فى بيتنا مكار
بقلم د: اسامه يحيى ابو سلامه
إن ما يظهر من سلوكيات أطفالنا يخفى تحته جزءًا مهماً مستتراً قد يكون كبقية جبل الجليد الهائلة الحجم الكامنة تحت الماء، والتى لا تظهر للعيان.
إن السلوك الإنسانى هادف وأن الإنسان يتحرك نحو أهدافه المتعددة مدفوعاً بحاجات يريد إشباعها، فلا يرتاح أو يسكن حتى يحققها.
إننا عندما نركز على دوافع السلوك وجذوره عند تعاملنا مع أبنائنا فإننا سنتعرف على ماهية تلك الحاجات التى يسعى الطفل إلى إشباعها، كما سيسهل علينا التخطيط لإشباع تلك الحاجة بطريقة إيجابية، فلا نُلجىء الأبناء إلى الإلتفاف حولنا لإشباع تلك الحاجة بطرق ملتوية، أو بسلوكيات سلبية.
إن توفرت للطفل وسائل سليمة لإشباع حاجاته كانت النتيجة إستقراراً للطفل وللبيئة، أما إذا لم يتم إشباعها وأُهملت فإن الفرد لن يسكت وسيقوم بأنشطة غير مشروعة للإستجابة لدافعية حاجته وإشباعها.
فحاجة الطفل إلى المحبة والانتماء على سبيل المثال إذا لم تشبع بطريقة سليمة، ستجعله يكثر البكاء والعويل، أو يأتى ببعض السلوكيات السخيفة، كل ذلك للحصول على جرعته المستحقة من انتباه من يريد انتباههم والانتماء اليهم، وربما طور الطفل الأمر عندما تثبت له أن تلك السلوكيات الملتوية آتت أكلها، ونجحت فى تزويده بما يحتاج إليه من اهتمام وانتباه، ويلاحظ هنا أن الطفل سيضع فى الحسبان أن جرعة الإهتمام والانتباه تلك ستكون مصحوبة ببعض الكدر، كصراخ الكبار وتأنيبهم وربما عقابهم، أو حتى ضربهم له، لكن إلحاح الحاجه سيجعله ينسى كل ذلك ويتجاوزه فى سبيل إشباعها
تجبر البيئة الأسريه الطفل على سلوك بعض الطرق الملتوية لإشباع حاجاته، وذلك بسبب عدم تيسير إشباعه لحاجاته بالطرق السوية
الأطفال قد يرفعون لافتة: “أنا مزعج.. إذن أنا موجود”
فى هذه الرحلة الطويله سيجرب الفرد الإنسانى كل شىء ليكون شيئاً مذكورا، وفى البدايات سيعرف أن البكاء والصياح خير وسيلة للفت انتباه الوالدة وجلبها إليه حتى ينال حاجاته
سيعرف الطفل عند إهماله أنه فى حاجة الى اختيارات جديدة غير البكاء والعويل، وسيبدأ عقله الصغير بالتفنن والابداع لإنتاج وسائل جديدة، للخروج من مأزق الإهمال، حتى يصل إلى أن يكون شيئاً مذكورا
وقد تكون تلك الوسائل الجديدة المبتكرة مريحة للوالدين، كأن يطور الطفل مهارات الحوار أو الإصغاء والإنتباه، فيقدر له الوالدان ذلك النضج ويكافأنه بالانتباه والإصغاء، أو قد يصبح مهرجاً لطيفاً يستخدم أساليب مضحكة مسلية للحصول على ما يريد دون أن يخل بالقواعد التى تم الإتفاق عليها، لكن بعض تلك الوسائل قد يكون مزعجاً مثل الاحتجاج أو استخدام العنف او العناد
وعندما تعن الحاجة للحب فإن الإنسان يتفنن فى لفت انتباه الناس إليه حتى يتمكن من إشباع حاجته، فالطفل يتعلم فى وقت مبكر من عمره كيفية جذب انتباه والديه أو معلميه إليه بوسائل مبتكرة، قد يكون منها الصحى كالتودد والطاعة والسلوك المهذب وخفة الدم، وقد يكون منها غير الصحى كالعناد والمشاكسة والفعل السخيف من باب (خالف تعرف) لكن القاسم المشترك لهذه الوسائل هو أنها تهدف فى نهاية المطاف إلى تلقى نظرات الإهتمام التى يحتاجها الفرد والتى تدخله فى دائرة الضوء وتشعره بالأمن والانتماء إلى من يهمه أمرهم.
إنه شيئ أليم أن يعيش الطفل أو المراهق بين من لا يعرف قدرة، ولعل هذا هو داعى الشباب للهروب من بيئاتهم، والإنضمام الى مجاميع وزمر قد لا يرضى عنها والديهم. لما تفقد سيدنا “سليمان” عليه السلام الطير فلم يجد الهدهد (لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه) روى أنه عليه السلام قال لأجعلن الهدهد يعيش بين من لا يعرفون قدره.
إن أسوأ حياه يمكن أن يعيشها الإنسان هى الحياة التى تكون بين من لا يعرفون قدره ولا يقدرون بأسه، وما يمكن أن يستطيع انجازه أو تقديمه لهم ، إنها حياه تدعو من يحياها الى التمرد أو الانسحاب والسلبية.
أخطر ما يضعف مجتمعاتنا هو سوء ظن الكبار فى الصغار، وسوء توقعات الصغار من الكبار، ولردم الهوة، على الكبار أن يغيروا نظرتهم للجيل الجديد ويستبدلوا النقد والتركيز على الأخطاء بالتشجيع والتقدير والتركيز على الحسنات، والمشاركة فى الرأى عند اتخاذ القرارات.
بالنسبة للصغير لا سبيل لتنشئته تنشئة محترمة، إلا باحترام من حوله من الكبار والصغار له، كما أن الكبار بما يشكلون من سلطات مهيمنة على شخصية الصغير سيكون لهم أبلغ الأثر فى إعمار نفسية الصغير أو تدميرها.
مع مرور الوقت وتكرار توجيهات الكبار وملاحظاتهم بضرورة التأدب واختيار الألفاظ عند الحديث مع الأخرين، يعرف الطفل أن ليس كل ما يقوله أو يفعله يحظى بقبول الأخرين أو ترحيبهم، فيتعلم عندها إخفاء بعض من مشاعره وكبتها واختيار كلمات مناسبة للتعبير عما يريد.
خوف الطفل من خسارته لمحبة والديه واعجابهما به هو الذى يلجئه للكذب مبكرا، وانفعالات الوالدين واشاراتهما الغاضبة ستلجىء الطقل إلى حماية نفسه بتغيير الحقيقة.
أطفال الرضاعة الطبيعية والذين أكثرت امهاتهم من احتضانهم خلال تلك الفترة هم اقل مشاكسة، واكثر تفهما لتوجيهات الأم ، بل وجد أن أمهاتهم يوجهنهم بأقل قدر من الألفاظ وذلك لفرط التناغم النفسى بينهن وبين أطفالهن
كما أن من الأمور التى تجعل الحوار جادا هي إشعار الطرف الأخر بأهميته وأهمية ما يقول، وذلك بضبط ردود أفعالنا وجعلها لا تحتمل أى تأويل إلا الاحترام والاستيعاب لما يقال والتفهم له ، كما يجب أن تنم تعبيرات وجه الوالد وهيئته العامه على التقدير وتقبل المشاعر التى تتدفق مع حديث الطفل ولا يعنى تقبلنا لمشاعر الطفل أننا نوافق عليها بل أننا نتفهمها.
عندما نصر على نفس التصرف فى المكان الخطأ أو السياق الخطأ أو الوقت الخطأ دون مزيد بحث عن بدائل أو مخارج منقذة هو افتقاد للمرونة وحبس الذات فى المألوفات. إن هذه المألوفات سجون علينا الخروج منها إلى الأفكار الجديدة
يمثل نموذج الوالد الذى يواجه تصرفات ابنائه الخاطئة بانفعال غير منضبط من غضب مجنون أو حزن دفين أو حتى استخفاف فرح، نموذجاً شائعاً فى هذا الزمن، مثل هذا الوالد ( أباً كان أم أماً) سيتضح له مع مرور الوقت أن انفعاله غير المنضبط مع ابنائه لن يغير من سلوكياتهم المستقبلية، بل على العكس سيرى رأى العين أن ضبطه لأبنائه سيقل مع مرور الزمن، بل إن انفلات انفعاله منه سيحول الأبناء إلى متمردين يعرفون كيف يتحكمون بوالدهم عن طريق إثارة أعصابه ودفعه إلى تصرفات تضعف موقفه وتجعله يندم عليها بشكل واضح.
يقوم ذالك الوالد بتكرار انفعاله غير المنضبط مرات ومرات وفى كل مره ينفعل فيها يزداد ضعفا ويزداد ابناءه مناعة ضد انفعاله دون أن يتمكن من كسر تلك الحلقة التى يدور فيها أو الخروج منها
ما يجرى فى بعض البيوت من فقدان الوالد السيطره على ذاته والنزول الى مستوى المهاترات والجدل العقيم مع ابنائه، يدل على عدم انزال ذلك الوالد ذاته الوالدية منزلها الملائم، والذات عندما لا تنزل منزلها المعتبر فإن صاحبها يشعر بالضعف والتهديد والشتات الذى سيؤدى الى ضعف التحكم وسيلتقط الأبناء إشارة ضعف والدهم وسيقومون بالعبث فى النظام التربوى بما تمليه عليهم رغباتهم الكثيرة وشهواتهم المتحفزة المتوثبة غير الناضجة
قد تكون أنت سبب المشكلة التى تشكومنها، فالأبناء لا يفتعلون المشاكل بل إنهم يبتكرون حلولا للخروج من مشاكل يتصورون بعقولهم البسيطة أن الكبار هم سببها، فالطفل الشقى أو العنيد هو طفل قد ضاقت به السبل من قلة اعتبار الكبار وقلة تقديرهم له لكنه نجح أخيراً فى الحصول على تقديرهم ولفت الانتباه عن طريق الشقاوة والتمرد والاحتجاج والعناد.
ابناؤك يجربون حظوظهم معك للحصول على ما يمكنهم نيله من غنائم مثل تكييف النظام الأسرى الذى ساهموا معك فى وضعه وإقراره وتوجيهه لصالح رغباتهم وشهواتهم إن استطاعوا، أو التحكم فى نقاط ضعفك ومعرفة جوانب اللين فى شخصيتك حتى يتمكنوا من استثمارها عند الحاجة إليه.
ومثل تلك التجارب الطفولية لا اعتراض عليها ولا تعتبر مخالفة للمألوف، فالإنسان بشكل عام والطفل بشكل أخص مجبول على حب الخير لنفسه واتباع ما يحقق رغباته.
والندية هى أسوأ ما يمكن ان نتمناه للوالد، فظاهر التحدى والصراخ وفقدان التحكم بالأعصاب هى مما يجعل الأبناء خارجين على النظام الأسرى، وخروج الأبناء على النظام الأسرى هو باب كل شر مستقبلى.
نود أن يفهم الأباء والمربون القصة الكاملة ويستوعبوا السياقات والضوابط الصحيحة لمشاركة الأبناء فى القرارات التى تخصهم، فالقرارات ليست بمستوى واحد، فهناك منها ما يختص بقضايا مصيرية، أو قضايا مفصلية، وهناك ما يختص بقضايا ذوقية، أو معياريه اجتماعية، وهناك منها ما يتناول قضايا ذوقية شخصية، وهناك منها ما يمس الفرد وحده، ومنها أيضا ما يشتمل دائرة أوسع وأشمل.
يختلف مفهوم العداله عند الأطفال تبعا للمرحلة العمرية التى يمرون بها
فالعدالة لطفل الثالثة تعنى:
أن تظهر صادق مشاعرك للطفل وأن تظهر قبولك لمشاعره وأن تتفهم معاناته عندما تواجهه صعوبات خلال لعبه او لبسه لملابسه أو محاولاته للبس حذائه
أن تجعله يختار وأن تلزمه باختياره حتى وإن غير رأيه لأن أحد أهداف التربية لدينا هى تدريب الطفل على تحمل المسؤولية والمسؤولية هى تقبل نتائج القرار مهما كان
وأيضا تشجيع مبادراته الكثيرة دونما إفراط فى تزيين المجازفة له، لأن بعض مبادراته قد تكون خطره.
وأيضا تحمل الكبار لفجاجة منطق الطفل، والسخاء فى الإجابه على اسئلته الكثيرة والمتكررة، ذلك لأنه لا منطق حقيقى لديه، وإنما يتصف تفكيره بالضبابية واعتلال المنطق، لهذا تسمى المرحلة العقلية التى يعيشها بالمرحلة الحدسية.
إن تمام العدل مع الفتى أو الفتاه إنما يكون فى إشباع حاجاتهما للإنتماء الى نظام أسرى راقى، ونظام مدرسى، راقى ونظام اجتماعى راقى، والرقى بحسب تعريف المراهق يكون فى التفهم والاصغاء والتعاطف ، كما يكون بتقدير االجهود التى يبذلها المراهق.
إن المراهق مع كل ما يظهره من رغبة فى التفلت من القيود الوالدية أو المدرسية لن يحترم من يسايره فى رغباته وشهواته على كل حال بل إنه فى أعماقه وبما يفهمه عقله المتطور عن تجاوزه لمرحلة الطفولة والتمركز الشديد حول الذات الرافض للقيود، سيحترم القائم على النظام الذى يصر على انقاذ نظامه وبالذات أن كان ذلك النظام قد بنى على الشورى واستفتاء اراء الأفراد فيه.
من العدل مع المراهق استخدام منطق مجرد واضح حليم حكيم، وأعنى بالحكمة أن نكون مقتنعين ومسلمين بشراكة المراهق لنا فى بناء النظام ، فإننا عندما نظهر للمراهق حاجتنا له وعدم استغنائنا عنه ونستثمر كل مناسبة لإظهار أهميته فى بناء النظام وتكريسه، فإننا سنعطى المراهق أماناً وطمأنينه بعدالة منهجنا وأنظمتنا ، وبذا تستحق من المراهق بأن يصفنا بالذكاء وهى صفة لا يخلعها المراهق على كل من حوله من الكبار، لأنه يعتقد والحق يكون معه أحياناً بأن معظمهم أغبياء متخلفون
القضية خطيرة فعندما لا يستمعان له، فإن هناك من سيعطيه أذنا مصغية ومن يعطى الأذن سيأخذ فى العادة الحب والولاء .