﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾
أنعم الله تعالى على عباده بمواسمٍ معينةٍ لزيادة الأعمال والطاعات والعبادات فيها، والتقرّب من الله تعالى، فتنال الأعمال فيها البركة ببركة الزمان التي حدثت فيه، ومن الأزمان التي كان يكثر فيها النبي – ﷺ – من العبادات والقربات، شهر شعبان، حيث روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: (لم يكنِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصومُ شهراً أكثرَ من شَعبانَ، فإنه كان يصومُ شعبانَ كلَّه)، فكان النبي -عليه الصلاة والسلام- حريصاً على الطاعة والعبادة رغم مغفرة الله له ما تقدّم وما تأخّر من ذنبه، كما كان الصحابة -رضي الله عنهم- يتافسون ويتسابقون في الطاعات والعبادات، ولا بدّ من المسلم الحرص على الاجتهاد في مواسم العبادات، والاجتهاد في شهر شعبان خاصةً، حيث إنّه يُعين على الاجتهاد في شهر رمضان، وفي ذلك يقول ابن رجب رحمه الله: (إِنَّ صِيَامَ شَعْبَانَ كَالتَّمْرِينِ عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ لِئَلاَّ يَدْخُلَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى مَشَقَّةِ وَكُلْفَةٍ، بَلْ قَدْ تَمَرَّنَ عَلَى الصِّيَامِ وَاعْتَادَهُ، وَوَجَدَ بِصِيَامِ شَعْبَانَ قَبْلَهُ حَلاَوَةَ الصِّيَامِ وَلَذَّتَهُ، فَيَدْخُلُ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَلَمَّا كَانَ شَعْبَانُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِرَمَضَانَ شُرِعَ فِيهِ مَا يُشْرَعُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الصِّيَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ لِيَحْصُلَ التَّأَهُّبُ لِتَلَقِّي رَمَضَانَ، وَتَرْتَاضُ النُّفُوسُ بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ).
وتخصيص الرسول ﷺ لشهر شعبان في الصيام مقرونٌ برفع الأعمال إلى الله، أي أنّ الأعمال ترفع إلى الله في شهر شعبان، بينما تُعرض كلّ اثنين وخميس من أيام الأسبوع، وتجدر الإشارة إلى أنّ رفع الأعمال إلى الله يكون على ثلاثة أنواعٍ؛ فيرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، كما ترفع إليه الأعمال يومي الاثنين والخميس، وترفع أيضاً في شهر شعبان بالخصوص، وممّا يدلّ على ذلك ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبي -عليه ﷺ – قال: (يتعاقبون فيكم: ملائكةٌ بالليلِ وملائكةٌ بالنَّهارِ، ويجتمِعون في صلاةِ العصرِ وصلاةِ الفجرِ)،ولأجل رفع الأعمال إلى الله في شهر شعبان أحبّ النبي أن يكون ذلك وهو صائم، فذلك أدعى لقبول الأعمال من الله تعالى، كما أنّه أحبّ إلى الله عزّ وجلّ.وتجدر الإشارة إلى أنّ لليلة النصف من شعبان مكانةٌ خاصةٌ، وفي ذلك قال النبي ﷺ: (يطَّلِعُ اللهُ إلى خَلقِه في ليلةِ النِّصفِ مِن شعبانَ فيغفِرُ لجميعِ خَلْقِه إلَّا لِمُشركٍ أو مُشاحِنٍ)،فالشحناء والبغضاء التي قد يستهين بها البعض من أسباب عدم اطلاع الله على العباد، إضافةً إلى أنّها من أسباب عدم قبول الصلاة والأعمال، فلا بدّ من الإخلاص والسلامة من الحقد والحسد والغش لقبول الأعمال.
ولقد حفل شهر شعبان بالعديد من الأحداث التاريخية المهمة المتعلّقة بالمسلمين، ففيه أمر الله تعالى المسلمين بالجهاد في سبيله، وأوجبه عليهم، وألزمهم به، كما حوّلت القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام في شهر شعبان، بعد أن صلّت جموع المسلمين إلى جهة بيت المقدس، وأحدث ذلك العديد من التساؤلات خاصّةً أنّ تحويل القبلة كان بعد الأمر بالجهاد،.ولذا كانت التربية بالأحداث للجيل القرآني الفريد لتكون قدوة للأمة المسلمة حتي تقوم الساعة ففي آية واحدة نجد قواعد التصور الإيماني الصحيح، وقواعد السلوك الإيماني الصحيح، وتحديد صفة الصادقين المتقين:
{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) البقرة}
ونحن نستعد لعبادات شهر رمضان نجد إنه ليس القصد من تحويل القبلة، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق، أن يولي الناس وجوهم قبل المشرق والمغرب.. نحو بيت المقدس أو نحو المسجد الحرام.. وليست غاية البر- وهو الخير جملة- هي تلك الشعائر الظاهرة. فهي في ذاتها- مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك- لا تحقق البر، ولا تنشئ الخير.. إنما البر تصور وشعور وأعمال وسلوك. تصور ينشئ أثره في ضمير الفرد والجماعة؛ وعمل ينشئ أثره في حياة الفرد والجماعة. ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب.. سواء في التوجه إلى القبلة هذه أم تلك؛ أو في التسليم من الصلاة يمينا وشمالًا، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر.
إن إقامة الصلاة: شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب. إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه، ظاهرًا وباطنًا جسمًا وعقلًا وروحًا. إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم. وليست مجرد توجه صوفي بالروح. فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة. إن الإسلام يعترف بالإنسان جسمًا وعقلًا وروحًا في كيان؛ ولا يفترض أن هناك تعارضًا بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح، لأن هذا الكبت ليس ضروريًا لانطلاق الروح. ومن ثم يجعل عبادته الكبرى.. الصلاة. مظهرًا لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعًا في ترابط واتساق. يجعلها قيامًا وركوعًا وسجودًا تحقيقًا لحركة الجسد، ويجعلها قراءة وتدبرًا وتفكيرًا في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل؛ ويجعلها توجها واستسلامًا لله تحقيقا لنشاط الروح.. كلها في آن.. وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة، وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة.. في كل ركعة وفي كل صلاة.
وإيتاء الزكاة؟.. إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها الله حقًا في أموال الأغنياء للفقراء، بحكم أنه هو صاحب المال، وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه، من شروطه إيتاء الزكاة. وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال- على حبه- لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق؛ مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة، وليست الزكاة بديلة منه.. وإنما الزكاة ضريبة مفروضة، والإنفاق تطوع طليق.. والبر لا يتم إلا بهذه وتلك. وكلتاهما من مقومات الإسلام. وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق، ولا تغني هي عن الإنفاق.
والوفاء بالعهد؟ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها، ويكررها القرآن كثيرًا؛ ويعدها آية الإيمان، وآية الآدمية وآية الإحسان. وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول. تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله. وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعًا قلقًا لا يركن إلى وعد، ولا يطمئن إلى عهد، ولا يثق بإنسان، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام.
والصبر في البأساء والضراء وحين البأس؟.. إنها تربية للنفوس وإعداد، كي لا تطير شعاعًا مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة، ولا تنهار جزعًا أمام الشدة. إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسرًا. إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله. ولابد لأمة تناط بها القوامة على البشرية، والعدل في الأرض والصلاح، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة. الصبر في البؤس والفقر. والصبر في المرض والضعف. والصبر في القلة والنقص. والصبر في الجهاد والحصار، والصبر على كل حال. كي تنهض بواجبها الضخم، وتؤدي دورها المرسوم، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال.
ويبرز السياق هذه الصفة.. صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.. يبرزها بإعطاء كلمة {الصابرين} وصفًا في العبارة يدل على الاختصاص. فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير: وأخص الصابرين.. وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر.. لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال- على حبه- وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد.. وهو مقام للصابرين عظيم، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله، يلفت الأنظار.وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد، وتكاليف النفس والمال، وتجعلها كلًا لا يتجزأ، ووحدة لا تنفصم.
وتضع على هذا كله عنوانًا واحدًا هو البر أو هو جماع الخير أو هو الإيمان كما ورد في بعض الأثر. والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادئ المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام. ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم:{أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}.أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم. صدقوا في إيمانهم واعتقادهم، وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة.
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (البقرة: من الآية 148) إنه سباق إلى الخيرات في شهر شعبان، الكل يسارع إلى مغفرةٍ الله ورحمته في هذا الشهر الكريم، الكل يفتح صفحة جديدة يكون أولها خير وطاعة مع رب العالمين، فلتبدأ هذه الصفحة في شعبان ثم تعلو في رمضان وتستمر طوال الأيام.