في ذكرى الهجرة
[تفريغ كلمة صوتية للعلاّمة سيد قطب/ 1952]
إذا كنا نحتفل بيوم الهجرة فيجب أن نحاول أن نكون جديرين بالاحتفال بهذا اليوم، يجب ألا يكون احتفالنا بالهجرة النبوية ككل احتفالٍ بذكرى من ذكريات الأرض، أو بعملٍ من أعمال الناس، إنما يجب أن يكون لهذا الاحتفال طابع خاص، وأن يكون لهذا الاجتماع جوٌ خاص وأن نُهيئ نحن أنفسنا لنكون جديرين بالاحتفال بمثل هذه المناسبة الكريمة..
ولن نكون جديرين بأن نحتفل بيوم الهجرة إلا حين نرتفع بأرواحنا، وحين نرتفع بأخلاقنا، وحين نرتفع بأعمالنا، وحين نرتفع بقيمنا إلى هذا المستوى الشامخ، إلى هذا القَدْر الرفيع… قَدْر الهجرة النبوية الشريفة.
كيف نتدارس السيرة؟
إن سيرة الرسول-صلى الله عليه وسلم-وسيرة هذا الإسلام لا يجوز أن تكون تاريخًا يُتلى، ولا أن يكون احتفالاتٍ تمضي، إنما يجب أن يكون حياةً تُعاد وأن يكون واقعًا يُحقق، فما جاء هذا الإسلام ليكون تاريخًا، وما مضت أيام الرسول-صلى الله عليه وسلم-لتكون ذكرى، إنما جاء هذا الإسلام ليكون واقعًا حيًا في تاريخ المسلمين، وإنما مضت هذه الأيام لتكون فيها-إلى الأبد-أُسوةٌ وقدوةٌ لمن يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كيف يكون الاحتفال؟
يجب إذا حاولنا أن نحتفل بعيد الهجرة أن نرتفع بأنفسنا إلى مستوى الهجرة… أن نرتفع بأرواحنا إلى مستوى الهجرة… أن نرتفع بواقعنا إلى مستوى أيام الهجرة… فهذا الإسلام قديرٌ جاهز على أن يحقق ما حققه مرةً في تاريخ البشرية.
إنه لم يجئ لزمان، ولم يجئ لمكان، إنما جاء للزمان كله… وجاء للأرض كلها… وجاء للبشرية كلها، فإذا شئنا نحن اليوم أن نحتفل بيومٍ من أيامه فلا يجوز أن نقرَبَ هذا الاحتفال إلا وقد أعددنا أنفسنا كما يُعد المؤمن نفسه للصلاة بالوضوء، وكما يتهيأ بروحه ليقف بين يدي الله.
يجب أن نرتفع إلى إدراك المعاني الكبيرة الكامنة في هذا اليوم الكبير، ومعاني هذا اليوم لا تحصيها ساعة، ولا تحصيها خطبة، ولا يحصيها كتاب، فهي كتاب مفتوح للبشرية منذ 1400 عام، إنما نحاول أن نلخص شيئًا… نحاول أن نُقلِّب في صفحاتٍ قلائل من هذا الكتاب الضخم الذي لم تنتهِ صفحاته على مدى 1400 عام، ولن تنتهيَ صفحاته حتى يرث الله الأرض ومن عليها
{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} .
لا تفاوض على العقيدة
ونحاول أن نجمع كلمات قلائل من تلك الكلمات التي لا تنتهي، أن نقلب صفحات قلائل من تلك الصفحات التي لا تنتهي، فنجد الصفحة الأولى من صفحات هذا اليوم المجيد في تلك الكلمات الخالدة… تلك الكلمات التي فاه بها لسان محمد-صلى الله عليه وسلم-وقريش بعظمائها بسادتها بكبريائها تَقدُمُ إلى بيت عمه أبي طالب تطالبه في أمر محمد إن كان يريد مالًا أعطَوه، وإن كان يريد سيادةً سودوه، فإذا بتلك الكلمات القلائل تخط أول صفحة من الصفحات المشرقة الكريمة في تاريخ تلك الدعوة
«والله يَا عْم لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ».
بهذه الكلمات تبدأ تلك الصفحة الكريمة… لم يكن محمدٌ-صلى الله عليه وسلم-مضطرًا أن يهاجر، ولم يكن محمدٌ-صلى الله عليه وسلم-مضطرًا أن يغترب، لو أنه أخذ المال، ولو أنه أخذ الجاه، ولو أنه استجاب لتلك الدعوة: “إن كان يريد مالًا أعطيناه، وإن كان يريد سيادةً سودناه” ولكن محمداً كان يريد ما هو أعظم… ما هو أعظم من الشمس توضع في يمينه، ومن القمر يوضع في يساره، كان يريد ما هو أعظم من هذا الكون… ما هو أعظم من هذه السماوات والأرض… ما هو أعظم من هذه النجوم والكواكب، كان يريد عقيدةً تنتصر، وفكرةً تسود، ومجتمعًا يتكون، وإسلامًا يقوم على وجهِ هذه الأرض؛ يُعلم الناس ما لم يتعلموه قبل هذا الإسلام العظيم…
كيف بدأت الهجرة؟
هذه هي الذكرى الأولى… هذه هي الخطوة الأولى التي استصعدنا بها محمد-صلى الله عليه وسلم-في بدء خطواته، فلنوجِّه إليها أنظارنا، ولنوجِّه إليها قلوبنا… ونحن نحتفل بهذا اليوم، إننا وجدنا أن نستطيع لا أن نرتفع هذا الارتفاع، ولكن أن نتطلع إلى هذا الأفق ليدفعنا إليه.
إذا وجدنا في أنفسنا استعدادًا للتطلع، إذا وجدنا في أرواحنا خفةً للتحقيق، إذا وجدنا في نفوسنا زهدًا في مال، وزهدًا في المنصب، وزهدًا في الجاه، لأننا نريد ما هو أكثر من المال، ونريد ما هو أكثر من المنصب، ونريد ما هو أكثر من الجاه، إذا أحسسنا في نفوسنا هذا الإحساس كنا جديرين أن نحتفل بيومٍ من أيام محمد عليه الصلاة والسلام.
دروس من الهجرة
ومنذ اليوم يجب أن نستحضر في أنفسنا هذا المَلحظ فلا نجرؤ على الاحتفال بيومٍ من أيام محمد-صلى الله عليه وسلم-إلا أن نكون على استعداد في ذوات أنفسنا أن نتطلع إلى فعل محمد..
ذكريات النبي ليست سلعةً في السوق
إن ذكريات محمد-صلى الله عليه وسلم-لا يجوز أن ترخُص، لا يجوز أن تصبح سلعةً في السوق، لا يجوز أن تكون مجالًا لأن يحتفل بها كل مَن يحتفل قبل أن يُعد نفسه لهذا المستوى الرفيع… لهذا المستوى الكريم… الذي أعدَّ محمدٌ-صلى الله عليه وسلم-نفسه له وهو يقول: “والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه” .
مَن شاء أن يسلك طريق هذه الدعوة فليعرف أنه لا يأتي إلى المال، وليتأكد أنه لا يؤدي إلى منصب، وليوطد نفسه أنه لا يؤدي إلى جاه في الأرض… وإن كان يؤدي إلى جاه عند الله…
مَن شاء أن يسلك طريق هذه الدعوة، فليعلم أن الوزارة قد تفوته، وأن الإمارة قد تفوته، وأن المال قد يفوته، وأن الجاه قد يفوته، ويبقى له ما هو أكرم من هذا كله… يبقى له وجه ربك ذي الجلال والإكرام.
قولًا ثقيلًا
ومعنى آخر… معنى آخر من معاني الهجرة يجب أن نستحضره في أرواحنا… يجب أن نُعد أنفسنا له، ما قاله سبحانه وتعالى وهو يخاطب رسوله في أول الدعوة، قال له:
{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}
لماذا كل هذا؟ لماذا كل هذا الاستعداد؟ لماذا سَهَرُ الليل؟ لماذا الصلاة ؟ لماذا الاتصال بالله؟
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)… إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا لا في كلماته… ولا في عباراته، فالله سبحانه وتعالى يقول: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} فألفاظ القرآن ميسورة، وعباراته ميسورة، وهذا الثقل في القول ليس في ذات القول، ولكن في التبعة، في المهمة، في الواجب… في المشقة التي يحتملها من يحمل هذا القول الثقيل… { إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا }.
الطريق يُمهَّد بالتضحيات
إن الطريق شاق… إن الطريق ليست مفروشة بالزهور والورود، إن الطريق مفروشة بالأشواك، لا… بل إنها مفروشة بالأشلاء والجماجم، مزينة بالدماء، غير مزينة بالورودِ والرياحين، وهذا هو المعنى الثاني الذي يجب أن نستذكره ونحن نتطلع ونحاول أن نرتفع إلى أفق الهجرة الكريمة، إن سالكه لن يفوته المنصب وحده، ولن يفوته الجاه وحده، ولن يفوته السيادة وحدها-السيادة في هذه الأرض-ولكن سيتحمل قولًا ثقيلًا، وسيحتمل جهدًا ثقيلًا، وسيجتاز طريقًا ثقيلًا؛ فَلْنُعِدَّ أنفسنا لما أعدَّ محمد-صلى الله عليه وسلم-نفسه له؛ لنكون جديرين بأن نحتفل بيوم هجرته.
وكان من الميسور أن يدعو رسول الله-صلى الله عليه وسلم-على قومه دعوة تهلكهم فينتهي، كان ميسورًا أن يدعو كما دعا نوح { أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ } ولكن الرسول-صلى الله عليه وسلم-لم يُلقِ دعوته، ولم يدعُ دعوته هذه على قومه، إنما اختار الطريق الشاق، واختار الطريق الطويل..
الجهاد هو سبيل النجاة
لقد كان نوح يملك أن يدعو على قومه فيهلكهم الله؛ ليبدل الأرض قومًا غيرهم، لأن دعوته موقوتة، لأنه جاء لقوم، لأنه جاء لدين، أما رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فكان يعلم أن دعوته هي دعوة الأبد، وأن رسالته هي الرسالة الأخيرة، وأن السماء وقد تفتحت بنورها إلى الأرض… لن تتفتح بهذا النور إلى الأرض مرةً أخرى؛ لذلك لم يَخترْ أن يدعو على قومه، ولم يختر أن يدعو الله بالنصر فيرتاح في لحظته… إنما اختار طريق الجهاد، لأنه إن انتصر اليوم… إن انتصر نصرًا يسيرًا… إن انتصر نصرًا سهلًا… فمَن يُؤتي أمته، من يُؤتي الأجيال بعده؟
إن أمته يجب أن تُدرب، يجب أن تُعَد، يجب أن تجد فيه قدوة، ويجب أن يكون لها قدوة، في جهادٍ شاق طويل..
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}
لا بد من فدية، لا بد من بلاء، لا بد من امتحان، لأن النصر الرخيص لا يبقى، لأن النصر السهل لا يعيش، لأن الدعوة الهينة يتبناها كل ضعيف، أما الدعوة العصية الصعبة فلا يتبناها إلا الأقوياء، ولا يقدر عليها إلا الأشداء {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّـهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ}
ألا إن نصر الله قريب؟
ألا إن نصر الله قريب؟ ولكن ممن؟ ممن احتملوا البأساء والضراء… ممن جاهدوا وبذلوا… ممن لم يُبقوا في طاقتهم قوةً… ممن احتملوا مشاق الطريق… عندما يبذل الإنسان أقصى ما في طاقته، عندما يصل إلى نهاية الشوط، عندما يلقي بهمه كله إلى الله، بعد أن لم يبقَ في طوقه ذرةٌ… عندئذٍ يتحقق وعد الله { أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ }.
هذه هي الذكرى الثانية… هذا هو المعنى الثاني… هذا هو المعنى الرفيع… الذي يجب أن نُعد أنفسنا له ونحن نتطلع لكي نرتفع إلى ذلك الأفق السامي، ونحن نحتفل بالهجرة الكريمة.