تأليف: روبير جاكسون
ترجمه:الأستاذ / أنور الجندي –رحمه الله –
الحلقة الثالثة:
ثقافة حسن البنا:
ولم تكن هناك دعوة ولا نزعة ولا رسالة، مما عرف العالم في الشرق أو في الغرب، في القديم أو في الحديث.. لم يبحثها أو يقرأها أو يدرس أبطالها، وحظوظهم من النجاح أو الفشل، أو يحمل منها ما يصلح لتجاربه وأعماله. كان يقول كل شيء، ولا تحس أنه جرح أو أساء.. وكان يواجه النقد في ثوب الرواية أو المثل، وكان يضع الخطوط ويترك لأتباعه التفاصيل كان قديرا علي أن يحدث كلا بلغته وفي ميدانه وعلي طريقته وفي حدود هواه وعلي الوتر الذي يحس به، وعلي ( الجرح ) الذي يثيره.
ويعرف لغات الأزهريين والجامعيين والأطباء والمهندسين والصوفية وأهل السنة، ويعرف لهجات الأقاليم في الدلتا وفي الصحراء في مصر الوسطي والعليا وتقاليدها، بل إنه يعرف لهجات الجزارين والفتوات، وأهالي بعض أحياء القاهرة الذين تتمثل فيهم صفات معينة بارزة، وكان في أحاديثه إليهم يروي لهم من القصص ما يتفق مع ذوقهم وفنهم. بل كان يعرف لغة اللصوص وقاطعي الطريق والقتلة، وقد ألقي إليهم مرة حديثا، وهو يستمد موضوع حديثه، أثناء سياحته في الأقاليم وفي كل بلد، من مشاكلها ووقائعها وخلافاتها، ويربطه في لباقة مع دعوته ومعالمها الكبرى فيجيء كلامه عجبا.. يأخذ بالألباب. كان يقول للفلاحين في الريف: (عندنا زرعتان).. إحداهما سريعة النماء كالقثاء، والأخرى طويلة كالقطن.. لم يعتمد يوما علي الخطابة، ولا تهويشها ولا إثارة العواطف علي طريقة الصياح والهياج.. ولكنه يعتمد علي الحقائق، ويستثير العاطفة بإقناع العقل، ويلهب الروح بالمعني لا باللفظ، وبالهدوء لا بالثورة، وبالحجة لا (بالتهويش).
ويعد (الحديث) عند بعض الناس آيته الكبرى غير أنني علمت من بعض المتصلين به.. أنها آخر مواهبه فقد كانت أبلغ مواهبه القدرة علي الإقناع، وكسب (الفرد) بعد (الفرد) فيربطه به برباط لا ينفصم، فيراه صاحبه خاصا، وتقوم بينه وبين كل فرد يعرفه صداقة خاصة خالصة، يكون معها في بعض الأحيان مناجاة، وتنتقل بالتعرف علي شئون الوظيفة والعمل والأسرة والأطفال. وهذه أقوى مظاهر عظمته، فهو قد يكسب هؤلاء الأتباع فردا فردا، أصاب منابع أرواحهم هدفا هدفا، وإن لم يكسبها جملة ولا علي صفة جماعية وقد استطاع بحصافته وقوته وجبروته أن ينقلها من عقائدها وأفكارها سواء أكانت سياسية أو دينية، إلي مذهبه وفكرته.. فتنسي ذلك الماضي بل وتستغفر الله عنه، وتراه كأنما كان إثماً أو خطأ.
ومن أبرز أعمال هذا الرجل، أنه جعل حب الوطن جزءا من العاطفة الروحية فأعلي قدر الوطن وأعز قيمة الحرية، وجعل ما بين الغني والفقير حقا وليس إحساناً، وبين الرئيس والمرءوس صلة وتعاونا وليس سيادة وبين الحاكم والشعب مسئولية وليس تسلطاً. وتلك من توجيهات القرآن، غير أنه أعلنها هو علي صورة جديدة لم تكن واضحة من قبل.
السماحة والتقشف والتنظيم:
لم يكن الرجل القرآني، فيما علمت يسعي إلي فتنة، أو يؤمن بالطفرة.. ولكنه كان يريد أن يقيم مجتمعا صالحا قويا حر، وينشئ جيلا فيه كل خصائص الأصالة الشرقية… لقد ظهرت حركات إصلاحية كثيرة خلال هذا القرن.. في الهند ومصر والسودان وشمال إفريقيا.. وقد حدثت هزات لا بأس بها ولكنها لم تنتج آثارا إيجابية ثابتة… وقد جاء هذا نتيجة لعجز بعض المصلحين عن ضبط أعصابهم عند مواجهة الأحداث واندفاعهم إلى الحد الذي وصل بهم إلى مرتبة الجرح قبل أن يتم البناء، كما جاء أثراً من آثار عزوفهم عن الاتصال بالشعب وتكوين رأي عام مثقف. اختفت هذه الدعوات، وبقيت عبارات علي الألسن وكلمات في بطون الكتب، حتى قيض لها أن تبعث من جديد وأن تستوفي شرائطها ومعالمها.. وأن تأخذ فترة الحضانة الكافية لنضجها، وأفاد الرجل من تجارب من سبقوه، ومن تاريخ القادة والمفكرين والزعماء.. الذين حملوا لواء دعوة الإسلام، ولم يقنع بأن يكون مثلهم.. لكنه ذهب إلي آخر الشوط، فأراد أن يستمد من عمر وخالد وأبي بكر.. فأخذ أبي بكر السماحة، ومن عمر التقشف، ومن خالد عبقرية التنظيم.
نقد الحضارة الغربية:
وقد استطاع الرجل رغم كل ما دبر لوضع حد لدعوته أو حياته، أن يعمل وأن يضع في الأرض البذرة الجديدة، بذرة المصحف، البذرة التي لا تموت بعد أن ذوت شجرتها القديمة، ولم يمت الرجل إلا بعد أن ارتفعت الشجرة في الفضاء واستقرت. لقد حمل حسن البنا المصحف ووقف به في طريق رجال الفكر الحديث الذين كانوا يسخرون من ثلاث كلمات: ( شرق وإسلام وقرآن ) كان الرجل يريد أن يقول: “آن للشرق أن يمحص أفكار الغرب قبل أن يعتنقها بعد أن غدت الحضارة الغربية في نظر أصحابها لا توفي بما يطلب منها وكان يقول: علينا أن نزن هذه القيم وأن نعتقد أن ما عندنا لا يقل عما عند الغرب أو علي الأقل لا يستحق الإهمال، وأن علي الشرق أن ينشئ للدنيا حضارة جديدة، تكون أصلح من حضارة الغرب، قوامها امتزاج الروح بالمادة واتصال السماء بالأرض”، وما كان يتعرض لأمر من أمور الحضارة الغربية إلا رده إلي مصادره الأولي في الحضارة الإسلامية، أو في القرآن والسنة والتاريخ. كان الرجل القرآني يؤمن بأن الإسلام قوة نفسية قائمة في ضمير الشرق وأنها تستطيع أن تمده بالحيوية التي يُمَّكن له في الأرض، وتتيح له الزحف إلي قواعده واستخلاص حقوقه وحرياته. كان يؤمن بأن الشرق وحدة قائمة كاملة.
كان لا يخاف الموت:
استطاع حسن البنا أن يؤلف بين طائفة ضخمة من الأتباع بسحر حديثه، وجمال منطقة، وروعة بيانه فتنصرف هذه المجموعة الضخمة من حول الأحزاب والجماعات والفرق الصوفية، وتنضوي تحت لوائه وتطمئن له وتثق به. كان هذا مثار حسد الناس، ومثار حقد بعض ذوى الرأي، وكان خليقا بهم أن ينقسموا وأن يحسدوا هذا الرجل المتجرد، الفقير، علي أنه استطاع أن يجمع الناس إليه بوسائل غاية في البساطة واليسر وهي لباقة وحسن حديثه.
فيرفعهم فوق المطامع المادية التي يجتمع عليها الناس عادة.. وكان طبيعيا أن يتنكر له بعض الناس، وأن يذيعوا عنه بعض المرجفات فليس أشد وقعا في نفوسهم من أن يسلبهم أحد سلطانا كان لهم، وليس أبعد أثرًا في نفوسهم من أن يجيء رجل من صميم الشعب ليجمع الناس حوله باسم القرآن، ويقول لهم: “إن الله قد سوى بين الناس بالحق، وجعل فضيلتهم عنده علي أساس العمل والتقوى “، خيل إلي بعد أن انطوت حياة الرجل علي هذه الصورة العجيبة، وثار حولها ذلك الغبار الكثيف أن وقتا طويلا يجب أن يمر قبل أن يقول التاريخ الحق كلمته، ويروي المؤرخ النزيه قصته.
غير أن الظروف السياسية في مصر سرعان ما تغيرت وأمكن أن يكشف التحقيق في بعض القضايا بطلان كثير مما وصمت به دعوة الإخوان المسلمين من ادعاءات، وأن يبرأ جانب هذا الرجل بالذات فيبدو نقيا طاهرا. وكنت قد التقيت الرجل في القاهرة سنة( 1946م) ثم عدت إلي القاهرة مرة أخري سنة (1949م) بعد أن قضي، وحاولت أن أتصل ببعض الدوائر التي تعرفه فسمعت الكثير مما صدق نظرتي الأولي إليه. فقد علمت أنه كان في أيامه الأخيرة يحس بالموت وكان الكثير من محبيه ينصحه بالهجرة أو الفرار، أو اللياذ بتقية أو خفية، فكان يبتسم للذين يقصون عليه هذه القصة وينشد لهم شعرا قديما:
أيّ يوميّ من الموت أفرّ … يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه…. ومن المقدور لا ينجو الحذر
ومن المقدور لا ينجو الحذر، وكان لا يني لحظة عن محاولة استخلاص أنصاره من الأسر، وكان يبلغ به الأمر مبلغه، فيستيقظ في الليل، ويضع كلتا يديه علي أذنيه ويقول: ” إنني أسمع صياح الأطفال الذين غاب آباؤهم في المعتقلات”