ان كان المصريين لم ينسوا جريمته فهل يغفر الله له بعد أن اقر بذنبه و طلب العفو و الغفران ؟!
تعود القصة الي صباح يوم 23 يونيو 1906 عندما تراهن خمسة ضباط إنجليز على صيد الحمام بجوار قرية دنشواي بالمنوفية المشهورة بكثرة حمامها بدعوة من عبد المجيد بك سلطان أحد أعيان القرية ..
تشاء الأقدار أن يتوغل إثنان منهم ” بورثر و سميث ” داخل القرية حيث كان الحمام عند أجران الغلال يلتقط الحَب . صوب بورثر بندقيته إلى جُرن الحمام الخاص بالشيخ محمد عبد النبي مؤذن البلدة ، فقدت ” أم محمد “زوجة الشيخ وعيها بعد أن أصابتها خرطوشة بارود ، إندلعت النار في التبن بفعل البارود المشتعل ، وتجمع الأهالى على صراخ الشيخ محمد عبد النبى ” الخواجة قتل المرة وحرق الجُرن ، الخواجة قتل المرة وحرق الجُرن “..
هرب الإنجليز خوفا من بطش أهالى دنشواى ،وصل الخفراء لنجدة الضباط الإنجليز , فتوهم الضباط بأنهم سيفتكون بهم فأطلقوا عليهم الرصاص و أصابوا بعضهم فصاح الجمع “قتل شيخ الخفر” و هجموا على الضباط الإنجليز بالطوب العصي ، ألقى الخفراء القبض على ثلاثة من الضباط و أخذوا منهم الأسلحة ، وهرب اثنين منهم وهما “كابتن” الفرقة و طبيبها اللذين أخذا يعدوان في الحر الشديد ، وعلى مشارف بلدة سرسنا التى تبعد ثمانية كيلوا من دنشواى وقع “الكابتن” مغشيا عليه ومات بعد ذلك متأثراً بضربة شمس ..
القي القبض على عشرات الفلاحين ، واحيلوا إلى المحاكمة بتهمة القتل العمد طبقاً للقانون العرفي الصادر سنة 1895 لحماية أرواح قوات الاحتلال البريطاني .
بناء على الاتهام المقدم من محمد شكري باشا مدير المنوفية ضد أهل دنشواى ، صدر قرار بتشكيل محاكمة خاصة برئاسة بطرس باشا غالي نيروز ناظر الحقانية و عضوية كلٍ من أحمد فتحي بك زغلول شقيق سعد باشا زغلول الذي جلب له العار طلية حياته و كان رئيس المحاكم الأهلية ، وتولى إبراهيم بك الهلباوي نقيب المحاميين في مصر الادعاء في المحاكمة التي استمرت من 24 إلى 27 يونيو .
و في مستهل دفاعه عن الانجليز ضد بني وطنه وقف الهلباوي في المحكمة قائلا (إن الاحتلال البريطاني لمصر حرر المواطن المصري و جعله يترقى و يعرف مبادئ حقوقه المدنية والسياسية وإن هؤلاء الضباط الإنجليز كانوا يصطادون الحمام في دنشواى ليس طمعًا في لحم أو دجاج ولو فعل الجيش الإنجليزى ذلك لكنت خجلًا من أن أقف أدافع عنهم)
ووصف الهلباوي الفلاحين في ادعائه قائلًا : ( ان هؤلاء السفلة وأدنياء النفوس من أهالي دنشواى قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصى والنبابيت وأساءوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز 25 عامًا بيننا و نحن معهم بكل إخلاص واستقامة).
قرارات محكمة العار :
إعدام أربعة متهمين ، هم : حسن علي محفوظ، يوسف حسني سليم، السيد عيسى سالم ، ومحمد درويش زهران . كما قضت المحكمة بالأشغال الشاقة المؤبدة على اثنين – هما محمد عبد النبي وأحمد عبد العال محفوظ- و السجن 15 سنة على أحمد السيسي، والأشغال الشاقة لمدة 7 سنوات على 6 آخرين ، غير أحكام أخرى بالجلد 50 جلدة على 8 من أهل القرية .. تم تنفيذ أحكام الإعدام و الجلد يوم 28 يونيو 1906
القهر يٌولد العنف :
بطرس باشا غالى .. لم تكن دنشواى أخر جرائمه ، تلاها محاولته بيع حصة مصر من قناة السويس للإنجليز ثم فتحه للإنجليز خزانة مصر لإحتلال السودان .. تم إغتياله عام 1910 على يد إبراهيم الوردانى عضو الحزب الوطنى وقتها .
أحمد فتحى زغلول .. الشقيق الأصغر لزعيم الأمة سعد زغلول ، بدأ حياته السياسية ثوريا و كان من خطباء ثورة عرابى و عندما فشلت واحتل الإنجليز مصر فُصل من المدرسة بقرار من وزير المعارف ، فقام بتغيير اسمه ( من فتح الله إلى فتحى ) والتحق بمدرسة الألسن ثم سافر لدراسة القانون في اوربا ، وعندما عاد لمصر إرتبط بعلاقة صداقة باللورد كرومر ، لم تكن تربطه علاقة جيدة بأخيه سعد، ترجع إلى عوامل الغيرة والتنافس ، وكان يرى أن أخاه سبب في الحيلولة دون ترقيته إلى الوزارة ، وكان يعتقد أنه يتمتع بمواهب وقدرات تفوق سعد ، و قد تبرأ سعد باشا زغلول منه بعد قرار المحكمة و قاطعه نهائيا .
إبراهيم بك الهلباوى .. أول نقيب للمحامين ، الملقب بـ جلاد دنشواى بعد أن هجاه حافظ إبراهيم قائلا (أنت جلادنا فلا تنس أنا .. لبسنا على يديك الحدادا ) .. رغم تاريخه الثورى الكبير ومحاربته للإستعمار ، وخطبه النارية التى كانت تستنهض الهمم ، لكنه وقع فى هفوة لم يغفرها له المصريون عندما وافق أن يكون محامى الضباط الإنجليز ضد المصريين بأتعاب 300 جنية ، يقول الأديب يحيى حقي : “كان الهلباوي يخطب في سرادق ضخم ازدحم فيه أنصار حزب الأحرار الدستوريين من أجل تخليص البلاد من يد المحتلين ، وقوبل خطابه بالهتاف والتصفيق ، و امتلأ الرجل ثقة و زهواً وظن أن الدنيا قد صالحته ، و لكنه لم يكد يفرغ من خطابه حتى ارتفع صوت في آخر السرادق يهتف “يسقط جلاد دنشواي” ..
و اخيرا كانت من محاولات الهلباوى للتكفير عن ذنبه
أن إنتدب نفسه مدافعا عن إبراهيم الوردانى الذى إغتال بطرس باشا غالى وأثناء مرافعته عن الوردانى قال : “لقد كان الحكم في قضية دنشواي بإجماع المصريين حكماً قاسياً لا يستحقه المتهمون ، وكان تنفيذه فوق ذلك أكثر استحقاقاً للسخط .
لا فائدة في القول , أن جميع المصريين الذين شاركوا في هذه المحكمة قد كرههم مواطنوهم و احتقروهم – ولربما استطاع أحد المدافعين في القضية الحالية أن يؤكد ذلك أكثر من غيره ، لكنا لسنا هنا في مقام التوجع ولا الدفاع عن أنفسنا.. لقد جئنا إلى هذه القاعة للدفاع عن الورداني
(جئت للدفاع عن قاتل القاضي الذي حكم على أهالي دنشواي بالإعدام ، جئت مدافعًا أستغفر مواطنينا عما وقعت فيه من أخطاء شنيعة ، اللهم أني أستغفرك و أستغفر مواطنينا )
ورغم ذلك ظل الهلباوى مكروهًا من المصريين حتى رحل عن دنيانا بانتظار يوم تجتمع فيه الخصوم بين يدي الواحد الديان الذي لا يظلم عنده احدا .