عندما يكون قلب الداعية يتفطر حرقة وألما على الشاردين من عباد الله، وعندما يحمل لهم في كيانه الخير وحب النجاة، ويظهر ذلك في إخلاصٍ يلامس شغاف قلوب العصاة ، وكلمات حانية خارجة من صميم القلوب حاملة كسوة الرحمة والشفقة ، وإذا بها تصل إلى قلوب المنحرفين المحرومين من سماع الكلام المنور الرحيم ، يرافقها دموع غزيرة تنهال رأفة على من ابتلي بمعصية أبعدته عن التماس رحمات الحق والتملل على أعتابه .
فإذا كان الأسلوب بهذه الطريقة البديعة سيجد لا محالة أثراً عجيباً ، واستجابةً سريعة ، دعوة مؤسسة على نور قول الحق سبحانه : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة بالموعظة الحسنة) ، ومتأسية بالحال النبوي والأسوة المحمدية الذي كاد أن يصل على حد هلاك نفسه تأثرا على الذين لم يستجيبوا لدعوته، فخفف الله تعالى عنه من آلامه فخاطبه بقوله : (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) وكرر ذلك عليه فقال له: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) ، وما ذاك إلا لأنه الرؤوف الرحيم وهو الرحمة المهداة.
كم سمعنا من علمائنا المرشدين ، وساداتنا المربين أنه ينبغي للداعية أن يستشعر في قلبه الرحمة تجاه من يدعوهم وكأنه ينظر لأحدهم يهوي من جبل سحيق ، أو على شفا نار عظيمة يكاد أن يسقط فيها ، فكيف ينبغي أن يكون موقفه منه وحاله تجاهه .
بالإضافة إلى ذلك ناحية مهمة يجب ألا تغيب عن أذهان الدعاة أن هناك بذرة خير، وجوانب طيبة مغمورة في الإنسان مهما بلغ من الفساد والضلال، و الناصح الحكيم من يستطيع الوصول إلى هذه البذرة فيسقيها بنور الإيمان والحكمة، ويحاول تدعيم تلك الجوانب الطيبة بوابل من ينابيع التوجية الرقيق الحاني والإرشاد.
أساليب يتفنن بها الدعاة في جذب والآخرين والأخذ بأيديهم إلى الجادة المستقيمة دون إشعارهم بفوقية أو استكبار، أو إظهار تميز بأفضلية أو احتقار، سمعنا عن المحدث الأكبر العارف الرباني الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله تعالى أسلوبا بديعا في الدعوة الأبوية الشفوقة كان يدعو الزانيات بطريقة عجيبة أدت إلى توبتهن وإقبالهن على الله ، كان يرسل مع بعض من يثق به بعض الليرات الذهبية لينفقها عليهن، ويطلب منه أن يقول لهن: (إن الشيخ بدر الدين يطلب منكن دعوة صالحة له )، وما أن يسمعن ذلك وإذا بالبكاء والشهيق ، ثم يعاهدن الله على الإنابة والاستقامة، لم يقطنهن من رحمة الله، ولم يدع عليهن بالهلاك ، لأنه خريج مدرسة النبوة التي تعلم فيها ما رواه أبو داود في سننه عن أَبي هُرَيْرَةَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (كَانَ رَجُلانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ؛ فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ. فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبً، فَقَالَ: وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرتهُ.
موقف تأثرت به تأثرا بليغاً يعتبر نموذجا رائعا للدعاة، ومعلمة شاخصة للناصحين، وتدريبا عمليا في كيفية النصح وإيصال الكلمة الطيبة، وما نتج عنها من استجابة رائعة غير متوقعة ، كلمات حارة صادقة من قلب يتألم لأحوال من وقعوا ضحية الجهل والحرمان، والتسلط والطغيان ، صدرت عن الداعية البحريني الشيخ حسين الحسيني بعد وصوله لبيوت الدعارة في تونس، ولنستمع إليه وهو يتحدث عن كيفية دخوله إليها ، واتباعه الأسلوب الجميل في دعوته لمرتاديها حيث يقول بعد وصوله لمدخل تلك البيوت: (واجهني الحراس لما رأوا هيئتي، ومنعوني من الدخول، أتت الشرطة ورجال الأمن لكي يمنعوني، فقلت لهم: جئت إليكم من الخليج أحمل الخير، صار لغط كثير، أخرجت لهم الهدايا، فاطمأنت نفوسهم، وفجأة تغافلتهم واندفعت لغرف البنات، دخلت ساحة غرف الدعارة وهي بشكل طولي، فبدأت صيحات النساء، وفجرت المكان بقولي: “اتقوا الله” ، اختلطت كلماتي بصراخهنّ، وبدأن بالإساءة لي، ومنهن من سبّت الله تعالى، لكني لم أتراجع ، إحدى الزانيات من أعلى الغرفة بدأت بالرد عليّ، فوجدتها فرصة ودخلت معها في حوار، بدأت الفتاة تشتكي حالها وتقول أنا جامعية! ولجأت للدعارة لضيق الحال وقلة المال ، وقالت “لا تكلمني كواعظ! أنتم أهل الخليج تملكون المال، ولا تشعرون بمعاناتنا، الكلام سهل،بدأتُ بدعوتها، مما قلته: من الرازق؟ من المعطي ؟فأخذت تقول: الله الله.. وهنا حصلت المفاجأة ، اجتمعن كل الزانيات، فقلت لهن “الله لا ينسى رزق النملة والنحلة والطير… فكيف بالبشر؟؟ قلت للزانيات : “نحن نصبر على ألم الجوع، لكننا لا نستطيع الصبر على نار الآخرة!
وذكرت لهن عذاب الزنا، قالت الزانيات”نحن مستعدون لترك الحرام!! الله أكبر.. لم أصدق ما أسمع! يا رب اغفر لي تقصيري، قلن”إن توفر الحلال لن نقع في الحرام! فقلت لهن”هل تعاهدون الله على ذلك؟ قلن “نعم، وقلت لهن: “وأنا سأحمل رسالتكن إلى أهل الخليج، وسنخرجكن من هذا الوكر، فاتصلوا بالله ، إن أهل الخليج لا يرضون لنساء تونس وبنات تونس الزنا ! إنهم يحبون لكم الخير،ولن يبخلوا عليكم ، وكيف نرضى لنساء تونس بالزنا، وهي أرض طيبة، وطئها الصحابة وخرجوا لها من المدينة المنورة، قلت: “أرض تونس التي جاهد من أجلها ابن الزبير وابن عمر وابن عباس والحسن والحسين، وابن جعفر وابن عمرو، لا نغار من أجلها ! وتزنى نساؤها!..كيف؟ وهنا حصل ما لم أتوقع ؛؛؛
ما أن ذكرت للزانيات أسماء الصحابة وجهادهم من أجل تونس حتى انفجرن الزانيات بالبكاء الحار ! بل وقف أحد الشباب الذي دخل بعدي بقليل للزنا، إذ به يقف بجنبي ويبكي بكاء الطفل!!! هنا.. لم أستطع أن استوعب ما يجري حولي ! وبدأ بكاء الزانيات يرتفع بصورة هستيرية! رفعت يدي وقلت للزانيات: ” إني داعٍ فأمنوا، فدعوت لهن بالرزق الحلال والحفظ والستر “، وهنا اجتمعن حولي، وقالت احداهنّ: أين أنتم؟ أول مرة نسمع هذا الكلام ! وقالت أخرى: نحن لا نريد الحرام ! لكن هذا ما أوصلنا إليه الطاغية زين العابدين بن علي، وقالت: “عندي أولاد ولا أجد مالاً، أنقذني من النااار! لا أريد الحرام، وفّر لي العمل الحلال “، قالت إحدى الزانيات: “أنا كل يوم أبكي قبل النوم! وأخاف لو متّ كيف سيكون قدومي على الله، وواصلت قولها: أصيح في الليل يااا الله تب عليّ! ولا يأتيني النوم إلا بالمسكنات! أنقذوني”، لم أتمالك نفسي، فقد تأثرت! وبكيت! وبكينا جميعًا.. لا أدري لماذا؟ لكني استشعرت رحمة الله! كلام كثير سمعته! وعاهدتهنّ أني سأوصل معاناتهنّ ! وها قد فعلت! فما أنتم فاعلون؟سجل الإخوة معي أسماء الجميع، وأوصيتهم بالتواصل معهنّ، لعل الله أن يهديهنّ، والحمدلله، مسؤولة هذا الماخور امرأة! ونصحني الإخوة بالتوجه لها لنصيحتها! لم أفعل لضيق الوقت، مضى على الموقف ثلاثة أيام، ومازال صوت بكاء الزانيات فأذنيّ، ودموعهنّ أمام ناظريّ! يا رب رحمتك”
واقترح الشيخ حسن الحسيني تفعيل مشروع خاص لهنّ باسم”الأسر المتعففة”لحمايتهن من الحرام .وقالــ “وتذكروا حديث الرسول:”من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة”! اللهم استر علينا.