فُرص “الصدمات”..
بقلم/ سكينة إبراهيم
عجيب أمر هذا الحائط “الفيسبوكي” لا يكف عن إخبارنا بكل تلك المآسي المتزاحمة المتتابعة سريعا وبلا فسحة من الوقت للراحة أو التفكير؛ فقط تتصدع الرؤوس وتُقض المضاجع، ويحزن القلب، وتدمع العين؛ فهذا اليوم اختفاء واعتقال عدد كبير من النساء والفتايات، وفي الصباح تفجيرات غير معلومة المصدر، يليها تصفية وقتل بدم بارد لأكثر من أربعين مواطنا بلا حتي جريمة ملفقة أو قضاء هزلي..!!
إن ما يستخدمه الانقلاب هنا ومنذ مذبحة “رابعة” وما سبقها إنما هو السيطرة بإحداث “الصدمات”؛ وهذا الأسلوب بحسب علم النفس:”يُحدث اضطراباً أو خللاَ في البنى والتراكيب وفي الوظائف للفرد أو الجماعة، وذلك لفترة من الوقت قد تطول أو تقصر وفقاً لدرجة شدة الصدمة”؛ حيث تعرف” ريتشمان” الصدمة بأنها:”الحدث السريع والخطير الذي يكون خارج نطاق التحمل الإنساني، ويؤدي إلى صعوبات في الرجوع إلى الحالة الطبيعية السابقة للحدث”. وتُعرف الخبرات الصادمة بأنها :”الأحداث المفاجئة والمربكة التي ينتج عنها عدم قدرة الفرد على السيطرة والتصرف وأخذ القرار المناسب والسريع بسبب الازدياد الغامر أو النقصان الحاد في نشاط المتلقي مما يؤدي إلى توقف مؤقت أو دائم في قدرته على التكيف تبعاً لحدة الخبرات ولمستوى ونوع التدخل” (1).
ولا تتوقف تأثير مثل تلك الصدمات تبعا لعلم النفس علي حدود رد الفعل المباشر تجاهها؛ بل إن تاثيرها قد يستمر وينتج عنه عدد آخر من الأمراض التابعة، فوفقا للدراسات:”يمكن أن تظهر الاضطرابات الناتجة عن الصدمة النفسية بأشكال متعددة، فتظهر شكاوي مثل فقدان الثقة الأساسية وفقدان الثقة تجاه الأشخاص الآخرين بشكل كبير وإجمالي، فقدان القيم والإيمان والآراء…،أحاسيس بالعجز (فقدان المساعدة)، والحزن العميق، إحساس بفقدان الأمل وضياع الإسترشاد، العزلة الاجتماعية، حالة عاطفية بإنعدام الإحساس، ظهور أفكار بالانتحار، اضطرابات في النوم، واضطرابات في التركيز” (2)..وما سبق من أعراض هو بالضبط ما يريد الانقلاب أن يجعلنا نعيش فيه؛ حتي يتخلص من كافة رافضيه إما بالانتهاكات المباشرة والقتل أو الاعتقال، أو بهذا الوابل الغير متناهٍ من العلل النفسية التي يفقد معها البعض القدرة علي الآداء والعمل، يزيد هذا أو ينقص حتي يصل بالبعض بالفعل إلي الانتحار، وهو ما رأيناه للأسف في مجتمعاتنا في الفترة الأخيرة؛ حيث صار الانتحار ولأول مرة ظاهرة في المجتمع المصري نرصد ونوثق أرقامها تباعا يوما وراء يوم..
والحقيقة أن هدف تلك السطور الآن هو التأكيد علي أن تلك الصدمات المتلاحقة لابد أن تكون هي نفسها معاول الهدم في جسد الانقلاب وليس في جسد رافضيه، وهذا إنما يتوقف علي طبيعة ونمط “التلقي” لتلك الصدمات، فنحن جميعا لسنا متساويين في قوانا النفسية حتي نتلقي بشكل متماثل، ويتبدي هذا الاختلاف علي أفضل ما يكون عند تحليل بسيط لردود فعل نفس هذا الحائط “الفيسبوكي” بعد وقوع أية صدمة، فهناك نمط من الجمهور قد اختار وربما كان ذلك بدون وعي منه، أن يفر من أمام مثل تلك الأحداث، ليس لأنها لا تعنيه، وإنما لأنه بشكل لا إرادي قد صار ذا نفسية منهكة؛ بالكاد تحاول التكيف عن ضغوطات الحياة الاجتماعية والاقتصادية الخاصة والمحيطة به والمُجبر علي التعامل معها، وكأن نفسه تٌحدثه بأنه قد خاض غمار معارك الأمة فلم يفز منها بشيء سوي كسر الخاطر وحزن القلب. ومثل هذا “النمط” لا يخفي أنه علي خطر كبير، فكأنه قد خاض تلك الغمرات مراهنا علي الانتصارر فقط، ولم يخبر أن المعارك ذات أوجه متعددة، وأن الانتصار يسبقه كبوات وابتلاءات ولا معني للانتصار الخاتم بدونها.
ومخاطر هذا النمط سلبي التلقي لا يتوقف للأسف عند حدود نفسه بل يتعداها إلي الحالة الثورية ككل، لأنه في الأساس انضمام إلي الجمهور المحايد في موقفه العقدي من الانقلاب، فهو بذلك تكثير لصف القعود ما يؤخر معه انطلاق الشرارة الثورية؛ حيث أن قواعد احتضانها غير مستعدة إما بحياد الموقف من جهة، أو بتعمد الفرار من كل ما هو من شأنه أن يكون وقودا لإشعال الثورات، فالكثير مما مر علينا في الفترة القليلة الماضية كان واحدا منه فقط يكفي لاندلاع ثورة هادرة؛ كما كان اغتيال ولي عهد النمسا عام 1914 شرارة للحرب العالمية الأولي، وكما كان اضرام “البوعزيزي” النار في نفسه عام 2010 سببا لاشتعال ثورة تونس وما تبعها من ثورات الربيع العربي قاطبة، ولكن لأن الثورة لابد لها من جمهور وافر، فقد تأخر موعدها لحين تعافي هذا المتلقي القاصد إلي هدوء البال المَرضي والذي يغمض فيه عينا ملؤها الدمع المحبوس عن التساقط..
أما الفريق الثاني في تلقي الصدمات، فهو لايجد لألمه متنفسا بعمل مناسب مناهض للانقلاب؛ فيوجه سهام حزنه وغضبه إلي الصف الثوري قادة أو أفرادا، ويعلو صوت شجبه ولومه بل وربما زاد علي ذلك بالمطالبة بفعل عنيف أو مدمر. وهذا الفريق مع خالص التقدير لحماسه وشعوره الجارف؛ إلا أن الثورات العاقلة الساعية للبناء تختلف عن الأفعال الطائشة التي تستجيب لنداءات العاطفة المندفعة، وتدفع في ذلك ثمنا باهظا من إصابتها للحرمات والدماء، وهذا الفريق علي خطر أيضا لأنه لن يعدم تسلل مريدي الفتن إلي داخله يطالبون بلسانه بالأفعال الهوجاء، ويلقون معه بالمزيد من العتب والاتهام لأفراد وفرق الثورة؛ ما يعني تحول المعركة ما بين صف ثوري وانقلاب غاشم إلي داخل الصف الثوري نفسه كل فيه يبحث عن مساحات الإدانة والاتهام للآخريين، ولا أظن أن من يندمج في عمل قائم مناهض للانقلاب يصاب بآفة كتلك إلا قليلا؛ فالتواجد وسط المجموع يقلل من حدة اندافع العاطفة من جهة، كما أنه يستهلك الوقت والجهد في البحث عن أعمال أكثر فعالية وجدوي، والأهم من ذلك أن الاقتراب من القوي الفاعلة علي الأرض يسمح بتوجيه التساؤلات بل والعتاب في بيئة هادئة هدفها الفهم والوصول إلي الحقيقة وربما تعديل المسار إلي طرق أفضل وأكثر نفعا؛ بدلا من بيئة “فيسبوكية” صاخبة لا تسع التعبير المناسب عن الحقائق بل والخطط والمساعي المبذولة..
إن الفعل الثوري الذي ننتظره إذن هو نتاج لتحول تلك الأنماط من التلقي لذلك الصنف الذي يبحث عن عمله المناسب وسط الأزمات؛ إن فيلسوف الحضارة والنهضة”مالك بن نبي” في كتابه “تأملات” (3) يري أن جزءا كبيرا من تراجعنا الحضاري أمام ما نواجهه من تحديات يقع في الأساس داخل نفوسنا قبل أن يقع في العالم المحيط، فيقول عن غاية احدي مقالاته :”تخليص القاريء من مركب النقص الذي يعتريه عندما يمنطق عن وعي الصعوبات التي تحيط بحياته الاجتماعية اليوم، إذ هو غالبا يعزو هذه الصعوبات إلي طبيعة المشكلات، عوضا عن أن يعزوها أولا إلي نفسه من الناحية العقلية في إدراكه هذه المشكلات، ومن الناحية الأخلاقية في سلوكه إزاءها”..وهكذا تكون ردود الفعل الواعية العاقلة للصدمات المتلاحقة هي أول الطريق لمناهضة ما يحدث لنا..فعلي أقل تقدير سنحصل من هذا الفهم علي سلامة نفسية تعرف كيف تتحلي بالصبر وتتخلق للأزمة بما يناسبها من فضائل؛ فنضمن بذلك أننا لن نخسر من الجمهور الذي سيحمل يوما ما شرارة الثورة ويسير بها..
وحتي نكون عونا لهذا الجمهور المتلقي للصدمات؛ فربما ثمة قدح بسيط للأفكار يضع أيدينا علي ماهية بعض ردود الفعل المناسبة. وأول وأهم تلك الأفعال إنما هو الاستمرار في الشعور بالمشكلة وعدم تعمد الفرار من أمامها، وإطلاق المسميات الحقيقية علي الأشياء، إن هذه مرحلة لابد منها لأي فعل تالٍ، بل إن الانقلاب ليراهن علي نسيان البعض وتجاوزهم لما يحدث إما بالتقادم، أو بشدة الحسرة، وبالعودة إلي “ابن نبي” في تأملاته فقد لفت انتباهي حديثه عن تلك الحقبة الزمنية التي قد تستغرق جيلا بأكمله حتي الوقوف علي مرحلة الشعور بالمشكلة، ثم جيلا آخر حتي نصل إلي مرحلة ادراك ضرورة آداء واجب تجاه المشكلات والقضايا الكبري، ومن ثم جيلا ثالثا يشرع في الإتيان بهذا الفعل الإيجابي، يقول: “إني أتذكر حياة جدي وقد كان شيخا وديعا،… كان يعيش في طمأنينة واستقرار لا يشعر بأية مشكلة، ..ثم مرت هذه المرحلة وجاء الجيل الذي نبت منه والدي،…إبان الحرب العالمية الأولي، فقد بدأ يشعر بوجود مشكلات، ولقد أذكر في هذه الفترة التي تميزت بالشعور بالقلق، أن والدي كان يعيش في جيل فقد الطمأنينة من نفسه، غير أنه لم يكتسب بعد روح الكفاح والبروز إلي المشكلات وجها لوجه، …وهكذا ولي هذا الجيل لا يعرف الاستقرار، ولكنه أيضا لا يعرف الحركة والاندفاع..” وعن جيله الثالث يتحدث “ابن نبي”:”…فقد شعرنا بوجود مشكلة، وإن هذا الشعور ليعبر دون شك عن حالة نفسية جديدة وهي القيام بالواجب، أعني الخروج من الركود أو الحيرة؛ ذلك الركود الذي كان فيه جدي، وتلك الحيرة التي عاشها والدي…إذن فإنه يمكن لنا أن نعد الصعوبات (من ناحية نفسية) أوضح دليل علي النهضة واليقظة للأمة العربية في هذا الجيل، …ومن ناحية أخري فليس علينا من بأس في أن نستفيد من دراسة من سبقنا في هذا المضمار لنقول مع توينبي:”إن الصعوبات هي تحد خلاق لأنه يستحث الرد عليه”، ولاشك أن الرد لا يمكن أن يكون بغير الكد والتفكير”…
وهكذا فقد خاضت بنا ثوراتنا إذن مرحلة هامة وأساسية نحو النهوض، بل إننا إذا حاولنا أن نحصي ثمار الربيع العربي، لوجدنا أن توصيف المشكلات وفضح الفساد الكامن والمسكوت عنه كان أهم وأثمن تلك المكاسب، ثم تصير الصدمات -بحسب “ابن نبي”- فرصة طالما شعرنا بها في مرتبة القلق الصحي الذي لا يفر ولا يجزع، ولكنه يكد ويفكر ويكدح من أجل أفضل المواجهة..
إن التحول بالجمهور بعد ذلك إلي أفعال أكثر إيجابية ليس بالأمر العسير، المهم أن يكون هذا الجمهور من الفطنة كي يعي أن عليه يقع عبء التحول عن نظرية “جوستاف لوبون” في تفسيرها للسلوك الجماهيري؛ لأنه: “يعترف بدور اللاوعي في حسم سلوك الجماهير”، ويري أن:”هناك تطابقا بين الجمهور، والأعمال المتطرفة التي تصحب الثورة أو ترافقها” (4)..ومن ثم فالتحرر من هذا القيد الوصفي لسلوك الجماهير، والوصول به إلي حالة من النضج في الحركة يستحق معها وجود خصائص ديناميكية داخله تجعل فعله ذا تأثير أكبر من مستوي مجموع الأفراد، فهذا رهان خاص يقع عبء إثباته علي الثورة المصرية والتي قد اجتازت بالفعل في ذلك السبيل خطوات غاية في النجاح تمثلت في هذا الشكل الحضاري النادر الحدوث الذي ظهرت عليه ميادين التحرير و رابعة، الأمر المرشح للإستمرار حتي تكتمل التجربة ويُقدم النموذج والمثال الذي تنتظره شعوب أخري كثيرة..
الهوامش:
(1) عائدة عبد الهادي حسنين،:” الخبرات الصادمة والمساندة الأسرية وعلاقتها بالصحة النفسية للطفل”، بحث ماجيستير 2004، الجامعة الإسلامية، غزة، ص 7،8
(2) رمضان سلمان:”دليل إرشادي بلغات عدة للمغتربات والمغتربين، الاضطرابات الناتجة عن الصدمة النفسية والاضطراب المجهد بعد الصدمة النفسية: الأسباب والتداعيات والمساعدات، ضمن أعمال مشروع MiMiK، علي صفحة الشبكة: www.ethnomed.com، ص 8.
(3)مالك بن نبي:”تأملات”،دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1979، ص 12، 13، 20،21.
(4) من مقدمة “أوتو كلينبيرج” لكتاب “سيكولوجية الجماهير”لـ “جوستاف لوبون”، طبعة مؤسسة اقرأ، القاهرة، 2015، ص 3.