“رحلة الإسراء”..دلالات الزمان والمكان والمآل
بقلم/ سكينة إبراهيم
تتعدد المداخل التي يمكننا أن ننظر بها إلي أية مناسبة أو ذكري هامة في التاريخ، ولكن تبقي المنظومة الإسلامية إطارا هاما في بناء هذا النظر؛ حيث تمده طوال الوقت بدلالات لا محدودة الزمان والمكان، يمكن إسقاطها علي أحوال الأمة وقضاياها الرئيسة في كل العصور..
وتحل علينا هذه الأيام ذكري “الإسراء والمعراج” في تلك المرحلة الحرجة من عمر الأمة بما تعانيه من آلام وتحديات جسام..
فيأتي المعني الأول كامنا في الرحلة ذاتها..والتي كانت لنبينا المصطفي “صلي الله عليه وسلم” أنسا له بعد طول مشقة، فكانت التسرية برحلة تخطت كافة الحدود، ليري منها ما يؤنس فؤداه ويربت علي همومه وآلامه..والحق أن كل منا وهو يحمل هم أمته ويعمل جاهدا في سبيل رفع لوائها لن يعدم من الله تعالي بعد اللجوء إليه ذلك الأنس وتلك الربتة، ويبقي الليل دوما موعدا لمثل تلك الأسفار المتخطية؛ وهي إشارة الزمن الكامنة في الإسراء؛ فقد جعل المولي تبارك وتعالي الليل سكنا من بعد كد وكدر، ففيه تحلو المناجاة، ويهرع إليه ذو الهم بأحماله وأثقاله، ويعود وقد غابت عنه وتبددت..
وبعد الرحلة وإشارة الزمان..تأتي إشارة المكان شديدة الوضوح لتؤكد علي قدسية كل من نقطة الانطلاق ومحطة الوصول، فكلاهما مسجدا بما يعنيه من منهجية الاتصال بالخالق عزوجل، و بما يدلل عليه من كون “التوحيد” هو المرتكز وهو قمة الرشد الإنساني، فالأمر ليس مجموعة شعائر أو قوانين تؤدي وفقط، بل هي رؤية جامعة للعالمين تضع أيدهم علي المبتدأ والختام، ففي كل منهما وصلا بالخالق وسيرا علي الطريق إليه..
وإذا بقي المسجد الحرام هو القبلة الأم الجامعة، فليكن المسجد الأقصي ويبقي محورا هاما في طريق الاستقرار علي تلك القبلة الواحدة، بما يعنيه ذلك من عدم إمكانية تجاوزه أو التخلي عنه، فهو ليس فقط من ناحية الترتيب ثالث حرم مقدس، ولكنه خطوة ومحطة رئيسة في صناعة القبلة الأبدية، باعتباره كان سابقا عليها، والتوجه له في تلك الرحلة المعجزة باختيار رباني لهو تشديد علي محورية هذا الوجود العقدي، ورمزية لاستلام راية الأمة الخاتمة للإسلام وأهله تحقيقا لتكليف الشهود الحضاري من هذا المكان الذي شهد أمما من قبلنا، ولا غرابة بعد ذلك أن تكون أغلب الحروب علي الأقصي ومحاولات احتلاله ذات صلة بالأمر العقدي بشكل مباشر بلا تحوير أو مداراة، رأينا ذلك في الصليبين سابقا وفي الصهاينة حاليا، ما يعني أننا لا نبالغ القول بأن الأقصي هو قبلة محاربة الأمة في عقيدتها وهويتها، والحرب عليه محاولة لنسخ مكانة الأمة ورايتها إلي ما كان قبلها من جاهلية وزيف وتعطيل لمهمة شهودها الحضاري، خاصة أن محاولة طمس معالم قدسيته في الذهن الجمعي المسلم لهي أيسر من فعل ذلك في الحرمين الأول والثاني، ومن ثم فالحفاظ علي الأقصي هو استنقاذ للعقيدة من محاولات طمسها أو تشويهها، وإلا بات الطريق مفتوحا أمام الاعتداء علي كل ما يعلوه قداسة أو حتي يدنوه..
ولا مراء أن نقول أن إمامة نبينا الكريم “صلي الله عليه وسلم” في تلك الرحلة المباركة إنما هي دلالة ليس فقط علي أن الإسلام قد بات هو الدين الخاتم، وإنما هي إيذان بالوحدة والإئتلاف في تراحم وإخاء، فكافة مشكلات الأمة وهمومها وآلامها وآمالها هي محط إهتمام كل مسلم مهما كان موقعه أو مكانه، فدماء أطفال سوريا تفجعنا، وجراح ميانمار تشيب الوليد الغض فينا، وأنين الأسري في كل بقعة أرض تؤرق مضجع كل حر بيننا، ونزيد علي ذلك أن هموم الإنسانية كلها تعنينا، فالإمامة تقتضي المسوؤلية والإسلام رحمة للعالمين وليس فقط للمسلمين، ومن ثم فالإنسانية كلها هَم المسلم، بما فيها من أهات وأنين وأفراح وأتراح..
وبعد..فإذا كانت كل تلك الإشارات الدلالية تحملها فقط مرحلة الإسراء، فماذا عن دلالات المعراج، وإسقاطه علي الواقع الذي تعيشه أمتنا حاليا، الحق أني تأملت في ذلك كثيرا، حتي استقر في وجداني أن جلال ما اطلع عليه النبي -صلي الله عليه وسلم- ليس فقط ذو دلالة جزئية تفصيلية لكل مشهد أو موقف، وإنما هناك بوصلة كلية من مجموع تلك المشاهد، فإذا عرفنا أن تلك الرحلة كانت من بعد حزن وألم احتمله قلب المصطفي -صلي الله عليه وسلم- واحتمل معه ما قد يطلبه منه المسلمون أنفسهم من استنزال النصر وسرعة استنقاذ الثكالي والمكلومين، بل والتعجب من بطء ذلك الفرج رغم ما يعتصر القلوب من محن وأوجاع في كل يوم، ومن ثم فقد جاءت الرحلة المعجزة كتسرية من نوع خاص، فهي التسرية بالإطلاع علي المآل، فقد وضح في المعراج كيف سيكون حساب البعض، وما هو المصير المنتظر، كما شاء الله تعالي أن يطلع نبيه الكريم-صلي الله عليه وسلم- علي شيء من عالم الغيب الذي آمن به وحدث عنه، وعليه فتحقق يقين المآل يكون معه الاحتمال أيسر بل ويحلو هذا الطريق ويعذب مهما كانت تحدياته أو معوقاته، فإذا كان النصر وعد من الله لأهل الحق، وإذا كان هناك يوم جامع يرد فيه الجميع ليري كل فرد أثر ما قدم وفعل، وإذا كانت الدنيا بما فيها ومن عليها، لا تساوي وسط هذا اليوم الخاتم وما بعده من حياة مخلدة إلا كطرفة العين أو أقل، ألا يكون كل هذا اليقين لمن آمن به بمثابة العدة والعتداد بطاقة لا تنفذ من الجلد والهمة والسعي مهما اشتد الكرب أو احتجب شمس الفرج بسحب أو غمام..!!
وفي ختام الرحلة كان “الصديق” هناك في الانتظار ليعلن للجميع أنه آمن وصدق بل وواسي ودافع وضحي وبذل؛..فليكن في قلب كل منا “صديقا” يؤمن بالغيب كمن رآه، ويثق في المآل كمن عاينه واقعا وحسا..