إن حال الناس مع الدنيا – بدون الإيمان – كحال الأطفال مع لِعَبهم، ولكي يزهدوا فيها لابد من نمو الإيمان في قلوبهم.
فعندما يقوى الإيمان في القلب يقل تعلق صاحبه بالدنيا، ورغبته فيها، وحرصه عليها.
.. نعم، هو لن يتركها ببدنه بل يتركها بقلبه، فالزهد حالة شُعورية يعيشها المرء كانعكاس لنمو الإيمان الحقيقي في قلبه، وهو لا يستلزم الفقر، ولا يتنافي مع الغنى.
.. الزاهد في الدنيا لا ينشغل بها كثيرًا إذا ما وُجدت بين يديه، فعلى سبيل المثال: قد يتوفر لديه العديد من الملابس، فإذا ما أراد الخروج من منزله فإنه لا يقف أمامها طويلًا إنما يرتدي ما امتدت إليه يده، وهو حين يفعل ذلك يفعله بتلقائية تعكس حالة قلبه الإيمانية.
وكلما قوى الإيمان أكثر وأكثر ازداد تعلق صاحبه بالآخرة ورغبته فيها، وازداد زهده في الدنيا بصورة أشد وأشد لدرجة أنه لا يترك لنفسه إلا أقل القليل منها وبما يُحقق له ضروريات الحياة، وليس هذا بسبب معارضته لمبدأ التمتع بمُباحات الدنيا، ولكن لأن إيمانه يأبى عليه ذلك ويدفعه لاستثمار كل ما يأتيه في حياته لداره الآخرة متمثلًا قول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾ [القصص/77]، لذلك فهو يحتاج دومًا إلى من يذكره بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص/77].
وكيف لا، وإيمانه يأبي عليه أن يتوسع في هذا النصيب.
وبهذه المستويات الإيمانية تعامل الصحابة – رضوان الله عليهم – مع الدنيا فكانت منهم أحوال عجيبة يستغرب منها أمثالي من ضعاف الإيمان الذين لا يزالون في مرحلة الطفولة واللهو بطين الأرض.
فهذا أبو الدرداء نزل به جماعة من الأضياف في ليلة شديدة البرد فأرسل إليهم طعامًا ساخنًا، ولم يبعث إليهم بالأغطية فلما هموا بالنوم جعلوا يتشاورون في أمر اللُّحف، فقال واحد منهم: أنا أذهب إليه وأكلمه، فمضى حتى وقف على باب حجرته فرآه قد اضطجع وما عليه إلا ثوب خفيف لا يقي من حر ولا يَصُون من برد، فقال الرجل لأبي الدرداء: ما أراك بت إلا كما نبيت نحن!! أين متاعكم؟! فقال: لنا دار هناك نُرسل إليها تباعًا كل ما نحصل عليه من متاع ولو كنا قد استبقينا في هذه الدار شيئًا منه لبعثنا به إليكم، ثم إن في طريقنا الذي سنسلكه إلى تلك الدار عقبة كؤود المُخِفّ فيها خير من المُثقِل، فأردنا أن نتخفف من أثقالنا علَّنا نجتاز.
وكان طلحة بن عبيد الله تاجرًا فجاءه ذات يوم مال من « حضرموت » مقداره سبعمائة ألف درهم، فبات ليلته جزعًا محزونًا.
فدخلتْ عليه زوجته أم كلثوم، وقالت: ما بك يا أبا محمد ؟!! لعله رابك منَّا شيء !!
فقال: لا، ولنِعْمَ حليلة الرجل المسلم أنت، ولكن تفكرت منذ الليلة وقلت: ما ظن رجل بربه إذا كان ينام وفي بيته هذا المال؟! قالت: وما يغمك منه؟! أين أنت من المحتاجين من قومك وأخلَّائك؟! فإذا أصبحت فقسمه بينهم، فقال: رحمك الله، إنك موفقة بنت موفق، فلما أصبح جعل المال في صُرَرٍ وجِفَان، وقسمه بين فقراء المهاجرين والأنصار.
.. وفي يوم من الأيام دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعض ممن يثق بهم من أهل « حِمص »، فقال لهم: اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسُدّ حاجاتهم، فرفعوا إليه كتابًا فإذا فيه فلان وفلان، وسعيد بن عامر، فقال: ومن سعيد بن عامر؟! فقالوا: أميرنا.
قال: أميركم فقير؟!
قالوا: نعم، ووالله إنه لتمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار، فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صُرَّة وقال: اقرؤوا عليه السلام مني، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك.
جاء الوفد لسعيد بالصُرَّة فنظر إليها فإذا هي دنانير، فجعل يُبعدها عنه ويقول: « إنا لله وإنا إليه راجعون» فهبَّت زوجته مذعورة وقالت: ما شأنك يا سعيد ؟! أمات أمير المؤمنين؟!
قال: بل أعظم من ذلك.
قالت: أأُصيب المسلمون في واقعة ؟!
قال: بل أعظم من ذلك.
قالت: وما أعظم من ذلك ؟!
قال: دخَلتْ عليَّ الدنيا لتُفسد آخرتي، ودخَلتْ الفتنة في بيتي.
فقالت: تخلَّص منها، قال: أوتُعِينيني على ذلك؟
قالت: نعم. فأخذ الدنانير فجعلها في صُرَرٍ ثم وزعها.
.. وهذا خباب بن الأرت يدخل عليه بعض أصحابه وهو في مرض الموت فيقول لهم: إن في هذا المكان ثمانين ألف درهم، والله ما شدَدْتُ عليها رباطًا قط، ولا منعت منها سائلًا قط، ثم بكى، فقالوا: ما يبكيك؟! فقال أبكي لأن أصحابي مضوا ولم ينالوا من أجورهم في هذه الدنيا شيئًا، وإني بقيت فنلت من هذا المال ما أخاف أن يكون ثوابًا لتلك الأعمال.
.. وهذا سعد ابن أبي وقاص يذهب إلى سلمان الفارسي يعوده فرآه يبكي، فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس..؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين، ما أبكي ضَنًّا على الدنيا، ولا كراهية في الآخرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه عهد إلينا عهدًا ما أراني إلا قد تعدَّيت، قال: وما عَهِد إليك ؟ قال: عَهِد إلينا أنه يكفي أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعدَّيت… فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهما.