهم وكان أشبه الناس برأيهم ، قال قتادة : عليكم بهذا الشيخ ( يعني الحسن ) فإني والله ما رأيت رجلاً قط أشبه رأياً بعمر بن الخطاب منه .
صور من حياته
•داعية لا يخاف في الله لومة لائم :
عندما ولي الحجاج بن يوسف الثقفي ولاية العراق بنى له قصراً في مدينة واسط ، ثم دعا الناس ليخرجوا للفرجة عليه ويدعوا له بالبركة .
فاغتنم الحسن رحمه الله الفرصة واجتماع الناس ودهشتهم بعظمة البناء فوقف فيهم خطيباً وكان من جملة ما قاله ”
.. .. لقد نظرنا فيما ابتنى أخبث الأخبثين فوجدنا فرعون شيد أعظم مما شيد وبنى أعلى مما بنى وجعل الأنهار تجري من تحته فاهلك الله فرعون وأجرى الأنهار من فوق رأسه وأتى على ما بنى وشيد .. .. ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه وأن أهل الأرض قد غرّوه .. .. ” ثم أنطلق يتدفق في موعظته حتى أشفق عليه أحد الناس وقال : حسبك يا أبا سعيد حسبك ، فقال الحسن رحمه الله : لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه .
ودخل الحجاج إلى مجلسه في اليوم التالي وهو يتميز من الغيظ فقال : يقوم عبد من عبيد أهل البصرة ويقول فينا ما يشاء أن يقول ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه …. والله لأسقينكم من دمه يا معشر الجبناء .. .. ثم أمر بالسيف و النطع والجلاد فأحضروا .. ثم وجه بعض شرطته إلى الحسن رحمه الله ليُحضروه .. .. وما هو إلا قليل حتى أحضروا الحسن فلما رأى السيف والنطع و الجلاد حرك شفتيه بكلمات .. ثم أقبل على الحجاج وهو عليه عزة المسلم وجلال المؤمن ووقار الداعية إلى الله فلما رآه الحجاج هابه أشد هيبة ونزل له عن مجلسه واستقبله وهو يقول ها هنا يا أبا سعيد .. ها هنا يا أبا سعيد .. وما زال يوسع له حتى أجلسه في مجلسه والناس يتعجبون ثم أخذ يسأله عن بعض مسائل العلم و الحسن رحمه الله يُجيب فعطر الحجاج لحيته وقال له أنت أعلم الناس يا أبا سعيد ، ثم انصرف الحسن فتبعه حاجب الحجاج فقال له يا أبا سعيد والله لقد دعاك الحجاج لغير هذا وقد رأيتك تحرك شفتيك فماذا كنت تقول ؟
قال : قلت اللهم يا ولي نعمتي ويا ملاذي عند كُربتي اجعل نقمته برداً وسلاماً عليّ كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم ”
•الواثق فيما عند الله :
بعد صلاة الظهر ، طرق سائل باب الحسن فأسرعت جارية لفتح الباب فقال الحسن رحمه الله من ؟ فقالت : سائل ، فقال : أعطيه ما لدينا من طعام وكان في البيت عشر بيضات ، فأعطته الجارية تسع منها . وبعد قليل طرق الباب رجل وأهداهم تسعين بيضة ، فقال الحسن للجارية مازحاً ومعلماً ومربياً : لقد حجبت عنا عشراً ألا تعلمين أن الله سبحانه وتعالى قال ” ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ” ( الأنعام : 160 )
دُررٌ من حٍكَمه
• إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة ورجاء الرحمة ، حتى خرجوا من الدنيا بغير أعمال صالحة ، يقول إني حسن الظن بالله وأرجو رحمة الله ، وكذب لو أحسن الظن بالله لأحسن العمل لله ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة يوشك من دخل المفازة من غير زاد ولا ماء أن يهلك .
• كان عمر بن هُبيرة والياً ليزيد بن عبد الملك على العراق ، فجاء يسأل الحسن و الشعبي فقال : إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يكتب إليّ بأوامر أعرف أن في إنفاذها الهلكة ، فإن أطعته عصيت الله وإن عصيته أطعت الله فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجا .
فقال الحسن : يا عمر بن هبيرة يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله فظ غليظ لا يعصي الله ما أمره فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك .
يا عمر بن هبيرة إن تتق الله يعصمك من يزيد ، ولن يعصمك يزيد من الله .
يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت ، فيغلق بها باب المغفرة من دونك .
يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله عن الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من أقبالكم عليها وهي مدبرة .
يا عمر بن هبيرة إني أخوفك مقاماً خوفك الله منه فقال ” ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ” ( إبراهيم : 14 )
يا عمر بن هبيرة إنك إن تكن مع الله في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك وإن تكن مع يزيد بن عبد الملك على معصية الله وكَلَكَ الله إليه ”
فبكى الحسن وبكى عمر بن هبيرة وانصرف .
• إن من أخلاق المؤمن : قوة في دين ، وحزماً في لين ، وإيماناً في يقين وعلماً في حلم ، وحلماً في علم ، وكيساً في رفق ، وتجملاً في فاقة ، وقصداً في غنى ، وشفقةً في نفقة …….
• من عرف ربه وما عنده أحبه ، ومن عرف الدنيا وغرورها زهد فيها .
• عقوبة العلماء موت قلوبهم لطلبهم الدنيا بالآخرة .
• المؤمن في الدنيا كالغريب ، لا يجزع من ذلها ولا يأنس من عزها ، للناس حال وله حال .
• صاحب الدنيا بجسدك وفارقها بقلبك .
قالوا في هذا الإمام
• قال يزيد بن حوشب : ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تُخلق إلا لهما .
• قال الربيع بن صُبيح : ما دخلت على الحسن إلا وجدته مُستلقياً يبكي .
• قال قتادة : كان الحسن أعلم الناس بالحلال والحرام ، وما جالست رجلاً فقيهاً إلا رأيت فضل الحسن عليه ، وما رأيت أفقه من الحسن .
• قال الذهبي : كان سيد زمانه علماً وعملاً .
• قال الإمام الغزالي : كان الحسن البصري ـ رحمه الله ـ أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء عليهم السلام ، وأقربهم هدياً من الصحابة رضي الله عنهم ، اتفقت الكلمة في حقه على ذلك .
وفاته
ولما حضره الموت دخل عيه رجال من أصحابه فقالوا له يا أبا سعيد زوّدنا منك كلمات تنفعنا بها .
فقال : إني مزودكم ثلاث كلمات ثم قوموا عني ودعوني لما توجهت إليه :
• ما نُهيتم عنه من أمر فكونوا أترك الناس له .
• وما أُمرتم به من معروف فكونوا من أعمل الناس به .
• واعلموا أن خُطاكم خطوتان : خطوة لكم ، وخطوة عليكم ، فانظروا أين تغدون وأين تروحون .
قال الإمام الذهبي ثم أدركته الوفاة يوم الجمعة سنة 110 هـ وله من العمر ( 88 ) عاماً ، وكانت جنازته مشهودة ، صلوا عليه عقب صلاة الجمعة بالبصرة فشيعه الخلق وتزاحموا عليه ، حتى أن صلاة العصر لم تُقم في الجامع في ذلك ليوم ( المرة الوحيدة ، لانشغال أهل البصرة جميعاً بجنازته )
رضي الله عن الحسن البصري ، وألحقنا به في الصالحين غير مبدلين ولا مقصرين ولا مضيعين