الناس على دين ملوكهم أم كيفما تكونوا يولى عليكم؟
بقلم / آية عمر
تتردد عبارة “كيفما تكونوا يولى عليكم” بين الشعوب، خاصةً عند بعض الشعوب المنهزمة نفسيًا التي تجلد ذاتها نظرًا لفساد حكامها، بل وكثيرًا ما يرددها علماء ودعاة كنصيحة للأمة للانشغال بإصلاح أنفسهم؛ وكأن الحل الفعّال والمؤثر لصلاح حكامهم هو صلاح شعوبهم.
ويختلف الناس حول مقولة “الناس على دين ملوكها”، بل ونجد من ينسب مقولة “كيفما تكونوا يولى عليكم” إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويرويها كحديث عنه. لكن بالنظر إلى الوقائع التاريخية والعلاقة بين الحكام والشعوب أيهما أكثر تأثيرًا على الآخر؟ هل يتغير حال الحكام وينصلح الحكم والنظام عند إصلاح الشعوب؟ أم أن الشعوب تسير إثر ملوكها وتتبع من يحكمها؟
إذا نظرنا إلى التجارب التاريخية أي المقولتين أصح “الناس على دين ملوكها” أم “كيفما تكونوا يولى عليكم”؟ هنا نعرض بعض الأمثلة الواقعية، مع اختلاف المواقف والتأثير في كل تجربة.
فرعون
هذا الحاكم المستبد الظالم، استعبد قومه، وتجبر عليهم، قتل أطفالهم، واستحيا نساءهم، ثم نجد القرآن في آيات كثيرة يبين تبعية قومه له، وطاعتهم له، قال تعالى: “فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ”، وقال تعالى: “وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ”، وقوله: “يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ”.
بل حتى عندما أتاهم نبي الله موسى ليخرجهم من ذلك الذل والاستضعاف والهوان ويأمرهم بعبادة الله وحده، نجد أن القرآن يبين رضاهم بذلك المستبد الذي يحكمهم، حيث أن له القوة الظاهرة والملك والحكم، فلا يؤمنون لدعوة موسى كما بيّنت الآيات: “فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ “.
فهذه أكبر وأقوى دلالة على تبعية الشعوب لدين ملوكهم.
الحضارات القديمة
كانت الشعوب تابعة للحكام، يدينون بدينهم، ولا يعترفون بمن يخرج على حكامهم أو يخالفهم في العصور القديمة. فقد انتشرت الوثنية في أرجاء الإمبراطورية الرومانية تبعًا لدين الملوك والحكام في ذلك الوقت، ثم تولى الإمبراطورية حكامًا من المسيحيين، فاتبعت الشعوب ملوكها وانتشرت المسيحية، ثم انتشر الإسلام وفتحت البلدان فدخلت الشعوب في دين الله أفواجًا.
ونجد أن شعوبًا كاملة تغيرت ديانتها عندما حكمها المسلمون، وهناك مفارقة بين تجربتين لتأثر الشعوب بدين ملوكها فقد أسلم بعضٌ من أهل مصر حين فتحها عمرو بن العاص بعد أن كانت مسيحية وأهلها من المسيحيين تحت حكم الرومانيين، وبقي البعض الآخر على دينه. ونجد أن الأندلس وبعد انتشار الإسلام فيها بعد فتحها -وإن ظلّ المسلمون فيها على الإسلام خفية قرونًا بعد سقوطها- فحين حكمها غير المسلمين اختفت مظاهر الإسلام والمسلمون منها تدريجيًا حتى لم يعد للإسلام وجودًا في الأندلس “إسبانيا والبرتغال حاليا”.
وقد قال ابن تيمية وابن كثير إن الحاكم مؤثرٌ على شعبه، واستشهدوا على ذلك بحكم الوليد بن عبد الملك وانشغاله بالعمارة والمباني وتأثر شعبه بذلك فكان اهتمامهم بالبناء والعمارة، ثم اهتمام سليمان من بعده بالنساء، فكان الناس يتساءلون بينهم “كم لك من النساء والجواري” تأثرًا بحاكمهم، ثم فترة حكم عمر بن عبد العزيز وما عُرف من تقواه وتأثر الناس تحت إمرته بذلك.
وهكذا على مدار العصور والتجارب التاريخية، مهما تمسكت الشعوب بعقيدتها لفترة أو لقرون، فإن الغلبة دائمًا لمن يحكم، فيتبعهم العامة، ثم تتحول الشعوب بالكامل لتدين بدين ملوكها.
إذن فإن العبارة الأكثر واقعية هي: “الناس على دين ملوكهم” مثلما قالت العرب، أو “الناس أتباع من غلب”، وإن التجارب التاريخية تثبت تبعية الشعوب لحكامها، أو على أقل تقدير تأثرهم بدين ملوكهم.
ومن هنا ننتقل إلى النقطة الأهم عندنا كأصحاب عقيدة إسلامية، ولنا منهج ومرجع وهو الإسلام.
رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله
إن تجربة الإسلام وما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلًا واضحًا على أهمية الحاكم وتأثير الحكام على المحكومين، فلم يكتفِ رسول الله بالدعوة في مكة، ونجد أن دين الإسلام يؤسس لأهمية تكوين نظامًا حاكمًا مسلمًا يتولى قيادة الأمة.
وتأتي تحركات النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة شاملة، فلا تقتصر على الشعوب والأفراد لتكوين أمة مسلمة فحسب، بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج لدعوة زعماء القبائل حول مكة، ويقابل الوفود في مواسم الحج ويدعوا زعمائهم، إلى أن يهاجر إلى المدينة حاكمًا ليؤسس دولة مسلمة بنظام إسلامي، وعندما تبدأ دعوته خارج المدينة لم تكن الخطوة الأولى إرسال دعاة للشعوب، بل بعث الرسائل إلى كسرى وقيصر والنجاشي يدعوهم للإسلام.
ونجد من الصحابة ممن كانوا زعماء وسادة في القبائل تُسلم قبائلهم بدعوتهم لهم تأثرًا وأسوة بهم، ومن تلك التجارب:
الصحابي سعد بن معاذ
أسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه بدعوة مصعب بن عمير قبل الهجرة بعام. وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه سيد قومه ورئيسًا للأوس وزعيمًا لقبيلة بني عبد الأشهل، وقد كان مصعب بن عمير في المدينة داعيًا، فلما أتاه سعد ليمنعه من دعوة الناس، قال له مصعب: ” أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن لم ترضه كففنا عنك ما تكره”، فجلس سعد رضي الله عنه يستمع لمصعب حتى أسلم، ثم خرج لقومه فقال: ” إن كلام رجالكم ونساؤكم على حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله”، فأسلموا جميعًا.
الصحابي الطفيل بن عمرو الدوسي
كان الطفيل سيدًا في قومه، خرج رضي الله عنه إلى مكة في موسم الحج وكانت قريش قد حذرته من سماع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاهد ألا يسمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما سعه من أكاذيب قريش عن النبي وأن كلامه سحرًا، ولكن يأبى الله إلا أن يُسمعه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عند الكعبة يقول رضى الله عنه : “فقلت في نفسي : والله إن هذا للعجز والله إني امرؤ ثبت ما يخفى علي من الأمور حسنها ولا قبيحها والله لأستمعن منه فإن كان أمره رشداً أخذت منه وإن كان غير ذلك اجتنبته”، فاستمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم. وكان من قوله رضي الله عنه في دعوته لقومه “يا رسول الله إني أرجع إلى دوس وأنا فيهم مطاع وأنا داعيهم إلى الإسلام لعل الله أن يهديهم فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: “اللهم اجعل له آية تعينه على ما ينوي من الخير”. ومكث بين أظهرهم يدعوهم حتى روي عنه أنه أتى يوم الخندق ومعه من قبيلة دوس ثمانون أو تسعون.
هل يكفي صلاح الحكام دون الشعوب؟
إن كل تلك الأمثلة والوقائع تبرهن على تأثير الحكام على شعوبهم، وتبعية العوام أو تأثرهم بدين ملوكهم، وحتى في العصور الحديثة لا نجد أيًّا من الشعوب الذين يرددون “كيفما تكونوا يولى عليكم” أن صلاحهم أو إرادتهم انعكست على حكامهم.وإن بذل الجهد في إصلاح الشعوب مع تجاهل دور الحكام خطأ كبير، ونرى في واقعنا الحالي أن العمل على إصلاح الشعوب لم يعكس تغييرًا على الحكام أو الأنظمة.
وبالرغم من حقيقة تأثير الحكام على شعوبهم، ومع أهمية العمل على تولية أمور المسلمين حكامًا صالحين لينعكس ذلك على صلاح الأمة، فإنه أيضًا من الضروري عدم إهمال دور الشعوب في ذلك التغيير، فالعمل على تغيير نظام أو حاكم مع تهميش دور الشعوب أو عزلهم عن ذلك التغيير خطأ كبير، والصحيح أن يكون التحرك على شقين كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، بأن تكون الدعوة ونشر الوعي وتوضيح المنهج الصحيح للشعوب، والعمل معهم على التغيير.
ومن عظيم بيان القرآن أنه ورغم تجبر فرعون واستضعاف قومه جاءت دعوة موسى أولًا لفرعون فقال تعالى: “إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى”. لكن لم تقتصر دعوة موسى عليه السلام على فرعون، فدعا بني إسرائيل وأسلم معه السحرة.
وكذلك جاءت السنة النبوية بتأكيد أهمية صلاح الحكام لإصلاح الشعوب، ليكون منهج الدعاة إتباعا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الملوك والحكام وتأسيًّا بفعله في الدعوة، ولما ذُكر من أحاديث عن قول الحق عند السلطان، مع دعوة الناس كافة وتكوين مجتمعًا مسلمًا.