الصحابي الجليل جُليْبِيب-رضي الله عنه-ليست له أسرة معروفة، ليس عنده مال، ولا منصب، ولا شيء، فقير، رثّ الثياب، دميم الخِلقة، حسن الخُلق، وكانت فيه دعابة، وكان عزبًا، يشرب بكفيه من المياه الجارية أو يغترف من الآبار، يأكل كسرات خبزٍ إن وجد، فإن لم يجد يطوي صائمًا، ينام وفراشه الأرض ولحافه السماء، وليس له من مخدة إلا نعليه في فناء مسجد النبيّ-صلى الله عليه وسلم-.
مرّ يومًا والنبيّ-صلى الله عليه وسلم-جالسٌ بين أصحابه، ينظر إلى هذا الرجل-أي جُليْبِيب-بهذه الحالة، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-لأصحابه: أتعلمون من هذا ؟! وإذا بأغلب الصحابة لا يعرفون اسمه. إن حضر لم يُعرف وإن غاب لم يُفتقد ومن يحفظ اسم رجلٍ كهذا!
فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: إنه جُليْبِيب، ثم نادى به: يا جُليْبِيب ألا تتزوج؟ فنظر جُليْبِيب إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-لم يتفجع، لم يتأوه، لم يقل يا رسول الله ما عندي دنيا ما عندي مال، إنما ما زاد على أن قال: يا رسول الله ومن يُزوِج جُليْبِيب في الدنيا ولا مال ولا جاه!!
يعرف أن الناس ما زالوا يُحكمون بهذه المقاييس، إنه ينتظر زواج الآخرة. فتركه النبيّ-صلى الله عليه وسلم-. وفي اليوم الثاني؛ ناداه وهو يمرّ: يا جُليْبِيب ألا تتزوج؟ فقال له جُليْبِيب-رضي الله عنه-: يا رسول الله ومن يزوج جُليْبِيب في الدنيا ولا مال ولا جاه!!
ثم في اليوم الثالث قال: يا جُليْبِيب ألا تتزوج؟ فالتفت مستغربًا من نداء النبي-صلى الله عليه وسلم-ثم قال
قلت لك يا رسول الله من الذي يزوج جُليْبِيب ولا مال ولا جاه!!
قال له النبي-صلى الله عليه وسلم-: يا جُليْبِيب اذهب إلى بيت فلان الأنصاري، واخطب ابنته وقل أرسلني رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ويقول لكم: زوجوني ابنتكم-وكانت الفتاة من أجمل نساء الأنصار-. فذهب جُليْبِيب وطرق الباب حيث أرسله النبي-صلى الله عليه وسلم-ثم قال: يُسلم عليكم النبي-صلى الله عليه وسلم-ويقول لكم زوجوني ابنتكم.
فقال الأب: يا جُليْبِيب لا مال ولا جاه!! كيف نزوجك ؟! وصاحت الأم لزوجها: أيُزَوَج جُليْبِيب وهو على هذه الحال ولا مال ولا جاه؟!! وابنتنا في موقعها وموضعها التي هي فيه، فكما قلنا إن هذه الفتاة كانت من أجمل نساء الأنصار.
تسمع الفتاة المؤمنة-فتاة العقيدة، فتاة التوحيد، فتاة القرآن والسنة، فتاة قيام الليل، ليست فتاة التلفاز فيما لا يفيد، وليست فتاة قارعة الطريق والمتنزهات-تسمع الفتاة المؤمنة هذا الحديث في سِترها، فتصرخ بوالديها من الداخل، كيف هذا! أتردّان رسول رسول الله!! فوالله إني أجزت زواجي، وإني قبلت به زوجًا. قالوا: يا ابنتاه انظريه، انظري شكله، انظري هندامه، انظري ثوبه، فلا مال ولا جاه. فردت الفتاة المؤمنة: والله لا أردّ خاطبٌ أرسله النبي-صلى الله عليه وسلم-.
وهذا هو سلوك المؤمنين المؤمنات مع أوامر الله وأوامر رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فقد قال الله تعالى:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام حينما علم أنها قبلت به دعا لها، فقال: “اللهم صُبَّ عليهما الخير صبًا، ولا تجعل عيشهما كدًا كدًا”.
ويُحضر جُليْبِيب لعرسه تلك الليلة، وبينما مراسيم الزفاف على بساطتها تُعقد، إذ بمنادي الجهاد يصرخ في الخارج: “يا خيل الله اركبي يا خيل الله اركبي” ، فإذا بجُليْبِيب-رضي الله تعالى عنه-يترك عروسه في زينتها، في حُلتِها ليلة الزفاف، وإذا به يسحب يده كأن عقربًا لدغته، وينطلق كالسهم من الرمية، ويلتحق بصفوف الجيش نحو الغزوة، ويقاتل مع الذين يقاتلون، وتنجلي المعركة، ويأتي النبي-صلى الله عليه وسلم-ويتفقد أصحابه من الشهداء، فيعدد الصحابة كل الناس إلا جُليْبِيب لا يذكره أحد، قال:
ألا تفقدون حبيباً ؟ قالوا: من؟ قال: أفقد حبيبي جُليْبِيب.
ويبحث عنه النبي-صلى الله عليه وسلم-فيجده وقد تلوث بالدم وأصيب بجراحات بليغة، وصار وجهه من طيب الأرض وترابها، فينفض النبي-صلى الله عليه وسلم- التراب عن وجه جُليْبِيب، ويضع رأسه على فخذه الشريف، ثم قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: جُليْبِيب قتلت سبعًا من الكفار ثم قُتلت، أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك، ثم أشاح عنه برأسه-صلى الله عليه وسلم-يميناً. قال: أتدرون لِمَ أشحت بوجهي يمينا؟ قالوا: لِمَ يا رسول الله؟ قال:
والله رأيت زوجاته من الحور العين يتسابقن إلى احتضانه، وأعرفه رجلًا غيورًا، فأشحت بوجهي حتى لا يغار.
وفي مسند الإمام أحمد أن النبي-صلى الله عليه وسلم-دعا لزوجته فقال: “اللهم صبّ عليها الخير صبّاً، ولا تجعل عيشها كدّاً كدّاً”. قال ثابت: فما كان من الأنصار أيم-ثيب-أنفق منها!!
جُليْبِيب لا مال ولا جاه، ونحن بكل جاهنا، بكل مالنا، بكل حُلَلِنا، بكل مالنا؛ ماذا فعلنا؟!!
فيا أيها الحبيب؛ ثمنك وقيمتك هو حُبك لربك، اتباعك لنبيك، تعلقك بدينك، خدمتك لأمتك، فلا تزدري نفسك، ولا تنصت إلى أولئك المُخذِّلِين، لا تنصت إلى هذا الهمس الشيطاني، الذي يقول لك من أنت؟ وماذا يمكن أن تصنع؟
فلا تزدري نفسك وكن جُليْبِيب وقتك، فما أحوج الدين إلى أمثال جُليْبِيب، ما أحوج الإسلام إلى أولئك الذين يتحركون غمارًا أغمارًا، إن حضروا لم يٌعرفوا، وإن غابوا لم يُفتقدوا، فمنذ أعوام وعقود تنادي الأمة بكل جراحها، وتنادي العقيدة بكل آلامها، ينادي الأقصى وينادي المستضعفين من أهل السنة في مشارق الأرض ومغاربها، من فلسطين وبورما وأفغانستان واليمن ومصر وسوريا والعراق ومالي ونيجيريا وطاجيكستان وقيرغيزستان، وغيرها الكثير تنادي دماؤنا وأعراضنا : “يا خيل الله اركبي” ولكن لا خيل لله تُركب إلا من رحم ربي ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكن جُليْبِيب وقتك واستعن بالله على ذلك، رزقنا الله وإياك خدمة دينه ونصرته.