ولقِد منَّ الله على الناس بكثير من المباح الحلال يفند الرهبانية ، ولكن المؤمن له لذة كلما توجه إلى ربه بصفاء روح ، تتضاءل بجانبها لذة المباح ، فيهجر الكثير منه حذراً من كدر يعكر الصفاء الذي هو فيه .
جرب ذلك المؤمنون قديماً ، زمن العيش البسيط ، وجربه المؤمنون اليوم ، زمن المدنية المعقدة .
بل إن الصلاة في يوم هذه المدينة لأظهر في إضفائها السرور ، فبينما يطيل التعقيد على الإنسان حياته الحاضرة ، فيسأم ، ويمل ، و يضجر ، تختصرها الصلاة إلى بضع ساعات فحسب ، فيعيش في اطمئنان ، وراحة بال ، ولئن كان لنظرية آينشتاين في نسبية الوقت نصيب من الصحة ، فإن في الصلاة هذا النصيب ، كما يشرحه مصطفى صادق الرفاعي و يقول :
” يا لها حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات ، لتبقى الروح أبداً إما متصلة أو مهيأة لتتصل ، ولن يعجز أضعف الناس مع روح الدين أن يملك نفسه أنه متوجه بعدها إلى ربه ، فخاف أن يقِف بين يديه مخطئاً أو آثماً ، ثم هو إذا ملك نفسه إلى هذه الفريضة ذكر أن بعدها الفريضة الأخرى ، وأنها بضع ساعات كذلك، فلا يزال من عزيمة النفس و طهارتها في عمر على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير ، كأنه بجملته – مهما طال – عمل بضع ساعات ” 27
فطول الحياة نسبي .. هو طويل جداّ ، مخيف مظلم للجاهلي .. وهو قصير ، هين منير للمصلي .
وحياة الجاهلي ركود مستمر . و حياة المصلي حركة ، تِزيد صواباً ، أو تستدرك اعوجاجاً .
و إنها ( الله أكبر ) تِنهي هذا الركود ، و تؤسس الحركة ( الله أكبر ) .
بين ساعات و ساعات من اليوم ترسل الحياة في هذه الكلمة نداءها تهتف : ” أيها المؤمن : إن كنت أصبت في الساعات التي مضت ، فاجتهد للساعات التي تتلو . و إن كنت أخطأت فكِفِّر ، وامح ساعة بساعة ” 28
وأظهر حركة يولدها التكبير : حركة التمييز و الفرقان ، بين أولياء الرحمن و أولياء الشيطان .
فِإنك إن قِلت : { اهِدنا الصراط المستِقيم * صراط الذين أنعمت عليهِم غير المغِضوب عليهم ولا الِضالين }
استشعرت في كل ركعة طائفة من هذه الأصناف الثلاثة ، و تخصص كل ركعة لمن ظهر منهم في زمن واحد ، أو بلد واحد ، فتجول في ركعات يومك بلاد الإسلام أجمع ، وتستعِرض تاريخ الإسلام أجمع .
ففي ركعة تذكِر النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الأطهار رضي الله عنهم مثلاً لمن أنعم الله عليهم ، و تذكر أبا جهل ومسيلمة مثلاً للمغضوب عليهم والضالين .
وفي ركعة أخرى تذكر هوداً وصالحاً – عليهم السلام – مثلاً ممن أنعم الله عليهم ، وعاداً وثمود من الهالكين .
وفي ركعة أخرى تذكر الحسن البصري وابن سيرين و ابن المسيب ممن أنعم الله عليهم ، و أهل الردة ، و الجهم بن صفوان ، و الجعد بن درهم من المتخبطين .
وفي أخرى تذكر الإمام أحمد بن حنبل ورهطه من المحدثين الموفقين، وبشراً المريسي وابن دؤاد من الظالمين .
وفي أخرى تذكر ابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي من المصلحين ، وأصحاب وحدة الوجود والفناء الموهوم و الشطح والابتداع من المدلسين .
وفي أخرى تذكر الإمام البنا وعودة وسيد ، وثباتهم أمام الطغاة المتجبرين .
وبذلك تعِقِل صلاتك ، والمرء ليس له من صلاته إلا ما عِقِل منها ، و تجدد عهدك مع أجيال المؤمنين ، وتِنبذ المفسدين ، وتِلك هي حركة الإيمان ، فإن الإيمان الحق ما أخذ منك الولاء ، وتركك على المفاصلة .