الانتكاسة.. وخطة كي الوعي
أنا إنسان عاش وما يزال ظروف الاحتلال الصهيوني، وخبرت سياسته اللئيمة، وقد كان الاحتلال وما زال عبر جنوده وضباط جيشه ومخابراته، وجواسيسه، وللأسف بعض من يتطوعون لبث دعايته بنوايا غير سيئة وجهل وغفلة، يوصل رسالته المسمومة: لولا ما فعلتم، لكانت أحوالكم أفضل بكثير! واستمرار الاحتلال في هذه الدعاية وعدم التراجع عنها في أي مرحلة دليل على أنه يراها تؤتي أكلها عند بعض الناس؛ فقد قالوا عن انتفاضة الحجارة:كنتم معشر الفلسطينيين تدرسون وتتعلمون، وعدد المتعلمين عندكم يفوق ما لدى العرب نسبيا، وتعملون داخل الخط الأخضر بأجور لا يحلم بها ملايين العرب في دول أخرى، ومنكم من ذهب إلى الخليج وسمحنا له بتقديم الدعم المادي لأهله الذين بنوا البيوت وفتحوا المحلات وركبوا السيارات، وكان الواحد منكم يتنقل بحرية كاملة دون الحاجة إلى تصريح من رفح حتى الناقورة، ولا يرى حواجز أو نقاط تفتيش؛ فيأكل كنافة في نابلس، ثم فلافل في جنين، ويصطاد السمك من بحيرة طبريا.
والآن بعدما رشقتمونا بالحجارة ماذا جنيتم؟ ليس سوى تخريب التعليم في المدارس والجامعات، وقبلها دماء سالت وافتتحت معتقلات وسجون لآلاف الشباب في النقب وغيره؟ ولم يتزحزح كرفان واحد من أية مستوطنة، وإسرائيل ازدادت قوة، ولم يقف أحد من العالم معكم حتى إخوتكم إلا بالكلام! وسيتكرر هذا الطرح الصهيوني المبرمج في الانتفاضة الثانية بوقاحة أكبر؛ فقد كانوا يقولون لنا باستهزاء: الانتفاضة الأولى قطعت التواصل بين غزة والضفة وبينهما وبين الداخل؛ أما الثانية فقد صار وصول ابن نابلس إلى رام الله مثلا أصعب من ذهابه إلى أوروبا بفعل الحواجز وحفر الطرق بالجرافات الضخمة! وحاليا يكررون نـفس الأسطوانة متسلحين بالقتل وهدم بيوت المقاومين وسجن ذويهم، بل حتى عدم تسليم جثامين الشهداء، والعقاب الجماعي للبلدات التي يخرج منها مقاومون. والهدف هو كيّ وعي الجمهور الفلسطيني وأنه لا جدوى من المقاومة، بل هي تعيد الوضع إلى الوراء وتجعل الحال سيئا من النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية والنفسية!
والآن، ما علاقة هذا بانتكاسة الثورات العربية، وتغوّل الثورات المضادة؟ إنها ذات الفكرة التي يقتات الطغيان منها ويترعرع من نتاجها منطق العبودية، وتحوّل الشعوب إلى قطيع في مزرعة الطاغية، يذبح منها ما شاء، ويبيع ما أراد، ويهدي من شاء، ويبقي في الحظيرة ما يوافق هواه أو مصلحته..فيم الشعوب مستسلمة خانعة لا تقاوم خوفا من (الأسوأ) الذي يهدد الطاغية به، ضاربا مثالا من تاريخ يخص الإقليم الذي يغتصبه، أو أقاليم مجاورة ثار أهلها على طاغية يسومهم سوء العذاب، فشردهم وقتلهم وأفقرهم بأضعاف مضاعفة، فيحقق مراده بأن تستكين الشعوب وتستسلم، فتفلح خطة كيّ الوعي، بحيث تصل إلى مرحلة ترى الشعوب نفسها وهي ترسف في قيد العبودية بنعمة تستحق الشكر والرضا، لا محنة تستدعي أن تضرع إلى الله بزوال كربها وكسر قيدها!
يريدون أن يرى التونسي عهد بن علي وليلى الطرابلسي جنة عدن، مقارنة مع ما تلاه من مراحل صنعت في أروقة ومكاتب المكر السيء…وعلى هذا يقاس وضع مصر واليمن وليبيا وبالتأكيد سورية، كي يلعن الناس الثورات، ويصاب بالرهاب من يفكر من جوارهم بثورة، وكي يستسلموا لسكين الطاغية ما دامت تذبحهم بالمفرق لا بالجملة! ضغط اقتصادي متواصل معلمه الأبرز ليس الفقر والبطالة وحسب، بل الجوع بمعنى الكلمة، وشراسة أجهزة أمن الطغاة قتلا وسجونا وتعذيبا وتغييبا قسريا، وآلة إعلامية لئيمة خبيثة تضخ بخطة منهجية فكر الاستسلام، وضرورة نبذ فكرة الحرية والثورة، وتكالب قوى دولية ورعاية بعض الدول (الشقيقة) للثورات المضادة سرّا وعلانية، بلا خجل أو وجل، وإعلاء شأن رويبضات قتلة سفلة.
والمواطن العربي عند مرحلة معينة من الخطة، سيستسلم لإرادة الجلاد دون أدنى مقاومة، بل لربما بفرح واستبشار لأنه كفر بمنطق الثورة وقول (لا) في وجه الطغاة، وسترفع الشعوب التي ثارت أو التي فكرت بالثورة الرايات البيضاء وتتوسل بقاء (السيء) الذي تحوّل-وفق خطة كي الوعي- إلى (جيد وحسن) مفضلة هذا السيء على (الأسوأ). وبرأيي هذا أخطر وأقوى سلاح بيد الطاغية، والثورات المضادة؛ سلاح يفوق خبث الأمريكان وتآمرهم هم والإنجليز، وانتهازية الفرنسيين، ووحشية الروس، ومن يساندهم من العرب بالأموال والإعلام.
لأن (كيّ الوعي) هو ما سيجعل الشعوب مهزومة نفسيا، راضية بالعبودية الطوعية. وما سوى ذلك مما رأينا من انتكاسات للثورات، وتحوّل التفاؤل والفرح إلى تشاؤم وحزن وبكاء، وكذلك الحالة السوريالية التي تطوف بلاد الثورات العربية؛ ومنها على سبيل المثال لا الحصر، حضور الرئيس المخلوع الذي اعتصمت الجماهير في ميدان التحرير مطالبة برحيله، إلى المحكمة بصفته (شاهدا) على أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، والمنتخب وراء القضبان والمخلوع خارجها، في رسالة لكل من ثار أن ثورتكم فشلت وهزمتم شرّ هزيمة!
وذلك بالتزامن مع إعادة إنتاج وتأهيل من قتل شعبه بالكيماوي، وشرّد ملايين منه، وإعادة العلاقات (التي انقطعت صوريا) معه وتصوريه أمام القريب والبعيد كـ(منتصر)، مع تكالب القريب والبعيد على مهد الثورات أي تونس، لدرجة أن أم وأخت الشاب الذي أحرق نفسه، فانطلقت أول شرارة اختارتا الهرب بعيدا عنها، وثمة سعي دؤوب متواصل لوأد الثورة وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء تماما، ربما حتى التفكير بعودة بن علي إن لم يكن رئيسا هو فابنه، أو أن يسرح ويمرح في تونس، بينما تتم اجراءات الانقلاب على الثورة وسجن الثائرين كما في مصر. كل هذا طبعا بالتزامن مع كسر الحاجز مع إسرائيل، والتمهيد لتطبيع العلاقات معها، بل هناك تطبيع يظهر بعضه وكثير منه لا يظهر، بانتظار الإجهاز تماما على كل ما حققته الثورات.
حذار من يأس مدمر
كل هذه المشاهد المؤلمة المحزنة التي تقول إن الربيع قد صار خريفا أو صيفا حارقا أو شتاء باردا، لا تعدل ولو مثقال ذرة الهزيمة النفسية المراد زرعها في نفوس الناس، حتى يرضوا بالبقاء عبيدا في حظائر الطغاة، وهؤلاء الطغاة هم عبيد يستعجلون إعلان عبوديتهم للصهاينة. حذار من اليأس، رغم كل الانتكاسات، والثورات المضادة، وظهور مكر الدول الأجنبية التي تقاسمت الأدوار فيما بينها وكلها تلطخت أيديها بدماء الشعوب العربية، تحت عناوين زائفة.
هم يريدون للشعوب اليأس وبالتالي الخنوع والخضوع؛ فليكن ما جرى درس للثورة على بصيرة وزيادة في الوعي الإيجابي، وتعلم الدروس، فمثلا: لماذا لا تكون المضايقات لعائلة البوعزيزي كي ترحل مدروسة وتوجهها الثورات المضادة؛ ولماذا لا يكون التضييق على أحمد الحفناوي في رزقه ومقهاه كذلك الأمر؟ بدل اليأس ينبغي تعلم الدروس واستخلاص العبر؛ مثل وضع العامل الإسرائيلي كشيء محدِّد للحالة السياسية العربية، لا يمكن تأجيل التعاطي معه، فإسرائيل لم ولن ترضى بنظام عربي يعبر عن حقيقة مشاعر شعبه عنها، ولا تستغربوا إذا ما كانت تقف وراء مخططات كيّ الوعي التي تعمل بها ضد الفلسطيني، وتجربها الآن ضد شقيقه العربي. فأحبطوا مخططهم وردوا بضاعتهم إليهم.