صناعة الأمل والعمل
د. علي بن عمر بادحدح
لا أحسب أن أحدًا يستطيع أن يتجاوز ما يمر بأمتنا من الأحداث دون أن يقف عندها ويطيل النظر فيها، ونحن نرى ونسمع كل يوم ما يفت في عضدنا، ويوهن من قوتنا، ويضعف من عزيمتنا، فعندما نرى كل أمتنا العربية -بما لها من عدد وعُدَّة، وسياسة واقتصاد، وطاقات وإمكانات- تجتمع لتعطيَ العدو الصهيوني المجرم فرصة لمزيد من إجرامه وعبثه بمقدساتنا وأعراضنا، وذلك بإقرار المفاوضات غير المباشرة مع الكيان الصهيوني، وقد رأينا في الأسبوع الماضي ما حل بالأقصى في صلاة الجمعة، وما سبق ذلك من ضم مسجد الخليل ومسجد بلال بن رباح إلى قائمة التراث اليهودي، وما زال العدوان مستمرًّا، وأمامَ كل هذا لا نسمعُ إلا أن هذا قد يفضي إلى توقف المفاوضات!!
إنني لا أقول هذا لترويج اليأس كما تفعل بعضُ وسائل الإعلام، إنما أردت لفت النظر إلى استغلال هذه الأحداث الكبيرة من أجل صناعة الأمل والعمل.
إننا نجد في كتاب الله صورة مكررة للعبرة والعظة يذكرها سائر أنبياء الله -عليهم السلام- في ظروف المحنة العصيبة والظلمة الشديدة:
– فهذا موسى بعد أن خرج مطارَدًا فقيرًا يرفع يديه قائلاً: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]؛ فتفتح الأبوابُ وتتيسر الأمور، فيتزوج ويعمل، ثم يكلل كل ذلك بالنبوة، ويخص بتكليم الله .
– وأيوب بعد أن أقعده المرض وانقطعت أسباب الشفاء من البشر {نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء: 83]، فجاءت النتيجة الفورية: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء: 84]، وجاء الفرج المتتابع بعد ذلك.
– وخاتم الأنبياء سيدنا محمد بعد سوء استقبال سفهاء الطائف يصلي ركعتين ثم يقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك). فساق الله له نفرًا من الجن فآمنوا به، وأنزل ملك الجبال ليكون تحت أمره، وبعدها بيسير كان الإسراء والمعراج.
وما هي إلا بضعُ أعوام حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، وعمَّ الإسلام أرض العرب في أقصر مدة.
ويوم الأحزاب حين اجتمعت شدة البرد والجوع والخوف، وكان الموقف العصيبُ كما قال سبحانه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11]؛ كان موقفُ المؤمنين: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
إنه ليس مع الإيمان يأس، وليس مع اليقين عجز، فإن حصل اليأس أو العجز فثمة خلل في الإيمان، وضعف في اليقين.
نحن أمة الإسلام والقرآن، أمةُ: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، فنحن الأعلون وإن ضعفنا من الناحية المادية.
نحن أمة اليقين بقول الحق I: {وَكَانَ حقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
نحن أمة الوعد الرباني: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51].
نحن أمة محمد المبشرِ بقول الحق في حديثه الصحيح: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلاًّ يذل الله به الكفر”.
نحن أمة (حطين) التي استعادت فلسطين دون أن يمر على احتلالها قرن من الزمان، نحن أمة (عين جالوت) التي انتصرت على المغول الذين أبادوا الأخضر واليابس حتى أيس بعضُ الناس من القدرة على مواجهتهم، فضلاً عن الانتصار عليهم.
ونحن اليوم أمة عبد القادر الجزائري الذي قاد التحرير ضد فرنسا، وطردها بعد 130 عامًا من الاحتلال.
نحن أمة عبد الكريم الخطابي الذي أخرج الفرنسيين والإسبان من المغرب.
نحن أمة عمر المختار الذي أخرج الإيطاليين من ليبيا.
نحن أمة عبد القادر الحسيني الذي جاهد الإنجليز واليهود في فلسطين، وغيرهم كثير.
نحن أمة أطفال الحجارة، وشباب الانتفاضة، ورجال المقاومة وأبطال الجهاد في فلسطين الذين علَّموا الدنيا كلها أن الإيمان واليقين لا يهزمهما شيء، مهما كانت القوى المدججة بالسلاح.
نحن أمة الإيمان والعبادة.
نحن أمة الشرف والسيادة.
نحن أمة الصبر واليقين.
نحن أمة النصر والتمكين.
نحن أمة الرسالة للعالمين.
نحن أمة الشهادة على الخلق أجمعين.
إن وعد الله صادق لا يتخلف إن صدقنا مع الله: {وَكَانَ حقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
فعلينا أن نقاوم الكسل والخمول في واقعنا؛ في العمل وفي العلم وفي الإنجاز! علينا أن نجود بوقتنا وجهدنا وفكرنا ومالنا لنصرة ديننا وأمتنا في أي ميدان من الميادين؛ خدمةً لمجتمعنا وأمتنا حتى نحدث تغييرًا في واقعنا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وعلينا أن نستعيد في قلوبنا قوة الإيمان واليقين والثقة بنصر الله، ولتكن أحاديثنا مع أبنائنا وطلابنا في مدارسنا وجامعاتنا فيما يؤهلهم ليكونوا رجالاً أبطالاً أصحاب همم عالية وعزائم قوية، ولنعلنها عالية: لا للكسل، نعم للأمل، لا للإحباط، نعم للجد والنشاط.
نسأل الله I أن يقوي الإيمان في قلوبنا، وأن يجعل أملنا في الله عظيمًا، وتوكلنا على الله صادقًا، وعملنا لوجهه خالصًا.
إ