السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين
فاتح الهند ومحطم الأصنام
لقد ظلت شخصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مضربًا للأمثال في كل باب، في العدل والحق والقوة والورع والجهاد والزهد والخوف واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان له من المواقف المشهورة والآثار المحمودة ما جعلت العالم بأسره يعترف بفضله وأثره في البشرية وقتها، حتى إن “مايكل هارت” صاحب كتاب “العظماء مائة” قد وضعه ضمن هؤلاء العظماء.
وظن المسلمون أن هذه الشخصية لن تتكرر مرة أخرى عبر التاريخ، والحق أننا لن نجد في التاريخ شخصية تتطابق مع الفاروق عمر رضي الله عنه، ولكننا سوف نجد في أحداث التاريخ بعض أبطال المسلمين الذين تشبهوا بالفاروق عمر في كثير من مواقفه، وبطلنا هنا هو أكثر القادة المسلمين على مر العصور تشبهًا واقتداء بالفاروق عمر حتى كأنه هو، ومع الأسف لا يعرفه معظم المسلمين رغم أنه قد أضاف لبلاد المسلمين واحدة من أغلى بلادهم وهي “أفغانستان”، وقهر أعدى أعداء المسلمين وهم الهندوس.
الدولة السبكتكينية والخلافة العباسية:
مرت الخلافة العباسية بعدة أطوار، فبدأت قوية ثم ازدادت قوة واتساعًا، ثم بدأ الضعف يدب في أوصالها عندما اقتتل الأخوان “المأمون” و”الأمين” على الخلافة، ثم دخلت مرحلة الضعف وتحكم الغير فيها، وفي هذه المرحلة بدأ ولاة الأقاليم البعيدة يستقلون بحكم تلك الأقاليم وينشئون ممالك مستقلة تأخذ شكل الحكم الذاتي حيث تكون مستقلة في كل شيء، ولكن ولاءها المعنوي والروحي للخلافة العباسية، وقامت العديد من الدول في الشرق والغرب تحت هذا الإطار.
ففي الشرق مثلًا ظهرت الدولة الطاهرية والدولة السامانية والدولة البويهية، وفي الغرب ظهرت الدولة الطولونية والإخشيدية ودولة الأغالبة وهكذا.
بعض هذه الدول كان له أثر حسن في خدمة الإسلام ونشر الدين مثل: الدولة الطولونية والأغالبة، وبعضها كان له أسوأ الأثر على الإسلام والمسلمين مثل: الدولة البويهية الشيعية.
من هذه الدول التي استقلت ذاتيًا عن حكم العباسيين مع الولاء لخليفتهم الدولة السبكتكينية ومؤسسها هو “سبكتكين” وهو أمير تركي كان يعمل في خدمة والي مدينة “هراة” وكانت هذه المدينة تتبع حكم “الدولة السامانية” فلما توفي هذا الوالي لم يجدوا بعد تعيين عدة ولاة أكفأ من الأمير “سبكتكين” هذا فأصبح واليًا عليها وأخذ في توسيع دائرة نفوذه حتى صار واليًا على “إقليم خراسان” كله سنة 366 هجرية وقام “سبكتكين” بمحاربة الخارجين على الدولة السامانية وتصدى عدة مرات لمحاولات الدولة البويهية القضاء على السامانيين، وظل سبكتكين طوال حياته في جهاد مستمر ضد الخارجين وكفار الهند الذين شعروا بخطورة مثل هذا الرجل على نفوذهم بأفغانستان وشمال الهند، وفي هذا الجو الجهادي ولد بطلنا محمود بن سبكتكين.
من هو محمود بن سبكتكين؟
هو الملك الكبير والمجاهد المغازي والثاغر المرابط وأول من تلقب بالسلطان أبو القاسم محمود بن سبكتكين المكنى بيمين الدولة، ولد في المحرم سنة 360 هجرية في مدينة “غزنة” وتقع الآن في أفغانستان، وكان أكبر أبناء أبيه “سبكتكين” فنشأ وتربى تربية القادة الأبطال واشترك منذ حداثته في محاربة أعداء الإسلام من الهنود والبويهيين، وكان له أكثر كبير في معركة “نيسابور” التي انتصر فيها سبكتكين وولده محمود على البويهيين، فكافأه “نوح بن منصور الساماني” بأن جعله واليًا على “نيسابور” وذلك كله وهو في مقتبل الشباب.
توفى الأمير “سبكتكين” سنة 388 هجرية بعدما أنشأ دولة كبيرة وقوية وراسخة تشمل إقليم خراسان كله وإقليم سجستان حتى كابل، وتولى الأمر من بعده البطل المجاهد “محمود” بعد منازعة قصيرة مع أخيه “محمد” الذي كان لا يصلح للرياسة ولا للمهام الجسيمة التي وكلت لبطلنا “محمود”.
أوضاع العالم الإسلامي:
لم يكد الأمر يستقر لمحمود بن سبكتكين في حكم الدولة السبكتكينية حتى رأى أن أوضاع العالم الإسلامي شديدة الاضطراب:
فعلى المستوى الداخلي: تفرقت دولة الخلافة وتمزقت أوصالها لأشلاء مبعثرة في شكل دولة هنا ودولة هناك، ومعظم هذه الدول قد أصبح نكبة ووبالًا على الإسلام وتقاتلوا فيما بينهم على الملك والأرض والدنيا الفانية، وأصبح الخليفة لا حول له ولا قوة ألعوبة في يد قادة الجيش والمتغلبين من ولاة الأقاليم، وانفصل الجزء الشرقي بأكمله “مصر والمغرب العربي” إضافة للشام والحجاز واليمن وأصبح تابعًا للدولة السرطانية الرافضية الملقبة زورًا بالفاطمية، وأصبحت عقيدة الرفض هي الغالبة على المستوى الرسمي لكثير من ولاة الأقاليم وانتشر التشيع بسبب “البويهيين” الشيعة المتحكمين في الخلافة العباسية، وواكب ذلك ضعف الدولة السامانية وانتشار الفساد فيها ولم تصبح قادرة على القيام بدورها المنوط بها.
أما على المستوى الخارجي: فلقد كان أمراء الهند خاصة شمالها يتربصون بالمسلمين الدوائر خاصة بعد أن حقق المسلمون عدة انتصارات باهرة عليهم واستولوا على بلاد الأفغان والخلج منهم، وبدأ أمراء الشمال في التجمع مرة أخرى لمنع تقدم المسلمين نحو كشمير، وكان هناك خطر من نوع آخر وهم كفار الترك أو الأتراك الغزية الذين كانوا يعيثون في الأرض فسادًا ويعتمدون على السلب والنهب لخيرات المسلمين.
لذلك كان على محمود التحرك على الصعيدين الداخلي والخارجي في سبيله لخدمة الإسلام ونصرة الدين في هذه الفترة العصيبة من حياة الأمة، وبالفعل أثبت محمود أنه رجل الساعة.
أعمال محمود على المستوى الداخلي:
أولًا: القضاء على الدولة البويهية:
كانت الدولة البويهية ذات هوى وميول رافضية، كما أنها كانت دولة ذات جذور فارسية ظهرت في أوائل القرن الرابع الهجري في شرق الهضبة الإيرانية التي كانت تعد المرتع الخصب للعقائد الضالة والأفكار الفاسدة، وتطورت هذه الدولة مستغلة ضعف الخلافة العباسية وتحكم القادة الأتراك فيها حتى قويت شوكتها وصارت القوة المتحكمة في أمور الخلافة ببغداد.
وكانت هذه الدولة من عوامل التفرق والخذلان في الكيان الإسلامي كله، وزاد خطرها بشدة بعدما قامت الدولة العبيدية الرافضية باحتلال مصر وإنشاء الخلافة الفاطمية فيها سنة 262 هجرية، وأصبح الإسلام والخلافة بين فكي الأفعى الشيعية في الشرق والغرب.
بل عزم كبيرهم وهو “أحمد بن بويه” الملقب بمعز الدولة على إزالة اسم الخلافة من بني العباس ويوليها علويًا من الشيعة، لذلك أسرع “محمود بن سبكتكين” بالقضاء على هذه الدولة البويهية المنحرفة وكانت مدينة “أصفهان” عاصمتهم فقضى عليهم نهائيًا، ويكفي لبيان فسادهم أن السلطان محمود لما فتح بلادهم واسقط ملكهم واسمه “مجد الدولة” وجد في حوزته من الزوجات الحرائر ما يزيد عن خمسين امرأة ولدن له نيفًا وثلاثين ولدًا، ولما سأله عن ذلك، قال “مجد الدولة”: هذه عادة سلفي ويقصد به “كسرى الفرس”، ذلك لأن البويهيين كانوا يخططون للارتداد للعصر الساساني مرة أخرى، فخدم “محمود بن سبكتكين” الإسلام بذلك خدمة جليلة.
ثانيًا: القضاء على الدولة السامانية:
هذه الدولة كانت فيما مضى دولة قوية سنية ظاهرة حفظت البوابة الشرقية للعالم الإسلامي لفترة طويلة ولكنها لم تقم بدور الدعوة ونشر الإسلام في امتداد الشرق الإسلامي، وكان عصرهم كله حروب وصراعات مع الجيران، ولم تكن لولاة هذه الدولة سياسة رشيدة ولا اتجاه واضح مما جعل المشاكل والمتاعب تأتي كثيرًا من جانبهم خاصة بعدما اقتتلوا فيما بينهم ودب الفساد والانحراف فيهم وأصبحوا عائقًا أمام حركة الفتوحات الإسلامية والتي كان ينوي “محمود” القيام بها، وبالفعل قضى “محمود بن سبكتكين” على الدولة السامانية بعدما انتصر على “عبد الملك بن نوح الساماني” عند مدينة “مرو” سنة 389 هجرية وأنهى الوجود الساماني بخراسان، ثم أنهاه بسجستان سنة 393 هجرية.
ثالثًا: تحالفه مع الخلافة العباسية ضد الدولة الفاطمية:
كانت معظم الدول التي ظهرت بأطراف الخلافة العباسية تتعامل مع الخلافة بصورة مهينة، فيزدرون الخليفة العباسي، ولا يحترمون هيبة الخلافة، بل امتدت أيديهم بسفك دماء بعض الخلفاء مثلما حدث مع “المعتز” و”المتوكل” و”المهتدي” العباسيين، فلما جاء السلطان “محمود بن سبكتكين” وقامت الدولة السبكتكينية أعلن “محمود” ولاءه الكامل وتبعيته التامة للخليفة العباسي وقتها “القادر بالله”، وامتثل لكل الأوامر التي كانت تأتيه من الخليفة القادر بالله، وأقام معه حلفًا قويًا أمام أطماع الدولة الخبيثة الرافضية بمصر ووقف سدًا منيعًا أمام محاولات الروافض الكثيرة لنشر الرفض ببلاد خراسان وما حولها مستغلين الأثر السيء الذي خلفه وجود الدولة البويهية الهالكة، وعندما حاول العبيديون في مصر إغراءه بالهدايا كي يقيم الدعاية لهم في بلاده أحرق كتبهم وهداياهم وقتل “التاهرتي” مندوبهم للدعوة وأهدى بغلته إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي وقال له: “كان يركبها رأس الملحدين فليركبها رأس الموحدين”، ولما سمع أن أحد أمرائه وقد أرسله أميرًا على قافلة الحجيج قد قبل هدايا من الفاطميين في موسم الحج أمره بالعودة بها مرة أخرى إلى بغداد عاصمة الخلافة وأن يحرقها بنفسه على باب قصر الخلافة أمام أعين الناس.
رابعًا: نشره للسنة ومحاربته للبدعة:
كان السلطان محمود بن سبكتكين على عقيدة السلف الصالح خاصة في باب الأسماء والصفات وله مناظرة شهيرة مع كبير الأشاعرة في وقته “ابن فورك” انتصر عليه فيها وطرده من بلده بعدها وكان محمود يكره البدعة وأهلها والفرق الضالة بأسرها، لذلك فلقد أزال من كل بلد فتحه كل الاعتقادات الباطلة والفرق الضالة وأزال من بلاده كل أثر للتشيع والجهمية والمعتزلة ومذاهب الرفض كلها من إسماعيلية وقرامطة وزيدية، وعمل على نشر الإسلام الصحيح في كل نواحي السند إلى حوض البنجاب، وانتصار “محمود” لعقيدة السلف الصالح جعلت كثيرًا من المؤرخين الأشاعرة وأصحاب الميول الشيعية ينتقصون من قدر “محمود” وينسبون إليه بعض الصفات الذميمة مثلما فعل ابن الأثير وكان متأثرًا بالتشيع عندما وصف السلطان “محمود بن سبكتكين” بالشره في جمع الأموال ولو من غير حقها، وهي دعوى باطلة تخالفها سيرة وحياة هذا البطل العظيم في كل موطن.
خامسًا: حراسته للدين وإقامته للعدل:
كان السلطان محمود بن سبكتكين مثالًا يحتذى به للحاكم المسلم الذي يعلم جيدًا مهام الحاكم والواجبات المنوطة به، لذلك فلقد جاءت حياته وفترة ملكه تصديقًا لهذه الواجبات والمهام الموكلة إليه، فلقد كان رغم ملكه الفسيح في غاية الديانة والصيانة وكراهية المعاصي وأهلها، لا يجرؤ أحد على إظهار معصية في بلاده، ولا خمرًا ولا شيئًا من الملاهي والمعازف، فلقد كانت حياته على الاستقامة والجدية، واقتدى به شعبه فصار لا يشغلهم سوى قضية الدين ونشره، والجهاد في سبيل الله، وكان “محمود” من أحرص الناس على نشر الإسلام في البلاد المفتوحة خاصة كشمير وبلاد الغور “في أفغانستان حاليًا” وكان كلما فتح بلدًا بعث فيه الدعاة والمعلمين لنشر الدين وتعليم الإسلام، وأزال كل الفرق الضالة والباطنية، حتى لا تفسد عقائد حديثي الإسلام في تلك البلاد.
وكان محمود محبًا للعلماء والفقهاء والمحدثين وأهل الخير والصالحين، وكان حنفيا ثم صار شافعيًا على يد الإمام “القفال الصغير”، وعمل طوال حياته على إقامة ناموس العدالة حتى على أقرب المقربين، فلقد اشتكى له بعض رعيته يومًا أن ابن أخته يعتدي على حرمة بيته وحرمة زوجته محتميًا بقرابته من السلطان، نذر محمود ألا يأكل ولا يشرب حتى يأخذ حق هذا الرجل الضعيف وظل صائمًا عدة أيام، حتى ضبط محمود ابن أخته وهو يزني بامرأة هذا الرجل قسرًا عنها فأخذه وقتله بيده حتى يرتدع كل من تسول له نفسه وقرابته من السلطان أن يخالف الشرع ويعتدي على الناس، وهكذا يكون الحاكم المسلم القدوة الذي فعاله تردع قبل نصاله.
أعمال محمود على المستوى الخارجي:
على الرغم من جلالة الأعمال التي قام بها السلطان محمود على المستوى الداخلي وأثرها القوي والبعيد على الشرق الإسلامي كله، إلا أن ما قام به محمود على المستوى الخارجي ونقصد بها تلك الحملات الجهادية العظيمة التي قام بها محمود لأكثر من ثلاثين سنة متصلة على بلاد الهند وما حولها، وهي التي رفعت ذكر هذا السلطان العظيم وأعلت شأنه وبيضت صفحته في التاريخ وبوأته مكانة لم يصل لها أحد بعده من الفتوحات والجهاد في سبيل الله، وهذه الأعمال جاءت كالآتي:
أولًا: القضاء على أكبر ملوك الهند “جيبال”:
لم تكن شبة الجزيرة الهندية وحدة سياسية واحدة تحكمها إدارة وحاكم واحد، فلقد كانت مقسمة لعدة أجزاء وإمارات وأقاليم وذلك لضخامة مساحتها وكثرة الصحاري بها، وكل إقليم كان له ملك يحكمه، وكان أكبر هؤلاء الملوك سنًا وشأنًا وقوة وبأسًا هو الملك “جيبال” وكان في نفس الوقت أشدهم حقدًا وكرهًا للمسلمين عمومًا وآل سبكتكين خصوصًا، حيث إنه قد سبق وأن التقى في معركة كبيرة مع الأمير “سبكتكين” سنة 369 هجرية وهزمه “سبكتكين” هزيمة منكرة جعلت قلبه يحترق ويتلظى على المسلمين، فكما انتهى السلطان “محمود” من الأمور الداخلية جعل كل همه القضاء على “جيبال” هذا.
بالفعل قاد محمود حملة جهادية كبيرة على شمال الهند حيث معقل ملك “جيبال” وأحصن مدنه واصطدم معه في معركة “برشور” في المحرم سنة 392 هجرية، وصبر المسلمون على القتال رغم الفارق الهائل بين الجيشين، فلما انتصف النهار انهزم الهنود وقتل معظمهم، ووقع “جيبال” نفسه في الأسر، وكان في عنقه قلادة جواهر تقدر بمائتي ألف دينار وحدها، فصار هو وماله وعشيرته غنيمة للمسلمين، وكان محمود شديد الذكاء وعلى دراية تامة بنفسية كفار الهند، فبعدما أسر “جيبال” وألبسه شعار الذل، أطلق سراحه نظير دية ضخمة، وهو يعلم ما سيفعله به قومه، فإن من عادة الهنود أن من وقع في الأسر من ملوكهم لا تنعقد له رياسة عليهم أبدًا، فلما عاد “جيبال” إلى بلده ورأى حاله وما صار إليه من هزيمة وذل وعار وضياع ملك ومال، حلق رأسه، ثم ألقى نفسه في النار، فاحترق بنار الدنيا قبل نار الآخرة، وبذلك أزال محمود أكبر عقبة في طريقه لنشر الإسلام بالهند.
ثانيًا: فتح الشمال الهندي:
كل ما قام به السلطان المجاهد “محمود بن سبكتكين” على الصعيد الداخلي وإزالته للدولة البويهية والسامانية وكل الفرق الباطنية الضالة، كان من أجل الهدف الأسمى الذي نذر محمود حياته من أجله ألا وهو نشر دين الإسلام في بلاد الهند والجهاد في سبيل الله عز وجل، فلقد استمر محمود في سلسلة طويلة من الحملات الجهادية على شمال الهند ابتداءً من سنة 392 هجرية حتى سنة 418 هجرية.
بدأ محمود فتوحه في الهند من مركز قوة، فلقد كان يسيطر على إقليم “غزنة” وهو الإقليم الجبلي الذي يشرف على سهول البنجاب، فكانت مداخل الجبال وممر خيبر في يده، كذلك كان محمود قد مد سلطانه على كل بلاد إيران وما وراء النهر، فلم يعد هناك عدو يناوئه في شمال البلاد أو غربها، وبهذا تمكن من أن يوجه كل قواه نحو الشرق حيث الشمال الهندي.
بدأ محمود انتصاراته في الهند على أكبر ملوكهم “جيبال” سنة 392 هجرية، ثم انحدر على إقليم “الملتان” وكان فيه مركز الهندوكية في شمال الهند الغربي، ثم استولى على مدينة “بهاتندة” وكان بها الكثير من فرقة القرامطة الباطنيين وأميرهم يدعى “أبو الفتوح داود” وكان من أضر الخلق على المسلمين، فقضى محمود على هذه الفرقة الضالة، ثم حارب “أتاندابال بن جيبال” سنة 395 هجرية وهزمه وقضى على سلطانه، ثم حارب حفيد “جيبال” وكان قد ادعى الإسلام ليعرض عنه محمود ثم ارتد فقاتله محمود وأصبحت كل نواحي السند إلى حوض البنجاب بلادًا مسلمة.
انتهز أمراء الهند فرصة غياب “محمود بن سبكتكين” لتأديب الخارجين عليه في بلاد ما وراء النهر، وخلعوا طاعته وجمعوا قواتهم لقتاله وذلك سنة 398 هجرية، فعاد الأسد المجاهد بمنتهى السرعة في جيش كثيف من الأبطال المجاهدين وهزم الجيش الهندي المتحد هزيمة ساحقة وذلك عند قلعة تسمى “بيهيمنكر” على سفح الهمالايا، وعندها أذعن كل أمراء الهند لسلطان الإسلام ودخل كثير منهم الإسلام ومن بقي دفع الجزية عن يد وهو من الصاغرين.
في سنة 408 هجرية بدا “محمود بن سبكتكين” في فتح كشمير، فدخلها من ناحية الشمال الغربي، فعبر نهر “جهلم” ودخل قلب كشمير وأخضع أمراءها، وتحولت كشمير إلى بلاد مسلمة، وكان لهذا الانتصار صدى بعيد، حيث دخل معظم أمراء الهند في دين الإسلام وعلموا أنه الدين الحق الذي لا يغلب من يتمسك به ويعمل به ويدعو إليه، وبعدها قرر “محمود” أن يتجه جنوبًا حيث إقليم الكوجرات وذلك من أجل مهمة خاصة جعلها “محمود بن سبكتكين” درة أعماله وتتويجًا لفتوحاته وجهاده الطويل.
ثالثًا: هدم صنم الهندوس الأكبر “سومنات”:
استمر السلطان الفاتح “محمود بن سبكتكين” في حملاته وفتوحاته لبلاد الهند، وكان كلما فتح بلدًا أو هدم صنمًا، أو حطم معبدًا قال كفار الهند: إن هذه الأصنام والبلاد قد سخط عليها الإله “سومنات”، ولو أنه راض عنها لأهلك من قصدها بسوء، فسأل “محمود” عن “سومنات” هذا فقيل له: إنه أعظم الأصنام ومعبود الهنود الأكبر، ويعتقد الهنود أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت إليه على عقيدة التناسخ عندهم فيعيدها فيمن شاء بزعمهم، وأن المد والجزر الذي عنده إنما هو عبادة البحر له.
يقع “سومنات” على بعد مائتي فرسخ من مصب نهر “الجانج” بإقليم “الكوجرات” في غرب الهند، ولهذا الصنم وقفت عشرة آلاف قرية، وعنده ألف كاهن لطقوس العبادة وثلاثمائة رجل يحلقون رءوس ولحى زواره، وثلاثمائة رجل وخمسمائة امرأة يغنون ويرقصون على باب الصنم، وعندما اطلع “محمود” على كل هذه المعلومات عزم وتوكل على الله في غزوه وتحطيمه وفتح معبده ظنًا منه أن الهنود إذا رأوا تحطيم معبودهم وكذب أمره دخلوا في دين الإسلام وانتهت الوثنية من الهند.
خاض “محمود بن سبكتكين” العديد من المفاوز والمستنقعات وأعوزهم الماء حتى كادوا أن يهلكوا، فقام محمود ومن معه بالابتهال والاستغاثة بالله عز وجل، فبعث الله عز وجل لهم سحابة أمطرت عليهم الماء الوفير فشربوا وسقوا وقويت أبدانهم وقلوبهم على عدوهم، ووصلوا إلى بلدة “دبولواره” فاستولى عليها بعد أن ظن أهلها أن معبودهم “سومنات” سيمنعهم، ووصل “محمود” إلى مكان “سومنات” في منتصف ذي القعدة سنة 416 هجرية، فوجد أهلها على الأسوار يتفرجون على المسلمين واثقين أن معبودهم يقطع دابرهم ويهلكهم، ولكن هيهات هيهات لقوم أضل من البهائم، انقض محمود ومن معه على كفار الهند ومعبودهم “سومنات” ورأى الكفار ما لم يروه من قبل في القتال والشدة وعظم الخطب عليهم، وكان الكفار يتقدم الواحد منهم إلى “سومنات” فيسجد إليه ويعفر له خده ويعتنقه ويتضرع إليه ثم يخرج للقتال، فيقتل كالشاة الحمقاء، وهكذا حتى قتل المسلمون من الهنود خمسين ألفًا ففر باقي الهنود ودخل المسلمون المدينة وهنا حدث موقف لا يقل روعة ولا جلالًا عن مواقف محمود بن سبكتكين السابقة.
لله درك يا محمود!!
بعدما حقق الله لمحمود بن سبكتكين نصره المبين على كفار الهند وفتح “سومنات”، عزم محمود على هدم هذا الصنم الذي يعبد من دون الله عز وجل، فجاءه رؤساء الهنود وعرضوا عليه دفع أموال طائلة تقدر بالملايين، ومال أصحاب محمود وأمراء جيشه بالقبول وترك الصنم لتعويض الأموال الكثيرة التي أنفقت على تمويل الحملة، فبات “محمود” طوال ليلته يفكر ويستخير الله عز وجل، فلما أصبح قرر هدم الصنم “سومنات” وعدم قبول الأموال، وقال كلمته الشهيرة والتي تكتب بماء الذهب: “إني فكرت في الأمر الذي ذكر، فرأيت إذا نوديت يوم القيامة أين محمود الذي كسر الصنم؟ أحب إلي من أن يقال: أين محمود الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا؟” ولا نملك مع هذا الموقف العظيم إلا أن نقول للسلطان “محمود”: لله درك يا محمود!!.
والعجيب أن المسلمين بعدما كسروا صنم “سومنات” وجدوا بداخله كنوزًا هائلة من الياقوت والجواهر أضعاف أضعاف ما عرضه الهنود، فغنمه المسلمون وجمع الله عز وجل لهم فضيلة كسر الصنم وأفاء عليهم بأضعاف أضعاف ما تركوه، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: “من ترك شيئًا لله عز وجل عوضه الله بأفضل منه”.
شهيد على فراشه:
ظل محمود بن سبكتكين رافعًا لراية الجهاد في سبيل الله ليل نهار، لا يكل، ولا يمل، ولا يتعب، ولا يكاد يجلس على فراشه، طالبًا للشهادة من مظانها وفي كل موطن، وقد أنشأ دولة عظيمة شاسعة تضم إيران وما وراء النهر والشمال الهندي كله، وأخضع لسلطان الإسلام السند والبنجاب وحوض الجانج إلى حدود البنغال، ونشر الإسلام والعقيدة الصحيحة بتلك الربوع والسهول التي كانت مرتعًا للعقائد الضالة وأفكار الفلاسفة، وقد عزم “محمود” على أن ينقل عاصمته إلى إقليم “الكوجرات” لتدعيم الوجود الإسلامي بالهند ويا ليته فعل ذلك، ولكن رجاله عز عليهم مفارقة مواطنهم وديارهم فصرفوه عن هذه الفكرة، وظل السلطان “محمود بن سبكتكين” مجاهدًا غازيًا، أخذ على عاتقه نشر الإسلام في بلاد الهند والقضاء على الوثنية فيها وبلغت مساحة فتوحاته ما فتحه الفاروق عمر، وبلغت رايته الجهادية أماكن لم تبلغها راية قط، ولم تتل بها سورة ولا آية قط، وأقام شعائر الإسلام في أقصى ربوع الأرض.
ومع ذلك ورغم هذه الحياة الطويلة فوق ظهر الخيل ورفقة السلاح إلا أنه مات على فراشه بعدما أصابه داء البطن، ومكث عامين مريضًا، ولكن لا يضطجع، بل يتكئ على جنبه، ويحضر مجلس الحكم ليفصل بين الناس، ويسير شئون الدولة، حتى مات رحمه الله مبطونًا ولعلها تكون شهادة كما ورد ذلك في الحديث، تعوض هذا السلطان العظيم الذي فتح بلاد الهند وظل طوال حياته يطلب الشهادة كيما ينالها، وينصر الإسلام وينشره كيما يرضى عنه ربه، فسلام عليك يا أعظم سلاطين الإسلام!