في ذكرى عاشوراء
ماذا بعد أن نجى الله موسى عليه السلام وبني إسرائيل من فرعون وجنوده ؟
” دروس معاصرة لأمتنا ” – بقلم الشيخ محمد الغزالي
عندما كان موسى عليه السلام يكافح لتحرير قومه من ظلم الفراعنة واجه متاعب جديرة بالتأمل، وجل هذه المتاعب كان من قومه أنفسهم!.
أصدر إليهم الأمر أن يرحلوا من مصر فى ليلة موعودة، وأن يستخفوا تحت جنح الظلام متجهين شطر البحر الأحمر، واستجاب اليهود للأمر الذى أصدره قائدهم، فلننظر: أكانوا متلهفين للخروج من مصر؟ أكانوا متعشقين للحرية التى فقدوها؟ والأمان الذى حرموه؟ أكانوا كارهين لجو تُذبح فيه الأبناء وتُستحيا النساء ويُصب فيه البلاء؟.
إن هذا ما يتبادر للأذهان.
غير أن الواقع غير ذلك، فإن بنى إسرائيل كانوا قد ألفوا الدنية واستكانوا للضيم على نحو ما قال أبو الطيب :
من يهن يسهل الهوان عليه .. ما لجرح بميت إيلام!
وقد نبه القرآن الكريم إلى موقف الشعب من القائد الذى يبغى تحريره قال تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) إن بعض الشباب حديث السن سليم الفطرة هو الذى اعتنق رسالة موسى، وقرر أن يقاوم معه الجبروت، ومضى مع أحلام المغامرة ينشد مستقبلا أشرف!.
أما الشيوخ وسواد اليهود فقد قيد مسالكهم الخوف ولم يتحمسوا لدعوة الحرية! وقد انكشفت خباياهم لما قرر فرعون ملاحقة الهاربين من بطشه، وخرج على رأس جيش كبير ليستعيد قوم موسى إلى السجن الذى فروا منه!!.
كانت مطاردة مثيرة، اليهود يشتدون نحو الساحل عابرين الصحراء الشرقية، وفرعون وراءهم يريد أن يدركهم.. ويصف الإصحاح الرابع من سفر الخروج هذا الموقف قائلا: ” فلما اقترب فرعون رفع بنو إسرائيل عيونهم، وإذا المصريون راحلون وراءهم، ففزعوا جدا، وصرخ بنو اسرائيل إلى الرب وقالوا لموسى: هل لأنه ليست لنا قبور فى مصر أخذتنا لنموت فى البرية؟ ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟ أليس هو الكلام الذى كلمناك به فى مصر قائلين: كف عنا فنخدم المصريين لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت فى البرية ؟”.
إن هذا الكلام ناضح بالنذالة والجبن واستمراء الدنية، والواقع أن الشعوب التى برحت بها العلل لا يمكن أن تبرأ من سقامها بين عشية وضحاها، إنها تحتاج إلى مراحل متتابعة وسنين متطاولة من العلاج المتأنى الصبور حتى تنقه من بلائها.
من أجل ذلك قرر المصلحون بعد تجارب مريرة أن الزمن جزء من العلاج..
وقد رأيت بعد تدبر عميق أن الشعب الإسرائيلى أول أمره لم يتبع موسى عن عزة نفس أو صلابة يقين، لعله تبعه عن تجاوب عرقى أو تعصب قبلى، ثم استفاد الأخلاق والإيمان فى مراحل متأخرة.
وملاحظة العقل اليهودى، والتاريخ اليهودى تؤكد هذا الاستنتاج!!
ونحتفظ بهذه النتيجة الآن لنعرف نهاية المطاردة بين فرعون وموسى! لقد صورها القرآن الكريم فى هذه الآيات (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين)
إن الله لم يخذل نبيه، بل سانده بقدرته الخارقة، ولم يترك الجبابرة ليستأنفوا فسادهم فى الأرض، بل أخمد أنفسهم بضربة ما توقعوها قط.
ونظر بنو إسرائيل فوجدوا أنفسهم سالمين على الشاطئ الآخر، كما أحسوا أن قتلة الأمس قد طاحوا، فلا عدوان عليهم بعد!!..
فبماذا استقبلوا هذه النعماء الغامرة؟ وماذا فعلوا لمسديها الجليل؟ لقد تيقظت فى أنفسهم الوثنية، وأعجبتهم عبادة الأصنام! فتقدموا إلى نبيهم فى بلادة هائلة ليجعل لهم صنما! قال تعالى (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين).
وأى فضل أعظم مما تم؟ أن يرثوا الأرض، ويغلبوا العدو، ويُمنحوا فرصة السيادة؟ بيد أن شيئا من ذلك لم يغير خستهم إن أثقالهم النفسية حالت بهم فى مكان سحيق..
وجاء الاختبار التالى، فإن الله لم يكلف اليهود بمحاربة فراعنة مصر – ومحاربة الطغاة مطلوبة حيث كانوا – إلا أن الإسرائيليين كانوا أقل وأذل من ذلك، لقد كلفوا بمحاربة الجبابرة الذين يسكنون فلسطين، ووعدوا بأنهم فى هذه الحرب سوف ينتصرون…
وجزع اليهود لهذا التكليف، ولم يطمئنهم هذا الوعد!! إنهم أحرص الناس على حياة، وهيهات أن يعرضوا أنفسهم لخطر! كيف يطلب منهم قتال؟.
يقول لى الأمير بغير جرم: .. تقدم!. حين تجذبنا المراس!
فمالى إن أطعتك من حياة .. ومالى بعد هذا الرأس!
جاء فى القرآن الكريم على لسان موسى (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها).
ووصف التوراة حال الشعب اليهودى عندما سمع هذا التكليف فرفعت كل الجماعة صوتها وصرخت! وبكى الشعب تلك الليلة، وتذمر الشعب على موسى وعلى هارون، وقال لهما: ليتنا متنا فى أرض مصر! أو ليتنا متنا فى هذا القفر! لماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف؟.
وكان لابد من قرار إلهى قاطع..
إن هذا الشعب محتاج إلى تربية طويلة الآماد، تكبح جماحه وتقتل رذائله، وتفتح بصيرته على لون آخر من الحياة الرفيعة، والإيمان بالله واليوم الآخر..
فلتكن “سيناء” مصيدة محكمة الجدران يضطرب داخلها، ويعيش وراء حدودها لا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد، وليبق على تلك الحال أربعين سنة!.
أربعين سنة يهلك فيها الذين شاخوا فى الفساد، ويتدبر أمره فى سجنها الطويل من عاشوا لا يفكرون إلا فى مآربهم! وستنضج خلالها الذرية التى آمنت بموسى، وتبلغ مرتبة الرجولة التى تتصرف فى نفسها وفيما حولها…
أربعين سنة يخرس فيها من كانوا يهمسون بالحق فتكمم أفواههم!.
إن الأفراد المدمنين للمخدرات يحتاجون إلى مستشفيات تفنى فيها عاداتهم السيئة وتحيا فيها عادات جديدة تصح بها أجسامهم وأعصابهم، فكيف بأمم تواضعت على تقاليد رديئة وأعراف فاسدة؟.
إن هذه الأمم محتاجة إلى جو جديد تتنفس فيه هواء أنقى، وتسمع فيه إلى دعاة الحق وهم يهدونها سواء السبيل..
وقد طالت المدة على بنى إسرائيل فى “سيناء”! مات فى هذه الفترة موسى وهارون، وتركا وراءهما شعبا يتولى القدر تأديبه، ويتدرج بشتى الوسائل على رفع مستواه.. ولم يكن من هذا بُد ، إن الأمم لا تترك السفوحَ إلى القمم بكلمة عابرة من واعظ مخلص، أو مدرس بصير، الزمن جزء من العلاج.
استوقفتنى فى هذا المعنى فكاهة ذات مغزى : قيل إن ثعلبا جائعا انطلق يبحث عن طعام، فرأى من سرداب طويل إناء مشحونا بما لذ وطاب، فوثب داخل السرداب الضيق وتلطف حتى بلغ الإناء ثم أخذ يكرع منه حتى امتلأ، وحاول العودة من حيث جاء فعجز، لأن بدنه انتفخ فما يستطيع التقهقر! ولقيه فى محبسه هذا ثعلب عجوز عرف القصة من بدايتها، فقال للثعلب الصغير: ابق فى مكانك هذا حتى تجوع وتعطش وتخف وتنحف، وعندئذ تقدر على الخروج! قلت ضاحكا: الزمن جزء من العلاج..
لكن ما تكون عليه حال الدنيا خلال هذا الزمن المفروض؟ إن الجبارين الذين أُمر بنو إسرائيل بمقاتلتهم سيبقون مفسدين فى الأرض ينشرون فى أرجائها الكفر والذل، سيبقون كذلك عشرات السنين! فكيف ترضى الأقدار بهذا العوج؟.
وأجيب: لابد من وارث شريف للحضارة المعتلة! وإذا كان حملة الوحى الإلهى ليسوا أهلا لهذه الوراثة فهيهات أن يقودوا.. سواء حملوا التوراة أو الإنجيل أو القرآن..
وقد تنبأت بأن المدنية الحديثة سوف تبقى عصرا آخر لا أدرى مداه، سوف تبقى مع كفرها باليوم الآخر، ونسيانها الوضيع لله، وظلمها للضعاف والملونين، وتهتكها فى طلب الشهوات بكل وسيلة.
لماذا؟ لأن حملة الوحى يفقدون من الناحيتين الفكرية والنفسية مؤهلات القيادة، بل أعرف ـ وأنا عربى أعيش بين العرب ـ أن لدينا رذائل من نوع آخر لا تقل عن رذائل المعطلين والمثلثين، يستحيل معها أن نكون أهلا للصدارة، بل يستحيل معها أن يقع زمام القافلة البشرية فى أيدينا..