صناعة رجال الدعوة
محمد حقي
كل حضارة إنسانية رجال عظماء ساهموا في بنائها وتحديد معالمها وصياغة منظومتها الثقافية وخارطتها القيمية، فالحضارة إنما هي تراكم أفكار رجال عباقرة، والتاريخ إنما هو تدوين لسيرة رجال عظماء، هم من صنعوه فخلدهم في صفحاته.
وصناعة الرجال من الصناعات الثقيلة والثمينة والصعبة، فمن السهل تشييد مصانع ومآثر وسدود وآلات معقدة الاستعمال، لكن من الصعب صناعة رجال عظماء، إنه بناء عقول نيرة متفتحة تصنع المعجزات والإنجازات والأحداث، عقول مستنيرة تساهم في تغيير مجرى التاريخ.
لكن المتأمل في عصرنا هذا، يدرك بسهولة مدى الأزمة الخانقة في مجال إعادة صناعة الرجال (النخبة) التي تصنع الأمجاد وتصون رسالة السلف، وتسطر في صفحات التاريخ بآثارها وبصماتها.
ومن المعلوم أن الإسلام ساهم في صناعة رجال صنعوا أمجاده وبطولاته الخالدة في التاريخ، رجال وصفهم الله عز وجل في القرآن بقوله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} إلى قوله تعالى {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}، فالصدق مع الله دم يجري في عروقهم وهواء يملأ صدورهم المضيئة بنور الله تعالى، وقوة الإيمان به والثقة في ما عنده من العطايا الجليلة، فهم رجال “يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله”، “سيماهم في وجوههم من أثر السجود”.
مثل هؤلاء الرجال هم من تحتاجهم الأمة اليوم لتشييد نهضتها من جديد، إنهم رجال الدعوة الذين يساهمون في نشر قيم الإسلام وتعاليمه السمحة، لأن صناعة رجال الدعوة وبناء القادة الربانيين إعجاز فريد في الإسلام، وقد أورد الحاكم في المستدرك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لأصحابه: تمنوا فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله وأتصدق وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدا وجوهرا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق ثم قال عمر تمنوا فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان.
“لا بد من صناعة الرجال الذين يقومون بالدعوة ويديرون دفتها، ويربون الرجال، ويملأون كل فراغ، وكل حركة أو دعوة أو مؤسسة مهما كانت قوية أو غنية في الرجال فإنها معرضة للخطر، وإنها لم تلبث أن ينقرض رجالها واحدا إثر آخر، وتفلس في يوم من الأيام من الرجال” [أبو الحسن الندوي: مذكرات سائح في العالم العربي] لأن “تكوين الدعاة يعني تكوين الأمة، فالأمة العظيمة ليست إلا صناعة حسنة لنفر من الرجال الموهوبين” [مع الله: محمد الغزالي]
والإسلام اليوم، في أمس الحاجة إلى من يؤمن بأفكاره ويتخلق بقيمه ويدافع عن أطروحاته ونظرياته وأحكامه ويصون رسالته، إنه في حاجة لمن يوصل الليل بالنهار في التفكير في هموم الأمة وآلامها ، ويبحث لها عن الحلول الشافية والأجوبة الكافية ، ويخلص الناس من معاناتهم مع مشاكل الحياة، في حاجة حقيقة إلى من يقف في ميدان الفتن ويتدافع مع الآخرين لكي يسمع صوت الحق في آذان من يريدون تحريف الدين القيم عن مساره وتشويه صورته وإفراغه من محتواه الحضاري، في حاجة لمن يحتضن أبناء المسلمين ويربيهم على الصلاح والإصلاح والكفاح والعطاء والإحسان في العمل.
هكذا يصنع رجال الدعوة
إن الإسلام في حاجة إلى رجال يمشون بثبات واستقامة على مسار الدعوة حتى النهاية، لأن الاستقامة قيمة عظيمة يمنحها الله تعالى للرجال المخلصين، لأن المخلص لا يعثر أبدا، قال عبد القادر الجيلاني: إنما يعثر من لم يخلص” وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فارقا بين طريق الله وطريق الهوى ” إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ..” [رواه البخاري]
وقد يصاب الداعية بمرض في فكره أو نفسه حيث يقوده هذا الفكر إلى الانحراف عن الجادة ويعظم نفسه ويمنحها أكبر من حجمها الطبيعي، أو أن يصاب بجنون العظمة فيخيل إليه من حمقه أنه رجل عظيم قادر على تغيير مجرى التاريخ، ثم تنتهي هذه الأصناف بالسقوط، وما يتبع السقوط إلا تكسر الأضلاع، وخسران روابط الثقة والأخوة في لله تعالى، والدخول في سراديب الدنيا المظلمة، وفساد الأخلاق والنيات.
لذلك ينبغي صناعة الرجال وتربيتهم على الصدق والأمانة والوفاء والاستقامة على الصراط المستقيم والمنهج القويم، وتحصين نفوسهم وأفكارهم وقلوبهم من الشبهات الهدامة والشهوات المحبطة والخطرات الشيطانية التي تفشل قوة ارتباط المؤمن باعتقاده ويقينه في ما عند الله تعالى وفتوره عن أداء واجباته والتزاماته الدينية والدنيوية.