المتابعة في العمل التربوي
بقلم – سالم أحمد البطاطي
إن العمل التربوي عمل ضخم كبير وضرورة لا تستغني عنه الأمة الإسلامية، ويكفي في بيان علو منزلة التربية وصف الله – سبحانه وتعالى- لنبيه – صلى الله عليه وسلم – بأنه مزكٍّ, للنفوس ومربٍ,ّ لها، فقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ, مٌّبِينٍ,} [الجمعة: 2]
وهذا العمل التربوي الكبير بحاجة دائماً إلى تقويم وتوجيه مستمر، حتى نتخلص بإذن الله من ضعف الإنتاجية في أعمالنا التربوية، وحتى نحصل بإذن الله على الثمار اليانعة من هذه الأعمال، وحتى لا تهدر الجهود والطاقات في غير طائل. ومن ينظر نظرة متعمقة في واقع العمل التربوي اليوم يجد أن ثمة ثغرات تتخلل هذا العمل الضخم الكبير، مما يتسبب في تأخيرٍ, في دفع عجلة هذه الصحوة المباركة إلى الأمام، ومن هذه الثغرات عدم ترسٌّخ مفهوم المتابعة وتطبيقه في الواقع لدى بعض العاملين في حقل الدعوة والتربية، فتسمع أن بعض الأعمال الدعوية والتربوية قد توقفت، ومن الأسباب ضعف المتابعة.. وتسمع عن تساقط بعض الشباب عن هذا الطريق، ومن الأسباب ضعف المتابعة، وتشعر بضعف إنتاجية وعمل بعض المحاضن التربوية، ومن الأسباب ضعف المتابعة.
ولعلنا في هذه الوريقات نلقي بعض الضوء حول هذا المفهوم التربوي المهم، وأنا مؤمن بأنها لن تفي هذا الموضوع الكبير حقه، ولكن هي إشارات عابرة وفتح باب للباحثين حول هذا المفهوم.
إن هناك مسوغات تدفعنا للحديث عن هذا الموضوع المهم، منها:
1 – أن التربية عملية مستمرة، لا يكفي فيها توجيه عابر من المربي مهما كان مخلصاً، ومهما كان صواباً في ذاته، إنما يحتاج إلى المتابعة والتوجيه المستمر.
2 – أن المتلقي نفسٌ بشرية وليس آلة تضغط على أزرارها مرة، ثم تتركها وتنصرف إلى غيرها، فتظل على ما تركتها عليه، بل هي نفس بشرية دائمة التقلب، متعددة المطالب، متعددة الاتجاهات، وكل تقلب، وكل مطلب، وكل اتجاه، في حاجة إلى توجيه.
فالعجينة البشرية عجينة عصيه تحتاج إلى متابعة دائماً.. وليس يكفي أن تضعها في قالبها المضبوط مرة فتنضبط إلى الأبد وتستقر هناك، بل هناك عشرات من الدوافع الموارة في تلك النفس دائمة البروز هنا، ودائمة التخطي لحدود القالب المضبوط من هنا ومن هناك.
3 – أن من صفات المربي الناجح المتابعة، والشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية ولو كان فيه كل جميل من الخصال.
4 – يواجه الشباب المسلم في هذا الزمان تياراً من الفتن والصوارف عن دين الله – عز وجل – : فتن الشبهات التي تشككه في دينه وعقيدته، وفتن الشهوات المحرمة التي تقوده إلى نارها ولأوائها.
فالعملية طردية كلما كثرت الفتن وانتشرت المنكرات عظم دور المتابعة، وكان الاهتمام بها آكد.. قال – صلى الله عليه وسلم -: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم: يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع نفسه بعرض من الدنيا».
5 – أننا مسؤولون عمن نربيهم يوم القيامة. قال – صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته»، وقال – صلى الله عليه وسلم -: «ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله يوم القيامة مغلولاً يده إلى عنقه، فكه بره، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة». وقال – صلى الله عليه وسلم -: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة».
6 – أن السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ اهتموا بهذه الصفة ـ صفة المتابعة ـ بل كانوا يحثون المربين عليها. يقول ابن جماعة – رحمه الله – : (إذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة زائداً عن العادة سأل عنه وعن أحواله وعمن يتعلق به، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه، أو قصد منزله بنفسه، وهو أفضل فإن كان مريضاً عاده، وإن كان في غم خفض عليه، وإن كان مسافراً تفقد أهله ومن تعلق به، وسأل عنهم وتعرض لحوائجهم وأوصله بما أمكن، وإن كان فيما يحتاج إليه فيه أعانه، وإن لم يكن شيء من ذلك تودد له ودعا له». ويقول الإمام النووي وهو ينصح المربي ويضع له واجبات منها: «وينبغي أن يتفقدهم أي الطلاب ويسأل عمن غاب منهم».
7 – أن صفة المتابعة من صفات الأنبياء – عليهم السلام – كما في قصة الهدهد وسليمان – عليه السلام -. قال – تعالى – : {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَو لأَذبَحَنَّهُ أَو لَيَأتِيَنِّي بِسُلطَانٍ, مٌّبِينٍ,} [النمل: 21]
يقول السعدي – رحمه الله – : «دل هذا على كمال عزمه وحزمه، وحسن تنظيمه لجنوده، وتدبيره بنفسه للأمور الصغار والكبار حتى إن لم يهمل هذا الأمر وهو تفقد الطيور، والنظر هل هي موجودة كلها أم مفقود منها شيء». ويقول أيضاً – رحمه الله – : «وإنما تفقد الطير لينظر الحاضر منها والغائب، ولزومها للمراكز والمواضع التي عينها لها». وهي أيضاً من صفات نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – كما سيأتي.
8 – أن المتابعة من أسس الإدارة وقواعد التخطيط ومما يعين على تحسين الإنتاجية. يقول صاحب كتاب (الإيجابية في حياة الدعاة) في قصة الهدهد وسليمان: «وبالطبع فإن تفقد الأمير للأتباع، وأخذه بالحزم ثم المحاسبة، وتبين العذر: كل ذلك من أسس الإدارة وقواعد التخطيط ومناهج التربية».
المتابعة منهج نبوي
لقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حريصاً على متابعة أصحابه وتفقدهم ومما يدل على ذلك ما يلي:
1 – متابعتهم في الأعمال الصالحة:
من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ما اجتمعن في أمرئ إلا دخل الجنة».
2 – متابعتهم في زمن الفتن والابتلاءات:
ومن ذلك مروره – صلى الله عليه وسلم – بآل ياسر وهم يعذبون وقوله لهم: «صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة».
3 – متابعتهم في مشكلاتهم الصحية وأمراضهم:
أ – عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ قال: «أصابني رمد، فعادني النبي – صلى الله عليه وسلم -. قال: فلما برئت خرجت. قال: فقال لي رسول الله: «أرأيت لو كانت عيناك لما بهما ما كنت صانعاً؟ » قلت: لو كانت عيناي بما بهما صبرت، واحتسبت.. قال: لو كانت عيناك بما بهما، ثم صبرت واحتسبت للقيت الله – عز وجل – ولا ذنب لك»، وهذا يدل على أن المتربي يفرح بمتابعة المربي له وبالاهتمام به والسؤال عنه.
ب – أخرج البخاري من حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: «مرضت مرضاً فأتاني النبي – صلى الله عليه وسلم – يعودني وأبو بكر وهما ماشيان، فوجداني أغمي عليَّ، فتوضأ النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم صب وضوءه عليَّ، فافقتº فإذا النبي – صلى الله عليه وسلم -».
ت – في يوم خيبر قال – صلى الله عليه وسلم -: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه».. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كلهم يرجو أن يُعطاها فقال: «أين علي بن أبي طالب؟ قيل: يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في عينيه ودعا له، فبرئ كأن لم يكن به وجع». وعن ابن أبي وقاص، فقال: «ادعوا إليَّ علياً، فأتي به أرمد». وعن طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: «فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أرمد».
ث – عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى.. ».
ج – عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: «اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي – صلى الله عليه وسلم – يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله، فقال: قد قضى؟ قالوا: لا، يا رسول الله! فبكى النبي – صلى الله عليه وسلم -. فلما رأى القوم بكاء النبي – صلى الله عليه وسلم – بكوا.. » رواه البخاري في كتاب الجنائز.
4 – متابعتهم في مشكلاتهم الاجتماعية والأسرية، ومن ذلك:
أ – سعيه – صلى الله عليه وسلم – في أمر جليبيب حتى زوَّجه.. وذلك كما في مسند الإمام أحمد عندما قال – صلى الله عليه وسلم – لرجل من الأنصار: زوِّجني ابنتك! فقال: نَعَم! وكرامة يا رسول الله! ونِعم عين! قال: إني لست أريدها لنفسي. قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لجليبيب».
ب – قصة جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام – رضي الله عنهما -، وقصته مشهورةº قال: تزوجت امرأة في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فلقيت النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا جابر! تزوجتَ؟ قلت: نعم! قال: بكر أم ثيِّب؟ قلت: ثيب، قال: فهلاَّ بكراً تلاعبها، قلت: يا رسول الله! وإن لي أخوات، فخشيت أن تدخل بيني وبينهن. قال: فذاك إذن! إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالهاº فعليك بذات الدين تَرِبَت يداك» .
ت – قصة عبد الله بن أبي حدرد، فقد حدث عن نفسه أنه تزوج امرأة فأتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستعينه في صداقها، فقال: كم أصدقت؟ قال: قلت: مائتي درهم! ثم أرسله – صلى الله عليه وسلم – في سرية فأصاب منها».
ث – حديث سهل بن سعد قال: جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يَقِل عندي. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله! هو في المسجد راقد. فجاءه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقهº وأصابه تراب، فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمسحه عنه، ويقول: قم أبا تراب! قم أبا تراب».
ج – عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعباس: يا عباس! ألا تعجب من حب مغيثٍ, بريرةَ، ومن بغض بريرة مغيثاً؟! فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: لو راجعتِهِ! قالت: يا رسول الله! أتأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع. قالت: فلا حاجة لي فيه.
5 – متابعته في مشكلاتهم الاقتصادية:
كما في قصة سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ عندما أتى للرسول – صلى الله عليه وسلم – بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي. فقال – صلى الله عليه وسلم -: «ما فعل الفارسي المكاتب؟ » قال: فدعيت له، فقال: خذ هذه فأدِّ بها ما عليك يا سلمان».
6 – متابعتهم في أفراحهم:
وذلك بإجابة دعوتهم في أفراحهم، ومن ذلك أن أبا أسيد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ دعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في عرسه فكانت امرأته خادمهم يومئذ وهي العروس».
7 – متابعتهم في أحزانهم ومواساتهم:
أخرج النسائي بإسناد حسن من طريق معاوية بن قرة عن أبيهº قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه، ففقده النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ما لي لا أرى فلاناً؟ قالوا: يا رسول الله! بُنيٌّه الذي رأيته هلك، فلقيه – صلى الله عليه وسلم -، فسأله عن بُنيه فأخبره أنه هلك. فعزاه عليه، ثم قال: يا فلان! أيما كان أحب إليك: أن تُمتَّعَ به عمرك، أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟ قال: يا نبي الله! بل يسبقني إلى الجنة فيفتحها لي لهو أحب إليَّ قال: فذلك لك».
8 – متابعتهم في الجهاد في سبيل الله، ومن ذلك:
أ – فقده – صلى الله عليه وسلم – لجليبيب في أحد المعاركº حيث سأل أصحابه: هل تفقدون أحداً؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً. قال: فاطلبوه. فوجدوه إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله! ها هو ذا جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه. فأتاه النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: قتل سبعة ثم قتلوه! هذا مني، وأنا منه ـ مرتين أو ثلاثة».
ب – قوله – صلى الله عليه وسلم – يوم مؤتة مخبراً بالوحي قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم».