طاقات تفجرها العقبات
شاءت إرادة الله أن تكون الحياة الدنيا مليئةً بالشدائد والمحن والابتلاءات، وطبيعة البشر فيها أن يتعرضوا لصور شتَّى ما بين أن يخفق لهم عمل، أو يخيب لهم أمل، أو يموت لهم حبيب، أو يمرض لهم بدن، أو يفقد لهم مال.. هذه هي سنة الله في الحياة وفي الناس كافة.. (وَلنبلونكم َلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة:155).
أما أصحاب الدعوات فلهم إضافة إلى سنَّة الحياة العامة سنةٌ أخرى، وهي أن يكونوا أشدَّ تعرُّضًا لنكبات الحياة الدنيا وويلاتها، ففي دعوتهم إلى الله لا بد وأن يحاربهم دعاةُ الطاغوت، وفي مناداتهم بالحق لا بدَّ وأن يقاوموا من أنصار الباطل، وفي دعوتهم للخير لا بد وأن يعاديهم أنصار الشر، وفي أمرهم بالمعروف لا بد وأن يخاصمهم أهل المنكر، وبهذا يحيا الدعاةُ في دوامةٍ من المحن وسلسلةٍ من المؤامرات والفتن.
والداعية الحق يعلم أن طريقه قد تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار فيه الخليل ابراهيم، وتعرَّض للذبح إسماعيل، وبِيْع الكريم ابن الكريم يوسف بثمن بخس وسُجن، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وأُوذي وحبس وطورد وحورب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم..، فيطيب نفسًا ببذل الروح عند الضرورة، ويضحِّي بمصلحته في سبيل مصلحة الدعوة، ويرضَى بشظف العيش والحرمان إذا كان فيه انتصار للحق، ويستمرئ المرَّ، ويستعذب العذاب إذا كان على الطريق، ويرحب بالموت الزؤام في سبيل ما يؤمن به.
ومن دقة الفهم عند الإمام البنا أن جعل البلاء الشديد بدايةَ طريق أصحاب الدعوات: (أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولةً عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميَها وأهدافها ستَلقَون منهم خصومةٌ شديدةٌ وعداوةٌ قاسيةٌ، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقَّات، وستعترضكم كثيرٌ من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات..).
والداعية الحق يدرك أن العقبات تسير وفق قدر معلوم وقضاء مرسوم وحكمة إلهية.. (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيْبَةٍ فِي الأَرضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَنْ نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22، ويدرك
أن العقبات تأتي بلطف من الله، وأن الله يقدر البلاء ويلطف، ويبتلي العبد ويخفف، وهذا ما جعل يوسف يقول بعد صنوف البلاء التي تعرَّض لها (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف:100)، وهذا ما دفع أحد السلف أن يقول: “ما أُصبت في دنياي بمصيبة إلا ورأيت لله فيها ثلاثَ نعم: أنها لم تكن في ديني، وأنها لم تكن أكبر منها، وأنني أرجو ثواب الله عليها”.
والدعاة إلى الله يدركون أن العقبات تجارب نافعة لدينهم، ودروس قيمة لهم في حياتهم، ومحاضن للتربية تنضج من خلالها نفوسهم، ويصقل إيمانهم، ويذهب صدأُ قلوبهم، ومن هنا تتحوَّل العقبات من أمر سلبي في الحياة الدنيا إلى تفاعل إيجابي واستنهاض للهِمَم، وتفجير للطاقات.
ولقد فجَّرت المحن والابتلاءات والعقبات كل الطاقات الكامنة في النفس البشرية عبر التاريخ كله، والقرآن حفَل لنَا بنماذج استطاعت العقبات أن تعبر بهم من الوقوع في مستنقع النظرة السلبية للمحن أو الانعزال والانطواء، إلى المجال الرَّحب للاستفادة من الابتلاء في استخراج ما في النفس من هِمَم وعزائم وطاقات وإبداعات، ورأينا كيف أن التضييق على الأنبياء الثلاثة في دعوتهم لقومهم جعَل مؤمن يس يتحرك ويتوثَّب وينطلق (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمدِيْنَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِيْنَ) (يس:20).
ورأينا كيف أن صدود فرعون وزبانيته عن دعوة موسى وهارون جعل الرجل الصامت والكاتم لإيمانه يفجِّر ما لديه من طاقات وينطلق داعيًا ومبلغًا وناصحًا للقوم، وناصرًا لنبيه ولدينه ولرسالته.. (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يَكْتُمُ إِيْمَانَهُ أَتَقتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ..)؟! (غافر: 28 )،
وكيف أن جبروت فرعون وتهديده بالبطش بمن آمن من السحرة قد فجَّر فيهم ينابيع الإيمان (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طه:72).
وعلى هذا الدرب جاءت التربية القرآنية للصحابة الكرام في قلب المحنة المكيَّة ووسط الاضطهاد والتعذيب والتشريد، فتتنزل الآيات (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص:5)،
ووسط مناخ البلاء الذي أصاب المسلمين يوم أحد (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139)، وعند التردد
والمحن والابتلاءات تفجِّر طاقات عدة لم يكن لها أن ترى النور إلا عند معايشة البلاء وخوض التمحيص الرباني، ومن صور ذلك:
1- الصبر الجميل
فقد ضرب لنا القرآن مثلاً على قمة الصبر الجميل في شخص نبي الله يعقوب، والابتلاءات تتوالى عليه واحدةً تلو الأخرى (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18 )، وعلى أثره رأينا المحن تفجِّر براكين من الصبر الجميل كانت مكنونةً في النفوس، وما كان لنا أن نعرفها إلا من خلال المحن التي تنزَّلت على رجال الدعوة، فكان الصبر الجميل من أسر المعتقلين وذويهم وعدم خضوعهم للضغوط الأمنية عبر عصور المحن المتتالية، وتحملهم لمشاق الحياة وضيق العيش وغياب ربِّ البيت، وحسن تربية الأولاد.
فكان صبرًا جميلاً يفوق الوصف، حتى رأينا الزوجة الصابرة المحتسبة التي تخاطب زوجها المعتقل بعدما قال لها أنت حرة، فقالت له أتريد أن تأخذ الأجر وحدك.. ولا تريد أن نشارك معك في التضحية، ورأينا الأم الصابرة المحتسبة التي تكتب لولدها المعتقل حينما سمعت بفتنة التأييد فقالت له: لست أمًّا لك إذا كتبت، ورأينا الذرية الصابرة المحتسبة التي تخرج لتحمل ميراث أبيها الدعوي وتواصل المسير من خلفه، والنماذج أكثر من أن تُحصى أو تعد.
2- الثبات العجيب
رأيناه في ثبات أصحاب الأخدود، وبخاصة الرضيع بين يدي أمه، والسحرة بين يدي فرعون، ورأينا صور الثبات في العصر الحديث للآلاف من الإخوان الذين سِيقوا إلى محاكم التفتيش الحديثة ومعتقلات الأنظمة الحالية ثباتًا فاق الوصف، ثباتًا أمام فتنة الغربة عن الأهل وثباتًا أمام فتنة الخوف على الذرية، وثباتًا أمام فتنة الحبس والاعتقال، وثباتًا أمام فتنة التعذيب الشديد، وثباتًا أمام فتنة الإغراءات وفتنة التأييد للنظم مقابل الإفراج عنهم، وغيرها من الفتن التي تلاحقت عليهم، إنه قمة الثبات على المبدأ، والوفاء الثابت الذي لا يعدو عليه تلوُّن ولا غدر.
3- النفس المطمئنة
فقد تقبلت النفوس المحن والابتلاءات بنفس راضية بقضاء الله وقدره، بلا جزَع ولا وجَل، وتأقلم الإخوان مع معتقلاتهم، وقلبوها إلى ساحات تربية وتأهيل تربوي وإعداد نفسي، فكانت المدارسات الشرعية، وكان حفظ القرآن، وكانت الدراسات والبحوث والشهادات العلمية العديدة في قلب السجون والمعتقلات، في تفجير للطاقات واستغلال للإمكانات المكنونة داخل النفس، فكانت المعتقلات مخيَّمات تربوية على مدار العام ينهل منها الإخوان كل ما يعينهم على طريق الدعوة، وكم من الإخوة حفظوا القرآن؟! وكم منهم نالوا الشهادات الدراسية؟! وكم وكم من الأعمال الإيجابية داخل المعتقل؟! إضافة إلى التوريث الدعوي ونقل الخبرات بين الإخوان.
4- الأمل الواسع
ففي قلب المحن يتولد الأمل في النفوس، ورَبَّى الصحابةَ على ذلك الحبيبُ المصطفى؛ حيث كان يزرع الأمل في النفوس وسط ظلمات الفتن والابتلاءات، فيبزغ نور الأمل وفجره، كما حدث حينما جاءه خباب بن الأرتِّ قائلاً: “ألا تدعو لنا .. ألا تستنصر لنا ؟! فيأتي جواب الحبيب: “والله ليتمَّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه”، وكما حدث في يوم الخندق حينما اجتمعت القبائل على المسلمين، إضافة إلى خيانة يهود المدينة، ويصور القرآن الحالة (وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا) (الأحزاب:11،10) فيخاطبهم الرسول بلغة الأمل وهو يحطم الصخرة: “الله أكبر.. رأيت قصور الشام وقصور صنعاء”، علامةً على الأمل الواسع الذي يَبرز واضحًا في قلب المحن.
وهكذا كانت المحن تغرس الأمل في النفوس بأكثر ما يكون في حال اليسر.
5- استنفاد الجهد المدخر
ومن فضل المحن على أصحابها أنها تجعلهم يستخرجون كل ما لديهم من جهد وطاقة في سبيل الله، ولقد رأينا مصعب بن عمير وأنس بن النضر يوم أُحد حينما سمِعَا بإشاعة قَتل الرسول، فكان جوابهم: “إذًا فقوموا وموتوا على مات عليه”، في استنفار لكل طاقة مكبوتة في النفس، وهكذا هم الدعاة في كل عصر، حينما تشتد المحن، يتزايد الجهد المبذول لسدِّ الخلل الذي أحدثه الابتلاء في الدعوة، فكان الأخ يعمل ما كان يقوم به أكثر من شخص ويفجِّر طاقات نفسه ليعوض الدعوة عما فقدت بتغييب رموزها خلف القضبان.
6- الانطلاقة الرحبة
حينما اشتدت المحن على المسلمين في العهد المكي كان ولا بد من انطلاقة واسعة تفتح آفاق جديدة للدعوة غير مكة، فكانت الهجرة إلى الحبشة، وكانت القوافل المؤمنة التي حملت الإسلام إلى قبائلها (غفار- أسلم- دوس- يثرب… إلخ)؛ مما فتح للدعوة الساحة للعمل خارج حدود البلاء المفروض عليها، وهكذا كانت الدعوة حديثًا حينما ضُيِّق على رجالها فانطلقوا وانساحوا في مشارق الأرض ومغاربها يفتحونها للدعوة ويُنشئون المراكز الإسلامية، ويؤسسون للدعوة ويورِّثونها لأجيال لم تكن تَسمع عنها من قبل، فكانت المحنة دافعًا على الانطلاقة الواسعة التي تحقَّقت للدعوة العالمية.
وهناك الكثير والكثير من الطاقات والإمكانات التي تفجِّرها المحن كلما جاءت وتعرَّض لها أبناء الدعوة، وهذا هو التفاعل الإيجابي مع العقبات والابتلاءات، بدلاً من الجلوس والبكاء على الحال الذي آلت إليه الدعوة ورجالها، فالداعية رجل إيجابي ومنطلق ومتفاعل ولا يعرف اليأسُ طريقًا إلى قلبه، ولا تحده حدود، ولا تحكمه محن وفتن، ولا توجهه الأحداث، بل هو الموجِّه وهو المتحكم والمتفاعل والمؤثر والمنطلق، وهكذا يجب أن نكون.. والمعين على تحقيق هذه الحالة النفسية الإيجابية حال المحن أمران:
أ- إيمان يقوي صلتهم بربهم، يُشعرهم بأن الله معهم، يُعينهم ويرشدهم ويَنصرهم ويؤيدهم، ويمدهم إذا تخلى الناس عنهم، ويدفع عنهم إذا أعوزهم النصير، وهو معهم أينما كانوا، إنه الإيمان الذي ينير الطريق لأصحابه، ويحمي الصف من الأعرض التي تعترض طريقهم، ويثبتهم على المبدأ الذي يحملونه.
ب- أخوة تعين على نوائب الدهر، وتسدد الخطوات على الطريق، وتربط على القلوب، وتأخذ بيد المتعثر وترده إلى الجادة، أخوة تجعل الأخ يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، وهذه تتطلب صفات أساسية في رجال الدعوة (إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره).
ونختم بتشبيه للمحنة والنكبة ما أروعه، قاله الرافعي رحمه الله: “ما أشبه النكبة بالبيضة، تُحسب سجنًا لما فيها وهي تحوطه، وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة والرضا إلى غاية، ثم تنقف البيضة فيخرج خلقٌ آخر، وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته، عمله أن يتكون فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل”.